الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع الوقف في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس)
أبدع الغرب الإسلامي أوقافًا فريدة في مقاصدها، ومبدعة في فكرتها، فقدمت خدمات متميزة للمرأة، وذوي الاحتياجات الخاصة، والأسرى، والغرياء، والسجناء، والعلماء وطلبة العلم، وكبار السن، وغيرهم من الشرائح.
ويستعرض هذا المبحث نماذج من تلك الأوقاف التي شملت رعايتها حتى الحيوانات والطيور، فقد عرفت مدينة مراكش وقفية فريدة في رسالتها الاجتماعية أطلق عليها اسم "دار الدقة"، وهي عبارة عن ملجأ مخصص للنساء اللائي يقع نفور بينهن وبين أزواجهن، وليس لهنَّ أهل أو محارم يأخذون بحقوقهنَّ، فكانت هذه الدار توفر لهن المأوى والمأكل والتعليم إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من نفور، وكان على هذه الدار أوقاف عديدة تدرُّ أموالًا لتغطية نفقاتها؛ لتواصل القيام بدورها الاجتماعي المهم، والذي يدل على سمو الحس الإجتماعي في الحضارة الإسلامية، التي لم تترك أحدًا إلا وشملته بلماساتها الإنسانية الراقية
(1)
.
ولعل جوهرة الأوقاف في الغرب الإسلامي هو جامع القرويين، الذي يعد من أقدم أوقاف نساء المغرب الإسلامي، والذي وقفته "أم البنين" فاطمة بنت الفقيه عبد الله محمد الفهري القيرواني، الذي توفي وترك لابنتيه مريم وفاطمة ثروة هائلة، أنفقتاها في وجوه البر والخير والإحسان، وكان الشروع في البناء سنة 245 هـ/ 850 م، وقد لعب هذا الجامع دورًا حيويًا في الحياة العلمية في المغرب، حيث كان به 140 كرسيًا علميًا، منها كرسيان اثنان خُصِّصا للنساء
(2)
، وقد تخرج منه عديد من العلماء من الغرب، ودرس فيه سيلفستر الثاني (غريرت دورياك) الذي شغل منصب البابا
(1)
انظر: رعاية الفئات الخاصة، د سلامة البلوي، 22.
(2)
انظر: جامعة القرويين وآفاق إشعاعها الديني والثقافي، التازي، سلسلة أبحاث وأعلام، رقم 5، مطبعة فضالة، المحمدية، 1996 م، وعن ترجمة فاطمة الفهرية انظر: جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس، الجزنائي، الرباط، 1973 م، 45 - 46، والأنيس المطرب بروض القرطاس، ابن أبي زرع، الرباط، 1973 م، 54 - 55، وأعلام النساء، عمر رضا كحالة، 4/ 107.
عام 999 - 1003 م، كما أقام فيه الطبيب والفيلسوف اليهودي "موسى بن ميمون" بضع سنوات، ودرس فيه كبار العلماء أمثال: الفقيه المالكي أبو عمران الفاسي، وابن العربي، ودرس فيه ابن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، وغيرهم.
ولم يغفل أهل المغرب الاهتمام بالمدارس ووقف الأوقاف السخية عليها، ففي سنة 635 هـ/ 1238 م ظهرت أول مدرسة وقفية في المغرب على يد العالم أبو الحسن الشاري (571 - 649 هـ/1176 - 1251 م)، عندما بنى من ماله الخاص المدرسة الشارية بسبتة، ووقف عليها من خيار أملاكه وجيد رباعه
(1)
، وحبس عليها خزانة تشتمل على مصنفات في مختلف العلوم، وتعد أول خزانة وُقفت في المغرب على أهل العلم، وكانت تحوي جناحًا لإيواء الطلبة، وبقعة محبسة على من يموت من طلبتها
(2)
.
