الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن الوقف في العصر المملوكي (648 - 923 هـ/ 1250 - 1517 م)
وصل الوقف إلى قمة الازدهار في هذا العصر الذي امتد أكثر من قرنين ونصف من الزمان، فقد انتشرت الأوقاف انتشارًا عظيمًا، وتعزز دورها في المجتمع، وأصبح الإشراف عليها مسؤولية يتولاها جهاز منظم في الدولة، كما تعددت مصادر الأوقاف وأوجه الصرف منها في هذا العصر، حتى شملت جوانب كثيرة من حياة المجتمع المعاصر آنذاك.
لقد كان للأوقاف في هذا العصر الأثر الأبرز في ازدهار الحياة العلمية، وانتعاش الحياة الاقتصادية، واستقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية في المناطق التي خضعت لنفوذ المماليك، كما أن الأوقاف أضفت الشرعية على حكم المماليك؛ حيث أظهرتهم بمظهر المجاهدين المحسنين بعد أن أعادوا الاعتبار إلى الخلافة العباسية بعد سقوطها ببغداد بثلاث سنوات، ثم دحروا التتار، وطهروا سواحل الشام من بقايا الصليبيين، ووقفوا كثيرًا من الأوقاف التي لاقت ترحيبًا وقبولًا من الرعية.
وقد عرفت الأوقاف في عصر المماليك ثلاثة دواوين للإشراف عليها، ديوان الأحباس يترأسه "دوادار السلطان"، ويعاونه عدة كُتّاب ومُدبّر، وتشمل اختصاصات هذا الديوان في مصر الأراضي التي خصِّصت للقيام بمصالح المساجد والزوايا ونحوها من جهات البر، ويختص الديوان الثاني بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة، ويترأسها قاضي القضاة الشافعي، ويقال لمن يلي هذا الديوان:"ناظر الأوقاف"؛ والذي كان من صلاحياته الإشراف على الأوقاف المحبوسة على الحرمين الشريفين، وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القرب، ويشرف الديوان الثالث على الأوقاف الأهلية، ولها ناظر خاص، وهو من أولاد الواقف، أو أولاد السلطان، أو القاضي، ومن أبرز أوقاف هذا الديوان: الأراضي الموقوفة من أعمال بلاد مصر والشام وبلاد أخرى على الخوانق والمدارس والمساجد والترب، وقد خُصِّص النوعان الأول والثالث من الأوقاف لبناء المؤسسات العلمية والدينية؛ لذلك نالت نصيب الأسد من هذه الأوقاف
(1)
.
(1)
انظر: الخطط والآثار، المقريزي، 2/ 295 - 296.
ويذكر القلقشندي أن وظيفة "ناظر الأحباس" كانت وظيفة عالية المقدار، يتحدث صاحبها في رُزُق الجوامع والمساجد، والأربطة، والزوايا، والمدارس .. من الأرضين المفردة لذلك
(1)
، ومن ناحية أخرى كان للأوقاف عامة أثرها الاقتصادي المؤثر في شتى المجالات، فمن عائداتها أنفق على المؤسسات التعليمية ودور الثقافة والمشافي كما قال بروكلمان
(2)
.
ويعد الاهتمام بالأيتام مظهرًا بارزًا من مظاهر حركة الوقف في العصر المملوكي، فقلما يوجد سلطان أو أمير إلا وقف للأيتام مكتبًا لتعليمهم والصرف عليهم، وقلما وجد مسجد في العصر المملوكي لا يوجد بجواره مكتب لتعليم الأيتام، بل إن بعض السلاطين أحدثوا في بعض الأمصار الإسلامية منصب "ناظر الأيتام" بعد أن كثرت الأوقاف المخصصة لهم
(3)
.
وقد استرعت انتباه الرحالة ابن جبير ظاهرة كثرة المدارس والمحاضن التي تُعني بالأيتام في المشرق، فقد عدَّها من أغرب ما يحدث به من مفاخر البلاد الشرقية من العالم الإسلامي، ثم ذكر بعض ما شاهده من أمور مرتبة لهؤلاء الأيتام
(4)
.
ولم تتوقف رعاية الأيتام على توفير المأكل والكسوة والمساعدات المادية فقط، بل حرص الواقفون على توفير الأدوات التعليمية؛ مثل: الأقلام، والمداد، والألواح، والدورى (المحابر)، والحصر التي يجلسون عليها، وقد حرص الواقفون في نصوص وقفياتهم على الأيتام على تحديد كل ما يتعلق بالأيتام ورعايتهم بتفصيل دقيق، ومن ذلك تحديد المناهج وطرق التدريس، والتأديب والتربية، فضلًا عما اشترطوه من مواصفات محددة في المؤدب
(5)
.
