الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يمكن أن يكون الوقف في بعض الحالات محترما، كما لو وقف داره على معصية كشرب الخمر أو الزنا، فهنا الوقف يكون حراما وباطلًا، أما الحرمة؛ فلوجود النهي في الإعانة على الحرام ونشر الفساد، وأمّا البطلان فلأجل عدم تحقق الصدقة على الفعل المحرّم، قال علماء الإمامية ومنهم السيّد الكلبايكاني في هداية العباد:"لا يصح الوقف على الجهات المحرّمة؛ كالوقف على البِيَع والكنائس ونشر كتب الضلال، ولا على ما فيه إعانة على المعصية؛ كالمعونة على الزناة وقطع الطرق"
(1)
.
وذكر محمد النجفي، أن الوقف على الكنائس والبِيَع التي هي معابدهم؛ فإنه لم يصحّ بلا خلاف أجده فيه، بل عن ظاهر المبسوط والغنية نفيه بين المسلمين؛ لكونه إعانة لهم على ما هو محرّم عليهم من التعبّد فيها ونحوه
(2)
، ثم ذكر: أن عدم منعنا لهم عن التعبد في الِبيَع والكنائس "لكونه من مقتضى عقد الذمّة، لا يقتضي الجواز لهم في الواقع، بل هو محرّم عليهم، وحينئذٍ لا يجوز الوقف منّا لهم على هذه الجهة؛ للإعانة على الإثم
…
وكذلك في عدم الصحة لو وقف على معونة الزناة في زناهم من المسلمين، فضلًا عن غيرهم، أو قطّاع الطريق أو شاربي الخمر وغيرهم؛ لاشتراكهم معهم في الدليل، الذي هو النهي عن الإعانة على الإثم، والوقف بهذا القصد فرد منها"
(3)
.
حكم الوقف من حيث اللزوم والجواز:
اختلف الفقهاء في حكم الوقف من حيث اللزوم وعدمه إلى عدة أقوال؛ مردها إلى قولين:
القول الأول: لزوم الوقف من حيث الأصل، وهؤلاء انقسموا إلى طائفتين:
(1)
هداية العباد، السيد محمد رضا الموسوي الكلبايكاني، دار القرآن الكريم، قم، ط 1، 1413 هـ، مسألة 490، 2/ 147.
(2)
جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، 28/ 34 - 35.
(3)
المرجع السابق، 28/ 35.
الأولى: قالت بلزوم الوقف بمجرد صدوره ممن هو أهل للتصرف، فليس للواقف الرجوع في وقفه ولا تغيير مستحقيه أو شروطه في حياته، وليس لورثته ذلك بعد موته، وهذا مذهب المالكية
(1)
والشافعية
(2)
والحنابلة في المذهب
(3)
، والزيدية، وأبو يوسف من الحنفية، وعليه الفتوى عندهم
(4)
.
(1)
انظر: المقدمات الممهدات، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: د محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1408 هـ/ 1988 م، 2/ 419، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي، 6/ 18.
(2)
انظر: الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (وهو شرح مختصر المزني)، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 هـ/ 1999 م، 7/ 511.
(3)
انظر: المغني، ابن قدامة المقدسي، 6/ 5، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 7/ 3، والمبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، 5/ 352، ودقائق أولي النهى لشرح المنتهي المعروف بشرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلى، 2/ 490، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن صلاح الدين بن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي، 4/ 241، والكافي في فقه الإمام أحمد، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قدامة المقدسي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1414 هـ/ 1994 م، 2/ 254.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار، أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة أبو جعفر الطحاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1399 هـ، 4/ 95، والمبسوط، شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي، 2/ 25 - 26، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين الكاساني، 6/ 218، وفتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، 6/ 204 - 205، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ، فخر الدين عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الحنفي، 3/ 325، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجيم المصري، 5/ 209، ورد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 338، والاختيار لتعليل المختار ("المختار للفتوى" لابن مودود الموصلي بأعلى الصفحة، يليه مفصولًا بفاصل شرحه للمؤلف نفسه)، مجد الدين أبو الفضل عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي الحنفي، تعليق: الشيخ محمود أبو دقيقة، مطبعة الحلبي، القاهرة (وصورتها دار الكتب العلمية، بيروت، وغيرها)، 1356 هـ/ 1937 م، 3/ 40 - 41.