وفي عهد الموحدين كان معظم مباني ومنشآت فاس ملكا لأوقاف القرويين، ويذكر الجزنائي أن غلات أوقاف القرويين على عهد المرينيين ناهزت في بعض الأعوام عشرة آلاف دينار فضة، وقد غدت ميزانية القرويين تنافس ميزانية الدولة، بل إن الدولة استقرضت من خزينته في كثير من الأحيان
(3)
.
أما مدرسة الصفاريين في فاس فقد وقفها السلطان "أبو يوسف يعقوب"(651 - 685 هـ/ 1253 - 1286 م) على طلبة العلم في فاس، وأجرى فيها ماء العين، وأسكنها الطلبة والمقرئين، وأجرى عليهم المرتبات، وحبس عليها 13 حملًا من الكتب، بعثها له الملك "شانجة القشتالي" إثر الصلح الذي عُقد عام 648 هـ/ 1285 م
(4)
.
(1)
انظر: الذيل والتكملة، ابن عبد الملك المراكشي، تحقيق: محمد بن شريفة، الدار البيضاء،
1973 م، 5/ 197.
(2)
انظر: اختصار الأخبار عما كان بسبتة من سني الآثار، محمد بن قاسم الأنصاري السبتي، تحقيق: عبد الوهاب منصور، الرباط، المطبعة الملكية، 1996 م، 23 و 29.
(3)
انظر: جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس، الجزنائي، ص 195 - 196، وجامع القرويين، عبد الهادي التازي، دار الكتاب اللبناني، 2/ 456.
(4)
انظر: روض القرطاس، ابن أبي زرع، 363.
وتسابق أبناء المرينيين ببناء المدارس نصرةً للمذهب المالكي، وإعادة الاعتبار إلى علمائه بعد معاناتهم في عهد الموحدين، فقد شيّد "أبو سعيد المريني" سنة 723 هـ/ 1323 م مدرسة العطارين، التي بلغت أوقافها 51 وقفًا، ما بين حانوت ورحي أو فيض ماء
(1)
، وكان في جامع لوقش بمدينة تطوان حوالي ستين غرفة محبسة السكنى الطلبة، ويوجد في المسجد أحباس لإطعام الطلبة
(2)
.
وتُشير الدراسات إلى أنَّ المغاربة اتبعوا طريقة طريفة في تقييد الوقف كانت معروفة في عصر دولة الموحدين (541 - 668 هـ/ 1147 - 1270 م) وصدر من أيام بني مرين، وهي إضافة كلمة حبس مكتوبة على الطريقة المغربية بواسطة ثقوب متتابعة بالإبرة؛ حتى تنفذ لسائر أوراق الكتاب
(3)
، وقد وقف كثير من العلماء كتبهم على خزانة القرويين، ومن هؤلاء ابن خلدون، الذي وقف كتابه "العبر" على خزانة القرويين في نهاية القرن الثامن
(4)
.
ويذكر أنه كان في مدينة فاس ملجأ خاص للنساء الشريفات الفقيرات، ويتكون هذا الملجأ من دارين تقع إحداهما في المشاطين قرب ساحة الصفارين، والأخرى في وادي الرشاشة جوار دار عديل
(5)
.
وفي تونس كان هناك وقف سيدي أبي العباس السبتي للعميان والزمني، يأخذون كل يوم من ريعه ما يعيشون به؛ ذكورًا وإناثًا على كثرة عددهم
(6)
، كما وقف أمير
(1)
انظر: دور الوقف في الحياة الثقافية بالمغرب في عهد الدولة العلوية، السعيد بوركبة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب 1996 م، 1/ 91.
(2)
انظر: الإحسان الإلزامي في الإسلام وتطبيقاته في المغرب، محمد الحبيب التجكاني، 1990 م، 559.
(3)
انظر: قبس من العطاء المخطوط المغربي، محمد المنوني، 638.
(4)
نص الوقفية منشور في كتاب: ظاهرة وقف الكتب في تاريخ الخزانة المغربية، أحمد شوقي بنبين: دراسة منشورة بمجلة مجمع اللغة العربية، دمشق، يوليو 1988 م، المجلد 63، العدد 3، 418 - 419.
