الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع الحكم التكليفي للوقف
اتفق الفقهاء القائلون بمشروعية الوقف في الجملة على أنّ الحكم العام للوقف أنه قربة من القرب المندوب إليها
(1)
؛ بدلالة نصوص كثيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة؛ إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
(2)
.
وقد حمل العلماء الصدقة الجارية المستمرة الثواب بعد الموت المذكورة في الخبر على الوقف
(3)
، وقال البغوي:"هذا الحديث يدل على جواز الوقف على وجوه الخير واستحبابه، وهو المراد من الصدقة الجارية"
(4)
.
والوقف تعتريه الأحكام التكليفية بحسب حالة المكلف، بمعنى أنه قد يكون واجبًا أو حرامًا أو مكروهًا أو مباح:
(1)
انظر في مسألة أن الوقف مندوبة المهذب في فقه الإمام الشافعي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، 2/ 322، والمبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، 5/ 312، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ("رِسَالَة ابْن أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ" بأعلى الصفحة، يليها مفصولًا بفاصل شرحها "الفواكه الدواني" للنفراوي)، شهاب الدين أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم بن مهنا النفراوي الأزهري المالكي، دار الفكر، 1415 هـ/ 1995 م، 2/ 160، والبحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضي، 5/ 147.
(2)
رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 1631.
(3)
شَرْحُ صَحِيح مُسْلِمِ للِقَاضِي عِيَاض (المُسَمَّى إكمَالُ المُعلِم بفَوَائِدِ مُسْلِم)، أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي، 5/ 373، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، تقي الدين أبو بكر بن محمد الحسيني الحصني الدمشقي الشافعي، 1/ 304، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب، أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، 2/ 458، وسبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، محمد بن إسماعيل الأمير الكحلاني الصنعاني 3/ 87، ونيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، 6/ 28، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، 8/ 86، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، 4/ 521.
(4)
شرح السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، 1/ 300.
فالوقف الواجب هو الوقف المنذور؛ كما لو قال الناذر: إن قدم ولدي؛ فعلي أن أقف هذه الدار على ابن السبيل .. فقدم؛ فهذا نذر يجب الوفاء به
(1)
.
والوقف الحرام مثَّل له المالكية بالوقف الذي آل للكراء المجهول، وهو أن يحبس دارًا على رجل على أنّ عملية بناء ما رثَّ من ماله؛ فإن وقع مضى وسقط الشرط، وبُنيت من غلتها
(2)
.
ومن أمثلة الوقف المكروه كما ذكر المالكية إخراج البنات من الحبس، قال مالك: ذلك من فعل الجاهلية
(3)
.
وقد يكون مباحًا
(4)
، قال البهوتي:"فإن الإنسان قد يقف على غيره تَودُّدًا، أو على أولاده خشيةَ بيعهِ بعد موته وإتلافِ ثمنه، أو خشيةَ أن يُحْجَرَ عليه فَيُبَاعُ في دينه، أو رياءٍ ونحوه، وهو وقفٌ لازمٌ لا ثوابَ فيه؛ لأنه لم يبتغِ به وجه الله تعالى"
(5)
.
وأما تفصيل الحكم التكليفي للوقف عند الإمامية: فإن الحكم التكليفي الأوّلي للوقف عند الإمامية هو الاستحباب؛ وذلك لأمور عديدة:
(1)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 339.
(2)
انظر: لباب اللباب في بيان ما تضمنته أبواب الكتاب من الأركان والشروط والموانع والأسباب، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي المالكي، 291.
(3)
انظر: المرجع السابق، 292، وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، أبو محمد جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي المالكي، 3/ 36، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 79.
(4)
انظر: الذخيرة، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: محمد حجي، دار الغرب، بيروت، 1994 م، 6/ 312، ودقائق أولي النهى لشرح المنتهى المعروف بشرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي، 2/ 397، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 340.
(5)
دقائق أولي النهى لشرح المنتهى المعروف بشرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي، 2/ 397 - 398.
الأول: أن الوقف من الصدقات، فإذا ضممنا إليها أن الصدقة - غير الزكاة وغير الفطر على الغني - مستحبة، نعرف أن الوقف صدقة حكمها الاستحباب؛ لذا ذكر في جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: أن الوقف من الصدقات، وأن الوقف والصدقة شيء واحد؛ ولذا ذكر بعضهم بأن المراد بالصدقة الجارية: الوقف
(1)
.