الثانية: قالت بأنّ الوقف لا يلزم إلّا بالقبض وإخراجه له عن يده، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل في رواية
(1)
، ومحمد بن الحسن من الحنفية
(2)
، وابن أبي ليلى من فقهاء السلف
(3)
، والإمامية
(4)
، والإباضية، كما جاء في التاج:"ولا يلزم إلّا إن حكم به عدل، أو قال المُوقِف: إذا متُّ فقد وقفته"
(5)
.
وذكر الحارثي من الحنابلة: أنه على القول باشتراط إخراج الوقف عن يد الواقف فالمعتبر عند الإمام أحمد التسليم إلى ناظر يقوم به؛ وأن المساجد والقناطر والآبار ونحوها يكفي التخلية بين الناس وبينها من غير خلاف
(6)
.
وقال المرغيناني من الحنفية: لا يزول ملك الواقف حتى يجعل للوقف وليًّا ويسلمه، وقال ابن الهمام الحنفي:"وبه أخذ مشايخ بخاري"
(7)
.
وقال الحصكفي الحنفي (تعليقًا على عبارة التمرتاشي: "ولا يتم حتى يقبض"): "لم يقل للمتولي؛ لأن تسليم كل شيء بما يليق به، ففي المسجد بالإفراز، وفي غيره بنصب المتولي وبتسليمه إياه"
(8)
.
وصرّح الإمامية بأنه: لو وقف لا ينعقد بدون إقباض، فلو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف
(9)
.
(1)
انظر: المغني، ابن قدامة المقدسي، 6/ 5، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، 4/ 36.
(2)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 351.
(3)
انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي، فخر الدين عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الحنفي، 3/ 325، وفتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، 6/ 203.
(4)
انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، 28/ 9.
(5)
التاج المنظوم من درر المنهاج المعلوم، عبد العزيز بن الحاج بن إبراهيم الثميني، 6/ 106.
(6)
انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، 7/ 36.
(7)
انظر: فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، 6/ 203.
(8)
رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 348.
(9)
شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، 3/ 133.
واستدل الجمهور لمذهبهم بالأثر والإجماع والنظر:
أ) أما الأثر فبما يأتي:
1.
ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضًا بخَيْبَرَ
(1)
، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إنّي أصَبْتُ أرضًا بخَيبَرَ لم أُصِبْ مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:"إن شئتَ حبستَ أصلها وتصدّقتَ بها"، قال: فتصدّق بها عمر؛ أنه لا يباع أصلها، ولا يُبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدّق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل والضعيف، لا جناح على متوليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يُطعم صديقًا غير متموّل فيه
(2)
"
(3)
.
ففي الحديث دلالة ظاهرة أن الوقف لازم لا يجوز الرجوع فيه ولا يورث؛ حيث ورد فيه أنه "لا يباع أصلها، ولا يُبتاع، ولا يورث، ولا يوهب"، وهذا بيان لماهية التحبيس، وذلك يستلزم لزوم الوقف وعدم جواز نقضه، وإلّا لما كان تحبيسًا، والمفروض أنّه تحبيس، وهذا يعني: قطع التصرف فيه
(4)
.
2.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"
(5)
.
(1)
هذه الأرض يقال لها "ثمغ" بفتح المثلثة وسكون الميم بعدها معجمة، وقد ورد التصريح باسمها في رواية البخاري، كما في صحيحه، في الحديث رقم 2764.
(2)
غير متمول: غير متخذ منها مالًا، أي ملكًا، والمراد أنه لا يتملك شيئًا من رقابها. انظر: نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني 6/ 27.
(3)
صحيح البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، حديث رقم 2737، وصحيح مسلم في كتاب الوصية، باب الوقف، حديث رقم 1632، واللفظ له.