(5)
انظر: أوقاف مكناس في عهد مولاي إسماعيل (1082 - 1139 هـ)، رقية بلمقدم، 1/ 62.
(6)
انظر: الحضارة العربية الإسلامية، شوقي أبو خليل، 337.
المؤمنين أبو فارس عبد العزيز بن السلطان بن العباس أحمد بن عبد الله، أحد أمراء الدولة الحفصية (796 هـ / 1393 م) .. بيمارستانًا للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين، ووقف على ذلك أوقافًا كثيرة في تونس
(1)
، كما وجد في فاس قصر يسمى "دار الشيوخ"، مخصَّص لتزويج المكفوفين الذين لا سكن لهم
(2)
.
وقد تنافس سلاطين الدولة المرينية (610 - 869 هـ/ 1214 - 1465 م)
(3)
في وقف الأوقاف من أجل فكاك الأسرى، ويأتي على رأس هؤلاء السلاطين أبو فارس بن عبد العزيز العباس المريني (796 - 799 هـ/ 1393 - 1396 م)، والسلطان عبد الحق بن أبي سعيد (823 - 869 هـ/ 1472 - 1550 م)
(4)
.
وفي العهد الوطاسي (877 - 957 هـ/ 1472 - 1550 م)، استمر الحكام يقفون الأوقاف الصالح افتكاك الأسرى، فقد وُجدت حوالة حبسية تحمل رقم 921 بخزانة القرويين، يوصي فيها السلطان أبو عبد الله محمد البرتغالي بأموال عقارية لافتكاك الأسرى
(5)
.
ولعل وقف السمك في تونس من الأوقاف الفريدة في الغرب الإسلامي، فقد تنبه أهل الخير أنه في بعض أيام السنة يأتي نوع من السمك تفيض به الشواطئ؛ لذلك خُصِّص وقف يُشتري مِن رَيِعه جانب كبير من هذا السمك، وَيُوَزَّعُ على الفقراء مجانًا
(6)
.
(1)
انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 280.
(2)
انظر: دور الأوقاف المغربية في التكافل الاجتماعي عبر عصر بني مرين (657 - 869 هـ)، محمد المنوني، مجلة دعوة الحق، رجب 1402 هـ/ 1982 م، 30.
(3)
انظر عن الدولة المرينية: الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، ابن أبي زرع، 14 و 24 - 27 و 118، وتاريخ ابن خلدون، ابن خلدون، 6/ 916 و 7/ 182.
(4)
انظر: جامع القرويين، عبد الهادي التازي، 2/ 457.
(5)
انظر: جامع القرويين، عبد الهادي التازي، 2/ 457، وهذا السلطان أسره البرتغاليون من مدينة "أصيلة" المغربية وعمره سبع سنوات، وظل أسيرًا سبع سنوات؛ ولذلك سُمي بالبرتغالي، وقد حكم في الفترة من 910 - 932 هـ/ 1505 - 1524 م. انظر: وصف إفريقيا، ليون الإفريقي، 242.
(6)
انظر: الحضارة العربية الإسلامية، شوقي أبو خليل، 336، وقد استمر هذا الوقف حتى عام 1259 هـ/1843 م.
وخُصِّص جانب من أوقاف مارستان سيدي فرج في مدينة فاس بالمغرب لغسل وتكفين الغرباء والفقراء من الموتى، وضمان جنازة لائقة لهم
(1)
، ولا تكاد مدينة من المدن الإسلامية إلا ويوجد فيها وقف لخدمة الموتى الفقراء، بل إن بعض المساجد ألحق بها ما يعرف باسم مسجد الجنائز؛ حيث كان يغسل الموتى ويصلى عليهم
(2)
.
وقد حرص أهل المغرب على وقف المصاحف على الحرمين الشريفين، فيُذكَرُ أن الجارية القيروانية "فضل"؛ مولاة أبي أيوب أحمد بن محمد .. قد خطَّت المصحف بيدها ببراعة فائقة، ووقفته على القرَّاء بمسجد القيروان في محرم 295/ 907 م
(3)
.
