الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثاني: أنه لا تجب عمارته على أحد، وهو قول بعض الحنابلة
(1)
.
قال الرحيباني: "وإن كان الموقوف عقارًا واحتاج لعمارة لم تجب عمارته على أحد مطلقا سواء كان على معين أو لا بلا شرط من واقفه كالطلق" (
2).
2) جهة الإنفاق على العمارة إن لم يمكن استغلال العين الموقوفة أو الانتفاع بها:
أما إذا كان الوقف على جهة معينة والعين الموقوفة لا يمكن استغلالها أو الانتفاع بها، فقد اختلف العلماء في جهة الإنفاق على عمارتها إذا احتاجت إلى العمارة على أربعة أقوال:
القول الأول: إنه لا يجب عمارتها على أحد، ولكن تباع ويشترى بثمنها مثلها مما ينتفع به في الوجه الذي وقف عليه. وهذا القول قال به الحنفية
(3)
، وهو رواية عن مالك
(4)
، وقول لبعض الشافعية
(5)
، وهو مذهب الحنابلة
(6)
.
ذكر ابن عابدين عن قارئ الهداية: "سئل عمن وقف انهدم ولم يكن له شيء يعمر منه، ولا أمكن إجارته ولا تعميره، هل تباع أنقاضه من حجر وطوب وخشب؟ أجاب: إذا كان الأمر كذلك صح بيعه بأمر الحاكم، ويشترى بثمه وقف مكانها
(7)
.
وقال الدسوقي تعليقا على قول الدردير: "لا يباع العقار وإن خرب. قال: رد المصنف بالمبالغة على رواية أبي الفرج عن مالك: إن رأى الإمام بيع ذلك لمصلحة جاز ويجعل ثمنه في مثله"
(8)
.
(1)
انظر: مطالب أولي النهى، السيوطي الرحيباني، 4/ 342، وكشاف القناع، البهوتي، 4/ 294.
(2)
مطالب أولي النهى، السيوطي الرحيباني، 4/ 242.
(3)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 376.
(4)
انظر: حاشية الدسوقي، 4/ 91.
(5)
انظر: روضة الطالبين، النووي، 5/ 357.
(6)
انظر: الإنصاف، المرداوي، 7/ 71 و 102، وكشاف القناع، البهوتي، 4/ 294 و 323.
(7)
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 376.
(8)
حاشية الدسوقي، 4/ 91.
وقال إمام الحرمين الجويني: "فأما عمارة الوقف إذا كان الموقوف عقارًا أو كان الوقف مطلقًا وريعه لا يفي بالعمارة التي لابد منها في إقامة الوقف وإدامته فلا خلاف أنه لا يجب على أحد"
(1)
. وقال: "إن من وقف دارا فأشرفت على الخراب وعرفنا أنها لو انهدمت عسر ردها وإقامتها فهل يحكم والحالة هذه بجواز بيعها؟ اختلف الأئمة فيه، فذهب الأكثرون إلى منع البيع وجوّز المحررون البيع، فإن منعنا البيع أدمنا الوقف وانتظرنا ما يكون، وإن جوّزنا البيع فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف"
(2)
.
وقال المرداوي في الوقف الذي لا غلة له: "وإن كان الوقف لا روح فيه كالعقار ونحوه لم تجب عمارته على أحد مطلقًا، على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وجزم به الحارثي وغيره"
(3)
. وقال: "الصحيح من المذهب أنه يباع والحالة هذه، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم"
(4)
.
الأدلة: احتج أصحاب هذا القول على ما ذهبوا إليه بأن عمارة الأوقاف كعمارة الأملاك، والمالك لا يجب عليه أن يعمر ملكه. فلا تجب العمارة لا على الموقوف عليه إذا نسينا الملك إليه، ولا في مال الله تعالى على القول بإضافة الملك إلى الله تعالى، ولا على الواقف على قول أن الملك له
(5)
. قالوا: فإذا لم تجب عمارة العين الموقوفة على أحد وجب أن تباع ويشترى بثمنها مثلها مما ينتفع به في الوجه الذي وقف فيه، لأن في ذلك استيفاء الوقف بمعناه عند تعذر استيفائه بصورته
(6)
.