(4)
انظر: نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، 6/ 28، والمغني، ابن قدامة المقدسي، 6/ 4 - 5، والحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، 7/ 511 - 514.
(5)
رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث رقم 1631.
وجه الدلالة أنّ قوله: "صدقة جارية" يشعر بأن الوقف يلزم ولا يجوز نقضه، ولا الرجوع فيه؛ إذ لو جاز نقضه لكان الوقف صدقة منقطعة؛ وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعدم الانقطاع، كما أنّ الوصف بالجري يستلزم عدم جواز النقض من الغير
(1)
.
3.
ما ثبت من أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وقف أدرعه وأعتاده في سبيل الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، فقد احتبس أدرعه وأعتاده
(2)
في سبيل الله"
(3)
؛ أي: وقفها في سبيل الله، والتحبيس يستلزم التأبيد والدوام
(4)
.
ب) وأما الإجماع؛ فيُقصد به: اتفاق الصحابة صلى الله عليه وسلم على صحة الوقف، وعدم ثبوت أنّ أحدًا منهم رجع أو نقض وقفه
(5)
؛ قال الماوردي: "ويدل على ذلك إجماع الصحابة؛ لأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وطلحة والزبير وأنسًا وأبا الدرداء وعبد الرحمن بن عوف وفاطمة وغيرهم .. وقفوا دورًا وبساتين، ولم يُنقل عن أحد منهم أنه رجع
(1)
انظر: نيل الأوطار، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، 6/ 28.
(2)
الأعتاد جمع قلة للعتاد، وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلة الحرب. النهاية في غريب الحديث: 3/ 176.
(3)
الحديث متفق عليه خرجه البخاري في صحيحه، واللفظ له، في كتاب الزكاة حديث رقم 1468، وفتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، 3/ 331، ومسلم في صحيحه كتاب الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، حديث رقم 983، والمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، 4/ 63.
(4)
انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، 4/ 63.
(5)
انظر: شرح السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، 8/ 288، والجامع لأحكام القرآن (المعروف بتفسير القرطبي)، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، 6/ 339، والمبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، 5/ 353.
في وقفه فباع منه شيئًا، ولا عن أحد من ورثتهم مع اختلاف همهم، فلو كان ذلك جائزًا لنقل عن أحد منهم الرجوع"
(1)
.
ج) وأما النّظر؛ فقالوا: إنّ الوقف إزالة ملك يلزم بالوصية؛ فإذا نجزه حال الحياة الزم من غير حكم؛ كالعتق
(2)
.
واستدل من اشترط القبض بما يأتي:
قالوا: الوقف تبرع بمال، فلم يخرجه عن الملكية، فلم يلزم بمجرده؛ كالهبة والوصية
(3)
.
وقالوا: الوقف "صدقةٌ، فيكُونُ التَّسْليمُ من شَرْطِهِ؛ كالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ؛ وَلِأَنَّ التَّمليك من الله تعالى لا يتحقَّقُ قصدًا؛ لأنه مَالِكُ الأشياء، ولكنه يَثْبُتُ في ضمن التَّسليم إلى العبد، كما في الزكاة وغيرها من الصدقات المُنَفَّذَةِ"
(4)
.
القول الثاني:
الوقف لا يلزم بمجرده؛ فهو بمنزلة العارية، وللواقف الرجوع فيه مع الكراهة، ويورث عنه، ولا يلزم إلا بأحد أمرين:
- إما أن يحكم به حاكم.
- أو يخرجه الواقف مخرج الوصية.
وفيما عدا هاتين الحالتين؛ فإن الوقف لا يكون لازمًا، وللواقف بيع الموقوف وهبته، وإذا مات يصير ميراثًا لورثته، وهذا قول أبي حنيفة، واختاره زفر بن الهذيل
(1)
الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، 7/ 513.
(2)
المغني، ابن قدامة المقدسي، 6/ 4، والحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الشهير بالماوردي، 7/ 512، المبدع في شرح المقنع، أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مفلح، 5/ 353.
(3)
انظر: المغني، ابن قدامة المقدسي، 6/ 5.
(4)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ، فخر الدين عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الحنفي، 3/ 325.