كما حبس السلطان أبو يعقوب يوسف المريني (ت 607 هـ / 1211 م) على الحرم المكي مصحفًا، وقام السلطان أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف المريني ملك المغرب بكتابة مصحف بيده ووقفه على المسجد الأقصى
(4)
، ويذكر أن السلطان أبو عنان المريني قد وقف مكتبة المصاحف بالقرويين التي كانت في قبلة المسجد، وأنَّ أبا الحسن عليَّ بن عثمان خصَّص في عام 738 هـ/ 1338 م ستة عشر ألفًا وخمسمائة دينار ذهبي لشراء الرياع في القدس والحرمين الشريفين
(5)
، وقد جاء من بعده المولى عبد الله بن إسماعيل فوقف السلطان على المسجد النبوي ثلاثة وعشرين مصحفًا، كلها محلاة بالذهب ومرصَّعة بالدر والياقوت
(6)
.
ولقد أدى الازدهار العلمي في الغرب الإسلامي؛ بخاصة في العصر المريني في المغرب (610 - 869 هـ / 1214 - 1465 م) إلى بروز ظاهرة فريدة في الوقف تتجلى في
(1)
انظر: أوقاف مكناس في عهد مولاي إسماعيل (1082 - 1139 هـ)، رقية بلمقدم، 1/ 63.
(2)
انظر: دولة المرابطين في عهد علي بن تاشفين دراسة سياسية حضارية، د سلامة البلوي، دار الندوة الجديدة، بيروت، 1985 م، 377.
(3)
انظر: جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس، الجزنائي، 76.
(4)
انظر: مكتبات بيت المقدس، د. سلامة البلوي، 74، ولا يزال هذا المصحف محفوظًا المتحف الإسلامي في القدس، وقد فقدت خمسة أجزاء من أجزائه الثلاثين في عام 1932 م (الموسوعة الفلسطينية، 302 - 303).
(5)
انظر: أوقاف المغاربة في القدس وثيقة تاريخية سياسية قانونية، التازي، مطبعة فضالة، المحمدية المغرب، 1981 م، 21.
(6)
انظر: إتحاف الناس بأخبار حاضرة مكناس، ابن زيدان، 2/ 34.
وفرة الكراسي العلمية أو كراسي الوعظ المخصصة لكبار العلماء في مختلف المساجد، وبخاصة في جامع القرويين، كلها تؤدي مهمتها في التثقيف ومحاربة الأمية
(1)
.
وكانت الكراسي العلمية تقسم إلى قسمين: كراسي التوريق (الوعظ والتذكير)، وكراسي التدريس، وكانت كراسي التوريق موجهة لتعليم الراشدين من العامة من خلال كتب بعينها
(2)
.
وقد ظهرت هذه الكراسي لأول مرة في جامع القرويين سنة 651 هـ / 1235 م بمبادرة من إمام جامع القرويين على بن الحاج (653 هـ/ 1255 م)، ويُذكر أنه كان هناك تسع كراسٍ في القرن التاسع الهجري بجامع القرويين، مخصَّصة لتدريس الحديث والفقه والقراءات والنحو، من خلال كتب معينة حبسها المحبسون لذلك
(3)
.
وقد رُصدت أوقاف كثيرة على هذه الكراسي والعلماء الذين يقومون بالتدريس فيها، ومن الأمثلة على ذلك كرسي المحراب الذي وُقف عام 651 هـ /1253 م، فكان عدد العقارات المحبسة عليه 21 عقارًا، (12 عقارًا للقراءة في الصباح، و 9 عقارات للقراءة في المساء)، وكان هذا الكرسي مخصَّصًا في بدايته لتدريس تفسير القرآن الكريم للثعالبي وحلية الأولياء لأبي نعيم، ثم أضيف إليه لاحقًا كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، وكتاب الشفاء للقاضي عياض
(4)
.