القول الثاني: أنه لا يجب عمارته على أحد، ولكن إذا لم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، ولا يجوز بيعه كله إلا إذا تعذر بيع بعضه، أو كان لا يفي بعمارته. وهذا قول لبعض الحنابلة
(7)
.
(1)
نهاية المطلب، الجويني، 8/ 394.
(2)
نهاية المطلب، الجويني، 8/ 394.
(3)
الإنصاف، المرداوي، 7/ 71.
(4)
الإنصاف، المرداوي، 7/ 102.
(5)
انظر: نهاية المطلب، الجويني، 8/ 398.
(6)
انظر: المغني، ابن قدامة، 8/ 222.
(7)
انظر: الإنصاف، المرداوي، 7/ 104، ومطالب أولي النهى، السيوطي الرحيباني، 4/ 369.
قال ابن قدامة: "إن الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتا ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب حميمه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه ببيع جميعه"
(1)
. وقال ابن مفلح: "ولم أجده لأحد قبله، والمراد مع اتحاد الواقف كالجهة"
(2)
.
حجة هذا القول: قالوا: إنه إذا جاز بيع الكل عند الحاجة، فبيع البعض مع بقاء البعض أولى
(3)
.
القول الثالث: أنه يجوز عمارة تلك الأوقاف من ريع وقف آخر إذا اتحدت الجهة.
قال به بعض الحنابلة
(4)
، ونسبه ابن رجب إلى بعض الحنفية
(5)
.
قال الرحيباني: "ولا يعمر وقف من ريع وقف آخر ولو على جهته، وأفتى عبادة - من أئمة أصحابنا - بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته"
(6)
. وقال ابن رجب: "ومما أفتى به عبادة - ورأيته بخطه - في أوقاف وقفها جماعة على جهة واحدة من جهات البر، فإذا خرب أحدها، وليس له ما يعمر به: إنه يجوز لمباشر الأوقاف أن يعمره من الوقف الآخر، ووافقته طائفة من الحنفية
(7)
. وقال المرداوي: "وهو قوي: بل عمل الناس عليه"
(8)
.
(1)
المغني، ابن قدامة، 8/ 220 - 221.
(2)
الفروع، ابن مفلح، 4/ 625.
(3)
مطالب أولي النهى، السيوطي الرحيباني، 4/ 369.
(4)
انظر: الإنصاف، المرداوي، 7/ 105، ومطالب أولي النهى، السيوطي الرحيباني، 4/ 371.
(5)
انظر: مطالب أولي النهى، السيوطي الرحيباني، 4/ 371.
(6)
ذيل طبقات الحنابلة، ابن رجب الحنبلي، 2/ 433.
(7)
ذيل طبقات الحنابلة، ابن رجب الحنبلي، 2/ 433.
(8)
الإنصاف، المرداوي، 7/ 105.
حجة هذا القول: لم تذكر مراجع هذا القول حجته، ولعلها مراعاة مصلحة الموقوف عليه الذي كان من المفروض أن يستفيد من غلة الوقفين معًا. فإذا توقفت غلة أحد الوقفين واحتاج إلى العمارة أخذت نفقة العمارة من غلة الوقف الآخر المتحد معه في الجهة حتى يكون كلا الوقفين ذا غلة تدر على الموقوف عليه.
القول الرابع: أنه يتم عمارة العين الموقوفة من بيت المال، فإن لم يكن تركت حتى تهلك ولا يلزم المحبس النفقة عليها. وهذا هو قول المالكية
(1)
، وقال به كثير من الشافعية
(2)
، وفقهاء الإمامية المتأخرون
(3)
.
قال ابن جزي: "وتبتني الرباع المحبسة من غلاتها، فإن لم يكن فمن بيت المال، فإن لم يكن تركت حتى تهلك، ولا يلزم المحبس النفقة عليها"
(4)
.
وذكر فقهاء الإمامية المتأخرون: أنّ الأعيان الموقوفة إذا احتاجت إلى إنفاق كالتعمير والصيانة ونحوهما، فهناك عدّة طرق لتأمين هذا الأمر:
أولًا: إذا عيّن الواقف لها ما تحتاج إليه فوقفه عليها، أو نذره لها، فيجب الإنفاق من هذا الذي عيّن للإنفاق عليها. قال السيّد الخوئي في منهاج الصالحين مسألة (1181)"إذا احتاجت الأملاك الموقوفة إلى التعمير أو الترميم لأجل بقائها وحصول النماء منها، فإن عيّن الواقف لها ما يصرف فيها عمل عليه"
(5)
.