وقد فصَّل السيّد الخوئي هذا الدليل وأوضحه؛ فقال: "الباب الثاني في الصدقة التي تواترت الروايات في الحثّ عليها والترغيب فيها، وقد ورد أنها دواء المريض، وبها يُدفع البلاء، وقد أبرم إبراما، وبها يُستنزل الرزق، وأنها تقع في يدّ الربّ قبل أن تقع في يدّ العبد، وأنها تخلُف البركة، وبها يقضي الدين، وأنها تزيد في المال، وأنها تدفع ميتة السوء والداء والدبيلة والحرق والغرق والجذام والجنون، إلى أن عدَّ سبعين بابًا من السوء، ويُستحب التبكير بها؛ فإنه يدفع شرّ ذلك اليوم، وفي أول الليل فإنه يدفع شرّ الليل"
(2)
.
وبما أن قسمًا من الوقف صدقة، كالوقف الذي قصد فيه القرية: إذن صار كهذه الصدقة التي تقدمت فيها الروايات والحاثّة عليها، فيشمله استحباب الصدقة التي تقع في يدّ الرب قبل أن تقع بيد العبد، وهو معنى القرية.
وأما الوقف الذي لا يشترط فيه قصد القرية، فهو أيضًا أمر مستحبّ؛ لأنه من المعروف المأمور به؛ ولذا قال السيّد الخوئي:"التوسعة على العيال أفضل من الصدقة على غيرهم"، ثم قال:"ففي الخبر: لو جرى المعروف على ثمانين كفًّا لأجروا كلهم، من غير أن ينقص من أجر صاحبه شيء"
(3)
.
وذكر صاحب الجواهر أيضًا في استحباب الوقف حتى على غير المسلمين من أهل الذمّة أنّه يكفي في ذلك ما دلّ على استحباب الوقف، وأنه من الصدقة الجارية
(1)
انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، 28/ 2.
(2)
منهاج الصالحين، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، نشر مدينة العلم، ط 28، ذو الحجة 1410 هـ، 2/ 255 - 256.
(3)
منهاج الصالحين، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، 2/ 257.
ضرورة عدم الفرق بين متعلّقه ومتعلّق أوامر الصدقة بين المسلم، والذي خصوصًا بعد الخبر "أنّ لكل كبد حرّاء أجر"، وكذا ما دل على الأمر بالإحسان وبالمعروف وفعل الخير .. ونحو ذلك، بل قوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
(1)
.. كافٍّ في ثبوت الحثّ على برِّ أهل الذمة والإقساط إليهم بالمودة، فإنّ الله يحب المقسطين والمحسنين ويأمر بالإحسان
(2)
، وقد ورد عن الإمام الصادق أنه قال:"ليس يتبعُ الرجل بعد موته مِن الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له"
(3)
.
الثاني: ذكر صاحب الجواهر استحباب الوقف؛ فقال: "نعم، قد يُقال باستفادة رجحانه في نفسه عند الشارع على نحو رجحان النكاح، وهو غير اعتبار النيّة فيه على وجه يُلحقه بالعبادات"
(4)
.
الثالث: ذكر جعفر كاشف الغطاء دليل العقل على استحباب الصدقة التي تشمل الوقف؛ فقال: "الأول في فضلها - أي الصدقة - وهو ثابت عقل وشرعًا، بل من ضروريات الدين، وفي القرآن المبين:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}
(5)
"
(6)
.
نعم قد يكون الوقف في بعض الحالات واجبًا "بالعرض"، كما إذا نذَر شخص وقف داره أو أرضه مسجدًا إذا شفى الله ولده، وقد شفي الولد بإذن الله تعالى؛ فيكون الوقف الذي نذر إيجاده واجبًا؛ لوجوب الوفاء بالنذر
(7)
.
(1)
سورة الممتحنة، آية 8.
(2)
انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، 28/ 32 - 33.
(3)
وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، باب 1 من الوقوف والصدقات، ح 1.
(4)
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، 28/ 9.
(5)
سورة البقرة، آية 272.
(6)
كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، للشيخ جعفر كاشف الغطاء، تحقيق ونشر: مكتب الإعلام الإسلامي، فرع خراسان، قم، ط 2،4/ 216.
(7)
لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} ، سورة الحج، آية 29.