ويُعدُّ كرسي الفقيه الونشريسي من أثرى الكراسي العلمية وأغناها بالقرويين؛ لذا كان معروفًا لدى الناس باسم كرسي القاضي، فكان من ضمن أحباسه 87 حانوتًا وعقارًا وأرضًا موزعة في أهم جهات المدينة
(5)
.
(1)
انظر: جامع القرويين، التازي، 2/ 402.
(2)
انظر: بيوتات فاس الكبرى، ابن الأحمر، 23.
(3)
انظر: تاريخ التعليم بالمغرب، الحسين إسكان، 82، ومؤسسة الأوقاف وأهميتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية بمدينة فاس، السعيد لمليح، مجلة دعوة الحق، ع 363، 2002 م، 93.
(4)
انظر: دور الوقف في الحياة الثقافية بالمغرب في عهد الدولة العلوية، السعيد بوركبة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب 1996 م، 1/ 164.
(5)
انظر: جامع القرويين، التازي، 2/ 380.
أما كرسي الإمام الورياكلي (880 هـ/ 1475 م) والمخصَّص لدراسة العلوم والفنون؛ فيعدُّ أيضًا من أهم الكراسي التي توالت عليه كبار الشخصيات، وكان الإمام عبد العزيز الورياكلي الملقَّب بالصاعقة من أوائل من ارتبط تاريخهم بهذا الكرسي
(1)
.
وتؤكد الدراسات أن هناك عشرات الكراسي العلمية بجوامع المغرب الأخرى؛ رُصدت لها أوقاف ساهمت في استمرار قيامها ونهوضها بدورها في نشر العلم ودعم مسيرة التنوير التي شجَّع عليها الإسلام وجعلها فريضة على كل مسلم ومسلمة
(2)
.
ولقد تحول الوقف في المغرب في القرن العاشر الهجري إلى تيار اجتماعي عامٍّ لخدمة الغرباء، فتكاثرت المنازل لأبناء السبيل، وظهر لأول مرة موظفون يسألون عن الغرباء للقيام بحق ضيافتهم، ويتحدث الحسن الوزان (المعروف بليون الإفريقي)(ت بعد 957 هـ/ 1550 م) عن الحفاوة التي كان يُستقبل بها الغرباء في المدن والقبائل المغربية، فيذكر أن سكان مدينة "بولعون" شرقي مدينة أزمور شيدوا بناية من عدة غرف لاستضافة الغرباء على نفقة السكان
(3)
، كذلك كان في مدينة "تدنست" بنواحي مراكش ملجأ خاصًّا بإيواء الفقراء والغرباء وإطعامهم
(4)
، ويُذكر أيضًا أن سكان مدينة "المدينة" شرقي مراكش قاموا ببناء دار لضيافة الغرباء
(5)
، وكان هناك في مدينة "تاكوليت" بنواحي مراكش أربعة ملاجئ للفقراء
(6)
.
وكان في مدينة مكناس في المغرب أوقاف للمساجين عبارة عن سبعة حوانيت يُنفق ريعها على المساجين
(7)
، ونصَّت الست فاطمة عثمانة - وهي من أشهر المحسنات الواقفات في تونس - أن يُصرف من ريع وقفها ما يكفي لشراء طعام وشراب للمساجين المحبوسين في سجن القصبة
(8)
.
(1)
انظر: جامع القرويين، التازي، 2/ 377 - 381.
(2)
انظر: دور الوقف في الحياة الثقافية بالمغرب في عهد الدولة العلوية، السعيد بوركبة، 1/ 164.
(3)
انظر: وصف إفريقيا، ليون الإفريقي، 122.
(4)
انظر: المرجع السابق، 78.
(5)
انظر: المرجع السابق، 80.
(6)
انظر: المرجع السابق، 79.
(7)
انظر: أوقاف مكناس في عهد مولاي إسماعيل (1082 - 1139 هـ)، رقية بلمقدم، 2/ 369.
(8)
انظر: صور من التكافل الاجتماعي، د سلامة البلوي، 41.