(1)
انظر: الشرح الكبير، الدردير 4/ 91.
(2)
انظر: المهذب، الشيرازي، 3/ 689.
(3)
انظر: منهاج الصالحين، السيد الخوئي، 2/ 246.
(4)
القوانين الفقهية، ابن جزي، 319.
(5)
منهاج الصالحين، السيد الخوئي، 2/ 246، وراجع ملحقات العروة الوثقى، 2/ 262، ولكن ذكر السيّد الخوئي تفصيلًا بين المصارف الجزئية والكليّة، فإذا كان ترميم الوقف جزئيًّا فتوجد سيرة عقلائية ارتكازية على وجوب الصرف من حاصل الوقف. وأما إذا كان التعمير كليًّا، فلا يجب على الموجودين الذين يستحقون منافع الوقف أن يصرفوها على تعمير الوقف الذي يكون فائدة تغيره بعد ذلك، لأن المنفعة هي ملك طلق للموجودين، فلهم أن ينتفعوا من الوقف ما داموا موجودين، فلا وجه لأن يصرف الإنسان مال نفسه في حفظ مال شخص آخر، كما أن الواقف لم يشترط في ضمن وقفه إخراج مؤونة الوقف وما يحتاج إليه من جهة العمارة من منافع الوقف قبل القسمة. راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى، 27/ 283. وما ذُكر هنا هو بحث استدلالي، وما تقدم من السيّد الخوئي في إخراج مؤونة الوقف مطلقًا من منافع الوقف فتوى في رسالته العملية، فالمتّبع هو ما في الرسالة العملية.
ثانيًا: إذا لم يعين الواقف لها ما تحتاج إليه فيوقفه عليها، فحينئذٍ يصرف من نمائها إذا كانت العين الموقوفة لها نماء للصرف عليها وتعميرها أو ترميمها أو صيانتها، فذكر السيّد الخوئي أنه إذا لم يعين الواقف لها ما يحتاج إليه فيوقفه عليها: صُرف من نمائها وجوبًا مقدّمًا على حقّ الموقوف عليهم، وإذا احتاج إلى التعمير بحيث لولاه لم يبق للبطون اللاحقة، فالظاهر وجوبه وإن أدّى إلى حرمان البطن السابق
(1)
.
ثالثًا: هناك بعض الأوقاف لا وارد لها ولم يوقف عليها لتعميرها وصيانتها من قبل الواقف أو غيره، فهنا يمكن أن يصرف على عمارة الوقف من جهة عامة إذا كان الموقوف لجهة عامة كالمسجد والمشفي ودور الفقراء والزوار، أو كان الوقف في سبيل الله كوقف عين ماء للشرب والانتفاع، فيمكن أن يصرف لعمارته من الخيرات التي هي لكل أمر خير، أو يصرف عليها من الزكاة التي هي من مصارفها في سبيل الله والفقراء، فقد ذكر صاحب العروة أنه: يجوز تعمير ما احتاج إليه مثل الموقوفات المذكورة ما وقف لمصلحة المسلمين من السهم المذكور أي سهم سبيل الله من الزكاة أو مما يُصرف في وجوه البرِّ
(2)
.
رابعًا: يمكن أن يصرف على عمارة الموقوف بالاقتراض بقصد الأداء بعد ذلك فيما يرجع إليها، فقد ذكر صاحب العروة أنه: "يجوز الاقتراض لتعمير الأوقاف المذكورة بقصد الأداء بعد ذلك مما يرجع إليها كمنافع موقوفاتها أو من النذورات لها
…
فإنّ العمل المذكور من الإقراض للتعمير أو البنّاء وإن كان بالقصد المذكور من أفراد البرِّ وسبيل الخير ومصاديقهما"
(3)
.
خامسًا: كما يمكن للمتولي أو الناظر أو أيّ شخص آخر أن يعمّر الوقف من مال نفسه بقصد الاستيفاء من منافع الوقف أو المنذورات للوقف، فقال صاحب العروة:
(1)
انظر: منهاج الصالحين، السيد الخوئي، 2/ 246.
(2)
انظر: ملحقات العروة الوثقى، الطبطبائي، 2/ 268.
(3)
المرجع السابق، 2/ 268.