الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: مسائل مختلف فيها لدى الفقهاء القائلين بصحة وقف غير المسلم:
ثم اختلف الفقهاء القائلون بصحة وقف الكافر في بعض التفاصيل، نذكرها فيما يأتي
(أ) وقف الذمي:
الذي نسبة إلى الذمة، والذمة في اللغة بمعنى العهد، والذمي في اصطلاح الفقهاء: الكافر الذي أعطاه الإمام العهد
(1)
، كما أن الذمي نسبة إلى الذمة؛ أي العهد من الإمام بالأمن على نفسه وماله، في نظير التزامة الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيه
(2)
.
واختلف القائلون بصحة وقف الذمي فيما يصح وقفه إلى أربعة أقوال:
القول الأول: صحة وقف الذمي، بشرط أن يكون قرية عندنا وعندهم، نص عليه الحنفية، وهو مقتضى عبارات المالكية، ومثّلوا له بالوقف على الفقراء أو على مسجد القدس، بخلاف الوقف على بِيَعَة؛ فإنه قربة عندهم فقط، أو حج أو عمرة فإنه قرية عندنا فقط
(3)
، وقالوا: يجوز أن يعطي المساكين المسلمين وأهل الذمة، وإن خص في وقفه مساكين أهل الذمة جاز، وتفرق على اليهود والنصارى والمجوس منهم، إلا إن خص صنفًا منهم، فلو دفع القيم إلى غيرهم؛ كان ضامنًا وإن قلنا: إن الكفر ملة واحدة
(4)
، وأضافوا: لو وقف الذمي على ولده ونسله وجعل آخره للمساكين؛ جاز
(5)
،
(1)
انظر: شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل، وبهامشه حاشية المسماة تسهيل منح الجليل، الشيخ محمد عليش، 1/ 285.
(2)
انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 3/ 116.
(3)
انظر: رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي الحنفي المشهور بابن عابدين، 4/ 341.
(4)
انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلبِي، فخر الدين عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الحنفي، الحاشية: شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن يونس بن إسماعيل بن يونس الشِّلبِيّ، 3/ 324.
(5)
انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلبِي، فخر الدين عثمان بن علي بن محجن البارعي الزيلعي الزيلعي الحنفي، الحاشية: شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن يونس بن إسماعيل بن يونس الشِّلبِيُّ، 3/ 324.
وقال المالكية: لا يصح وقف الكافر في قرية دينية، فيبطل عندهم وقف الكافر لمثل مسجد ورباط وجهاد وحج وأذان مما يتعلق بدين الإسلام، وفي سماع ابن القاسم من المالكية: إن حبس ذمي دارًا على مسجد رد، وروى ابن معن في نصرانية بعثت بدينار للكعبة فرده عليها مالك، أما وقفهم في منفعة عامة دنيوية كبناء قنطرة، وكسبيل ماء، ونحوها .. فيصح عند الحاجة
(1)
.
القول الثاني: صحة وقف الذمي فيما لا يعتقده قربة إعتبارًا باعتقادنا، وهو مذهب الشافعية، ومثلوا له بالوقف على المصاحف والكتب العلمية، كما يصح عندهم وقفهم للمسجد
(2)
.
القول الثالث: أن ما لا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي، وهو مذهب الحنابلة، وبناء على هذا الأصل يصح الوقف على القريب من مسلم وذمي ونحو ذلك من القرب؛ كالربط والخانات لأبناء السبيل، كما يصح وقف نمي على ذمي معين غير قريبه، وشرط استحقاقه ما دام ذميًا لاغٍ، ويستمر له إذا أسلم بطريق أولى، ويصح الوقف على من ينزل الكنائس والأديرة ونحوها من مارٍ ومجتاز فيها فقط؛ لأن الوقف عليهم لا على البقعة، والصدقة عليهم جائزة.
أما لو كان الوقف على من يمر بها أو يجتاز من أهل الذمة فقط؛ فقد اختلف فقهاء الحنابلة فيه على رأيين:
الرأي الأول: لم يصح لبطلان الوقف على اليهود والنصارى، قال الحارثي: وهو المذهب كما في شرح المنتهى.
(1)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، 4/ 78 - 79، والتاج والإكليل لمختصر خليل، أبو عبد الله المواق محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي المالكي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1416 هـ/ 1994 م، 7/ 635، وشرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل (وبهامشه حاشية المسماة تسهيل منح الجليل)، الشيخ محمد عليش، 4/ 42.
(2)
انظر: الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، زين الدين أبو يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي، 3/ 365.
الرأي الثاني: يصح، قاله ابن مفلح في الفروع نقلًا عن المنتخب.
وفي صحة وقف الذمي على الكنائس وشبهها رأيين أيضا:
الرأي الأول: لا يصح الوقف على كنائس وبيوت نار وبيع وأديرة ومصالحها كقناديلها ووقودها وسدنتها، نص عليه الحنابلة؛ لأنه معونة على معصية
(1)
.
والرأي الثاني: يصح الوقف الذي على البيع والكنائس، قاله الإمامية؛ لأن الذمي يعتقد التقرب به إلى الله تعالى، فيقر على دينه؛ لأنه لا بد له من متعبد
(2)
، وقالوا: لو وقف الذمي على الفقراء انصرف إلى فقراء نحلته
(3)
.
القول الرابع: أن الوقف من الذمي لا يصح، وهو ظاهر مذهب الزيدية؛ لأنه يُشترط في الواقف التكليف والإسلام؛ بناء على أن القرية لا تصح من غير المسلم
(4)
.
إلا أنه حكي الخلاف في تفسير وجوب الإسلام في الوقف، هل المراد به نفي الصحة، قياسًا على الهبات والعطايا؟ أم أنه صحيح مع عدم القبول لصدقته؛ كما يدل عليه قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}
(5)
؟ فعدم القبول لا ينافي عدم الصحة؛ لأن مانع القبول ليس مانعا للانعقاد، بل الإحباط فرع الصحة؛ حيث لا يُحبط إلا موجود، ولهذا وردت أحاديث: "لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلًا
(6)
في كثير من فسَّاق المسلمين
(7)
.
(1)
انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، 4/ 245:247.
(2)
انظر: مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة السيد محمد جواد الحسيني العاملي، 21/ 609.
(3)
انظر: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، 1/ 457.
(4)
انظر: ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار، الحسن بن أحمد الجلال، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، ط 1، 1429 - 1430 هـ/ 2008 - 2009 م، 6/ 90، والبحر الزخار الجامع لمذاهب الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضي، دار الكتاب الإسلامي، ج 5/ 150.
(5)
سورة التوبة، آية 54.
(6)
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه المعروف بصحيح البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري، رقم الحديث (7300).
(7)
انظر: ضوء النهار المشرق على صفحات الأزهار الحسن بن أحمد الجلال، 6/ 90 - 91.