ومن أجمل الأوقاف التي خُصِّصت لأبناء السبيل والغرباء لإيناسهم وإبعاد الوحشة عنهم وقف "مؤنس الغرباء" في مدينة فاس، حيث كان هناك مجموعة من المؤذنين يحيون الليل بالمناوبة، كل منهم يسبح الله نحو ساعة بصوته الرخيم، ويسمى هذا المؤذن "مؤنس الغرياء"، أو "مؤنس المرضى"؛ لأن الغريب والمريض لا يقدر أن ينام في بعض الأحيان، فليس له أنيس أحسن من هذا المؤذن الذي يشجيه بصوته الجميل في تسبيح الباري تعالى في ساعات الليل الأخيرة
(1)
.
ولم يغفل أهل الخير في أوقافهم الحرص على توفير الحمامات للغرباء والفقراء، فقد كان في تونس "وقف للاستحمام" مجانًا للفقراء والغرياء، حيث كان هناك مكان محدد توضع فيه صرة من الدراهم، في كل صرة مقدار أجرة الحمام، فيدخل المحتاج إلى الحمام فيدفعها بعينها ويستحم
(2)
.
واشتُهر "وقف الخبز" في الغرب الإسلامي؛ فكان في مدينة "تطوان" المغربية - على سبيل المثال - ما يربو على عشرين أسرة، وقف أفرادها أوقافًا من أجل توفير الخبز للمحتاجين صباح يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، ومن هذه الأسر: أسرة العطار، والخطيب، والصفار، واللبادي، وغيرها، كما يوجد في معظم المدن المغربية أوقاف من أجل الخبز الذي يوزع على المحتاجين
(3)
.
ومن الأوقاف الطريفة في تونس وقف لمن وقع عليه زيت مصباح أو تلوَّث ثوبه بشيء آخر، يذهب لهذا الوقف ويشتري به ثوبًا آخر
(4)
.
(1)
انظر: الحضارة العربية الإسلامية، شوقي أبو خليل، 337.
(2)
انظر: المرجع السابق، 336.
(3)
انظر: معطيات الحضارة المغربية، عبد العزيز بنعبد الله، 2/ 33، وقد استمرَّ وقف الخبز في المدن المغربية حتى عام 1319 هـ/ 1901 م. انظر: الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية، محمد المكي الناصري، 171.
(4)
انظر: الحضارة العربية الإسلامية، شوقي أبو خليل، 336 - 337. وعن وقف الملابس انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 255.
وخصَّص بعض المغاربة جزءًا من أوقافهم لصالح الحرمين الشريفين، فقد وقفت أم قاسم المرادية السفيانية
(1)
ثروتها الطائلة لبناء محطات لخدمة الحجاج، وتزويدهم بالماء والطعام والمأوى لهم ولدوابهم من آسفي إلى مكة المكرمة، حيث بنت على بُعد كل بريد (50 كم) فندقًا من طابقين؛ طابق لاستراحة الحجاج وتزويدهم بالأكل والدواء، وطابق للدواب لأكلها واستراحتها ودوائها، وتعويض ما مات منها.
ومن جهتهم، تنافس أهل الأندلس أيضًا في بناء المدارس ووقف الأوقاف لخدمة طلبة العلم، وتعد "المدرسة النصرية" بغرناطة التي وقفها الحاجب رضوان عام 750 هـ /1369 م، وحبس عليها الأحباس الجليلة
(2)
.. من أشهر المراكز التعليمية في الأندلس بعد مسجد قرطبة، وقد حازت هذه المدرسة شهرة واسعة، حتى أجمع المؤرخون تقريبًا على اعتبارها أول المدارس في الأندلس، كما أنها المدرسة الوحيدة التي حُفظت بعض أجزائها إلى يومنا هذا
(3)
.
وقد حرص واقفو المدارس والكتاتيب والمساجد أن يُلحقوا بكل واحد منها خزانة كتب، فانتشرت المكتبات في الأندلس، وأُثر عن المؤرخ ابن حيان الأندلسي (ت 745 هـ / 1344 م) أنه كان يعيب على مشتري الكتب، وكان يقول: الله يرزقك عقلًا تعيش به! أنا أي كتاب أردته أستعرته من خزائن الأوقاف وقضيت حاجتي
(4)
.
