الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث الوقف في العصر الأموي (41 - 132 هـ/662 - 750 م)
لقد خطت الأوقاف خطوات واسعة في العصر الأموي، فتضاعفت أعدادها، وتنوعت مصارفها، ونظمت سجلاتها، وجعل لها ديوانًا خاصًّا تحت إشراف القضاء، وعملت الدولة بكل جهودها لصيانة الأوقاف القائمة، وتوسعة ما يحتاج لتوسعة، في بقعة جغرافية تمتد من مشارف الصين شرقًا إلى حدود فرنسا غربًا، فقد شهد هذا العصر ميلاد كبريات المساجد التي قامت بدور مشرِّف في طبع البلاد المفتوحة بالطابع العربي الإسلامي، فضلًا عن دورها التنويري عبر حقب التاريخ الإسلامي وحتى اليوم، بفضل ما وُقف عليها من أوقاف ساهمت في ديمومة عطائها.
ولم تقتصر جهود الدولة الأموية على بناء المساجد في البلاد المفتوحة، بل تعدى ذلك إلى العمل بكل جهدها على صيانة وتوسعة وزخرفة المساجد القائمة، وتعزيزها بالأوقاف التي تسهم في الحفاظ على وجودها وديمومة رسالتها، فتوالت التوسعات والترميمات للحرمين الشريفين، ومساجد العراق، ومصر، والشام، فقد قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41 - 60 هـ/ 662 - 680 م) بتوسعة المسجد الحرام، وأجرى له القناديل والزيت، وأضاء المصابيح فيه
(1)
، كما أجرى معاوية رضي الله عنه إلى مكة عيونًا عشرة، في قنوات عملها لذلك، ثم تنافس الأمويون في مكة المكرمة في حفر الآبار ووقفها
(2)
، ويُذكر لمعاوية رضي الله عنه أيضًا أنه وقف العين الزرقاء بالمدينة المنورة بالقرب من "بئر أريس"، وهي من العيون المشهورة التي اعتنى بها الحكام والأمراء على مر العصور، وكان لها أوقاف معلومة، وجرايات تأتي من عند السلطان، وأصبح لها في وقت من الأوقات أمير معلوم، وله خدم يتفقدون أحوالها، ويصلحون ما تلف منها، كما حرص على إنشاء الآبار على الطرقات
(3)
.
(1)
انظر: الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي الصلابي، 1/ 262
(2)
انظر: أخبار مكة، الأزرقي، 2/ 183، والماء في الفكر الإسلامي والأدب العربي، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، 4/ 151.
(3)
انظر: أخبار مكة، الأزرقي، 2/ 227، والخلافة الأموية، عبد المنعم الهاشمي، 25، والدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي الصلابي، 1/ 263.
أما الخليفة يزيد بن معاوية فيُذكر له أنه كان أول خليفة يكسو الكعبة بالديباج، ولا يكاد يُذكر خليفة من الخلفاء الأمويين إلا وذكر له أثر في الحرمين الشريفين
(1)
.
ومن أبرز المساجد التي بُنيت في عصر الأمويين: مسجد قبة الصخرة؛ الذي وقفه الخليفة عبد الملك بن مروان (72 هـ/ 691 م)، والذي يعدُّ من أجمل الوقفيات الدينية في العالم؛ هندسة، وفنًّا، وزخرفة، وجمال موقع، وهو يعد اليوم أقدم أثر إسلامي يحمل تاريخ إنشائه
(2)
.
وكذلك يُعَدُّ المسجد الأموي في دمشق من أكبر المساجد التي بناها الوليد بن عبد الملك، وأعلاها تكلفة، حيث استغرق بناؤه حوالي عشر سنوات (87 - 96 هـ/ 706 - 715 م)، وأنفق عليه أحد عشر مليونًا ومائتي ألف دينار
(3)
، كما بنت الدولة الأموية عديدًا من المساجد في كل المناطق التي فتحتها أو استكملت فتحها، وأعطت لبلاد ما وراء النهر وللأندلس والمغرب أولوية خاصة، فاشتُهرت مساجد القيروان، وقرطبة، وبخارى، وسمرقند، وغيرها، حيث كانت هذه المساجد منارات للعلم ومعاقل لنشر الإسلام، حصَّنتها الأمة حكامًا ومحكومين بالأوقاف الكثيرة التي مكنتها من تأدية رسالتها على أكمل وجه، وحمتها من الاندثار؛ لتبقى شاهدًا على عظمة هذا الدين.