ويذكر "المقري" صاحب كتاب "نفح الطيب" أنه وجد في قرطبة وحدها إبان عزّها (35) مكتبة مفتَّحة الأبواب لجميع الناس، أما على مستوى الأندلس فكان فيها على وجه العموم (70) مكتبة عامة تشتمل على آلاف الكتب
(5)
.
(1)
كانت في القرن الثامن الهجري، وهي إحدى الأميرات التي تنحدر من بيت علم ومال، ووالدة قاسم المرادي الذي يعد من أبرز علماء النحو واللغة والتفسير.
(2)
وقد عرفت هذه المدرسة بعدة أسماء منها: المدرسة اليوسفية، ومدرسة غرناطة، والمدرسة العلمية، أنشئت في عهد السلطان الغرناطي أبي الحجاج يوسف الأول (723 - 755 هـ/ 1333 - 1365 م). انظر: الإحاطة، ابن الخطيب، 1/ 516.
(3)
انظر: تاريخ التعليم في الأندلس، محمد عبد الحميد عيسى، القاهرة، دار الفكر الغربي، 1982 م، 390.
(4)
انظر: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقري، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968 م، 7/ 379 - 377.
(5)
انظر: شمس العرب تسطع على الغرب، زيغرد هونكة، ترجمة: فاروق بيضون، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982 م، 499.
ومن مكتبات المساجد المشهورة في الأندلس، مكتبة المسجد الجامع بقرطبة التي أسسها الخليفة الأموي "الحكم المستنصر" عام 350/ 961 م، وعيّن فيها عددًا كبيرًا من المجلدين
(1)
، ومكتبة مسجد الزهراء، ومكتبة مسجد مالقة
(2)
، ومكتبة مسجد طليطلة، حيث كانت من المكتبات الشهيرة التي كان يقصدها حتى الطلبة النصارى من مختلف أنحاء أوروبا
(3)
.
وإذا علمنا أنه كان في قرطبة في منتصف القرن الرابع الهجري ثلاثة آلاف مسجد، وأن المساجد في عاصمة صقلية "بلرم" كانت في كل زقاق، وأنه كان فيها ثلاثمائة كتاب في مدينة واحدة، وكان بعضها يتسع لآلاف الطلبة حسب رواية "ابن حوقل" في كتابه "صورة الأرض" .. أدركنا كم كانت الثقافة منتشرة آنذاك، وكم كانت الأمة حريصة على نشر العلم
(4)
.
وأخيرًا لم تنس الحضارة الإسلامية من رفقها وعطفها: الحيوان؛ فأحاطته بكل رعاية، فوقف أهل الخير ممن مُلئت نفوسهم بالرحمة واستجابوا لتوجيهات الكتاب والسنة في هذا الشأن عشرات الأوقاف لرعاية تلك العجماوات، فوفروا لها الحياة الكريمة، وعاقبوا من قصَّر في العناية بها، ووقفوا لها أحواض المياه، ووقفوا لمن تقدَّم به السنُّ منها المروج الخضراء، ووفروا للقطط الضالة المأوى والطعام، ووفروا العلاج للطيور المهاجرة إذا تعرَّضت للكسر، وغيرها من الأوقاف التي لا يتسع المجال لبسطها
(5)
.
(1)
انظر: التكملة لكتاب الصلة، ابن الأبّار، 1/ 190.
(2)
انظر: قرطبة في العصر الإسلامي، أحمد فكري، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1983 م، 123.
(3)
انظر: تاريخ المكتبات الإسلامية في الأندلس، رضا سعيد مقبل، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب جامعة المنوفية، 2001، 89.
(4)
انظر: من روائع حضارتنا، مصطفى السباعي، 129، والبيان المغرب، ابن عذاري، 2/ 232 - 234.
(5)
انظر لمزيد من التفاصيل: الرفق بالحيوان، د. سلامة البلوي، مكتبة الصحابة، الشارقة، 2003 م.