وبدوره قام الوليد بن عبد الملك في عام 88 هـ /707 م بأوسع عملية توسعة للمسجد النبوي الشريف، حيث أمر بهدم بيوت أزواج المصطفى صلى الله عليه وسلم وبيوت الصحابة صلى الله عليه وسلم المجاورة للمسجد، وأدخلها في المسجد، بعد أن عوَّض أصحابها أثمان بيوتهم، وذلك تحت إشراف والى المدينة عمر بن عبد العزيز، وقد استغرق البناء أربعة أعوام، وأصبح
(1)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 12/ 414 - 415.
(2)
انظر: بيت المقدس والمسجد الأقصى دراسة تاريخية موثقة، محمد محمد حسن شراب، دار القلم، دمشق، 1994 م، 378، ولمزيد من التفاصيل عن قبة الصخرة انظر: قبة الصخرة، يوسف شوقي، عمان - مسقط، 1982 م، 19، وقبة الصخرة، أحمد فكري، مجلة عالم الفكر، مج 11، ع 1 أبريل - يونيو، 1980 م، 13 - 30.
(3)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 12/ 566 - 567، ورسالة المسجد في الإسلام، عبد العزيز محمد الميلم، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1991 م، 215 - 225.
المسجد بعد التوسعة 200 ×200 ذراع، وجعل له أربع منارات، طول كل منارة 55 دراعًا، وعرضها ثمانية أذرع
(1)
.
وقد أمر الوليد بن عبد الملك بعمارة جميع المساجد التي صلى فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فبُنيت بالحجارة المنقوشة، كما أمر في عام 8 هـ/707 م بحفر الآبار في المدينة المنورة، لتوفير المياه لأبناء السبيل، وكل وارد على المدينة من الحجاج والمعتمرين
(2)
.
ويُعدُّ الوليد بن عبد الملك أول من ذهَّب الكعبة في الإسلام، حيث ضرب صفائح الذهب على باب الكعبة
(3)
، وقد سار ولاة بني أمية على خُطَى خلفائهم في بناء المساجد وترميمها وتوسعتها، فقام:"مسلمة بن مخلد" والي معاوية رضي الله عنه على مصر، بالزيادة في مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه في الفسطاط، وطلا جدرانه بالجص، وزخرف بنيانه، وبنى له أربع منارات، وفرشه بالحصر
(4)
.
ووسَّع المغيرة بن شعبة رضي الله عنه المسجد الجامع بالكوفة، ثم تعهده زياد بن أبيه بالزيادة، وفرشه بالحصى، وكان يقول: أنفقت على كل اسطوانة من أساطين الكوفة ثماني عشرة مائة درهم، كما وسَّع "زياد بن أبيه" مسجد البصرة، وبناه بالآجر والجص وسقَّفه بالساج، وبني منارته بالحجارة، كما بني عديدًا من المساجد في العراق
(5)
.
ويُعدُّ الوليد بن عبد الملك أول حاكم في التاريخ وقف المستشفيات أو البيمارستانات للأشخاص المصابين بالأمراض المعدية عام 8 هـ/707 م، وأجرى عليها أوقافًا دائمة، فضلًا عن وقف الملاجئ للعجزة وأصحاب العاهات، فقد خصص لكل مُقعد خادمًا، ولكل أعمى قائدًا، وهذا ما أكده كل من الطبري
(6)
واليعقوبي، وقال الأخير بأن
(1)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 12/ 414 - 415.
(2)
انظر: تاريخ الطبري، الطبري، 7/ 337.
(3)
انظر: المرشد الوجيز في التاريخ والحضارة الإسلامية، د سلامة البلوي، 296.
(4)
انظر: الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي الصلابي، 1/ 262.
(5)
انظر: المرجع السابق، 1/ 263.
(6)
انظر: المرجع السابق.
الوليد أول من بني البيمارستانات للمرضى، وأول من أجرى على العميان والمجذومين الأرزاق، وأول من أجرى طعام شهر رمضان في المساجد
(1)
، كما كان يعطي قطع الفضة توزع على قراء بيت المقدس
(2)
.
وقد اهتم خلفاء بني أمية بأبناء السبيل، بخاصة الحجاج والمعتمرين منهم، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه دار المراجل بمكة المكرمة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك وقفًا في سبيل الله
(3)
.
أما الخليفة عمر بن عبد العزيز فقد وقف خانات على امتدادات الطرق؛ لخدمة أبناء السبيل وتقديم المأوى والقرى والعلاج وغيرها من الخدمات، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى واليه سليمان بن السري: أن اعمل خانات، فمن مرَّ بك من المسلمين فأقروه يومًا وليلة، وتعهدوا دوابهم، ومن كانت به علَّة فأقروه يومين وليلتين، وإن كان منقطعا فأبلغه بلده
(4)
.
وقام الخليفة هشام بن عبد الملك بحفر نهر وسط مدينة الموصل، وأمر أن تُبني أرجاء على ضفافه، ثم وقف هذه الأرحاء ومستغلاتها على نفقة هذا النهر وما يحدث فيه من تغيير وإصلاح في المستقبل
(5)
.
كما عرف العصر الأموي وقف المصاحف، فقد كتب إسحاق بن مرار أبو عمرو الشيباني (96 - 206 هـ/ 714 - 821 م) نيفًا وثمانين مصحفًا بخطه، وقد جعل بعضها وقفًا في مسجد الكوفة
(6)
.
(1)
انظر: تاريخ الطبري، الطبري، 6/ 437.
(2)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 12/ 907، والدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، على الصلابي، 2/ 868 - 869.
(3)
انظر: الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي الصلابي، 1/ 263.
(4)
انظر: تاريخ الطبري، الطبري، 1/ 437.
(5)
انظر: تاريخ الموصل، الأزدي، 26 - 28، والدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي الصلابي، 2/ 1299.
(6)
انظر: الفهرست، ابن النديم، 68، ووفيات الأعيان، ابن خلكان، 1/ 65، ودور الكتب، يوسف العش، 101.
وعلى صعيد إدارة شئون الأوقاف، فقد كانت تدار من قبل أصحاب الوقفيات أو ذويهم أو ممن يثقون بهم، وقد كان في هذا الأمر مظنة إهمال أو فساد يمكن أن يتطرق إلى الأوقاف، وهذا ما دفع قاضي مصر توبة بن نمير الحضرمي (118 هـ/ 736 م) إلى تأسيس ديوان الوقف؛ حيث قال: ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين، فأرى أن أضع يدي عليها حفظًا لها، فلم يمت توية حتى صار للأحباس ديوانًا عظيمًا مستقلًا عن بقية الدواوين تحت إشراف القاضي، وقد قلَّدته بقية الأمصار، فأصبح في كل ولاية ديوان خاصٌّ بالأوقاف، وكانت البصرة من أوائل الولايات بعد مصر التي أسست ديوانًا للأوقاف
(1)
، وقد سجَّل في هذا الديوان الأحباس الموقوفة في سجل خاص لحماية مصالحها
(2)
، وقد كان ذلك التطور الإداري هو الأهم من نوعه الذي طرأ على الأوقاف في ذلك العصر.
وهكذا كانت الدولة الأموية ممثلة بخلفائها الفاعل الأهم في حركة الوقف في تلك المرحلة المهمة من تاريخنا، مقابل تراجع دور الرعية، ولعل هذا يعود إلى انشغال الأمة في حركة الفتح والجهاد؛ لذا ليس مستغربًا أن يكون وقف المساجد هو الأبرز؛ لأن الهدف هو توطين الإسلام في البلاد المفتوحة، كما يلاحظ اهتمام الدولة الأموية بالحرمين الشريفين وبيت المقدس، واهتمامها أيضا بوقف الماء وتوفيره لأبناء السبيل وللحجاج والمعتمرين.
ولعل أهم ما يُحسب للدولة الأموية في مجال الوقف، ظهور لون جديد من الأوقاف التي تعتني بالصحة العامة، ومعالجة الأمراض المعدية، فكان وقف المستشفيات أول ظهور له في هذه الدولة، كما أن رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة يبرز بوضوح في هذه الدولة، وأخيرًا يُحسب لهذه الدولة ظهور ديوان مستقل للأوقاف؛ صيانة لها من الفساد، وحماية لحقوق الفقراء والمساكين والضعفاء وَمَنُ خُصِّصَت لهم تلك الأوقاف.
(1)
انظر: تاريخ الموصل، الأزدي، 26 - 28، والدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي الصلابي، 2/ 1299.
(2)
انظر: الإدارة في العصر الأموي، نجده خماش، 289، وأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية د. محمد الكبيسي، بغداد، مطبعة الإرشاد، 1997 م، 1/ 38، ومؤسسة الأوقاف في العراق ودورها التاريخي المتعدد الأبعاد، محمد شريف أحمد، ندوة مؤسسات الوقف، بغداد، 1983 م، 77.