(1)
انظر: صبح الأعشى، القلشقندي، 4/ 37 - 39 و 253 - 255 و 11/ 248.
(2)
انظر: تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان، ترجمة: نبيه فارس ومنير البعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، طـ 5، 1968 م، 371.
(3)
انظر: حماية القاصرين في نظام الوقف ببلاد المغرب والأندلس، د. وداد العيدوني، مجلة أوقاف، الكويت، ع 13، السنة السابعة، شوال 1428 هـ.
(4)
انظر: رحلة ابن جبير، ابن جبير، 245.
(5)
انظر: الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر (648 - 923 هـ/ 1250 - 1517 م)، د. محمد محمد أمين، 265 - 269.
ويأتي السلطان "الظاهر بيبرس" على رأس قائمة السلاطين المماليك الذين اهتموا بالأيتام وبالأوقاف وتنظيمها، والمحافظة عليها من الاغتصاب والتعدي عليها، فقد استعاد عددًا من الأوقاف التي اغتصبت قبل توليه السلطة
(1)
، وأنشأ مكتبًا للسبيل بجوار مدرسته، وقرر لمن فيه من الأيتام المسلمين الخبز في كل يوم، بالإضافة لكسوة الشتاء والصيف، وكذلك أنشأ السلطان "قلاوون" مكتبًا لتعليم الأيتام، ورتَّب لكل طفل جراية في كل يوم، وكسوة في الشتاء وأخرى في الصيف
(2)
، كما وقف "الطواشي ظهير الدين مختار" - أحد أمراء دمشق في القرن السابع الهجري مكتبًا للأيتام على باب قلعة دمشق، ورتَّب لهم رواتب شهرية وكسوة، وكان يشرف عليه بنفسه، ويجري لهم الاختبارات بنفسه، ويفرح بذلك
(3)
.
ومن أبرز مآثر "الظاهر بيبرس" أيضًا أنه أنشأ وقفًا أطلق عليه "وقف الطرحاء"؛ برسم تغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم
(4)
، وقد انتشرت أوقاف مغاسل الموتي في مصر وغيرها، والتي كانت تتكون عادة من عمارة كبيرة تضم مغسلًا للموتى، ينقسم إلى قسمين: أحدهما خاص بالرجال، والآخر خاص بالنساء، أما المصلاة الملحقة بالمغسل فكان بها ميضأة بها فسقية للماء؛ فضلًا عن حوض لسقي دواب المشيعين، وقد وجد في القاهرة في القرن التاسع الهجري الخامس عشر ميلادي ما ينيف على خمسة عشر من هذه المغاسل والمصليات، ومن أشهر هذه المغاسل التي كانت تُقام على أطراف المدن بالقرب من المقابر ما أقامه الأمير "يَشْبَكُ بن مهدي" قرب مدرسة السلطان حسن، عند الطرف الشمالي الشرقي من مدينة القاهرة، وذلك عام 873 هـ / 1469 م، وقد أشار إليه كل من السخاوي وابن تغري بردي وابن إياس.
(1)
انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين أحمد النويري، مخطوط دار الكتب المصرية رقم 549، معارف عامة، 28/ 343.
(2)
انظر: المؤسسات الاجتماعية في الحضارة العربية الإسلامية (موسوعة الحضارة العربية الإسلامية)، سعيد عبد الفتاح عاشور، 3/ 343.
(3)
انظر: البداية والنهاية، ابن كثير، 14/ 78.
(4)
انظر: الحياة الاجتماعية بالمدينة الإسلامية، سعيد عبد الفتاح عاشور، مجلة عالم الفكر، أبريل - مايو - يونيو 1980 م، 11/ 112.
ولعل من أشهر الأوقاف التي عرفتها القاهرة في العصور الوسطى "البيمارستان الكبير المنصوري" أو "دار الشفاء"، أو "مارستان قلاوون" الذي ابتناه السلطان "قلاوون" في عام 683 هـ/ 1284 م، وقد نصت وقفية البيمارستان على توفير العلاج والطعام والمراوح المصنوعة من الخوص؛ لتخفيف حدة الحر عن المرضى، وأن يصرف للمريض عند خروجه من البيمارستان مبلغًا من المال، فضلًا عن تحمل نفقات تكفين من يموت في البيمارستان ودفنه
(1)
، وقد أثنى الرحالة ابن بطوطة على هذا البيمارستان بقوله:"وأما المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك المنصور قلاوون؛ فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعمد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصى، ويذكر أن مجباه ألف دينار كل يوم"
(2)
، وقد وقف الملك "المنصور" عليه كثيرًا من الأملاك والحمامات والفنادق والأحكار والضياع في مصر والشام، كانت تغل ما يقارب مليون درهم في كل سنة، ورتب مصاريف المارستان، والقبة والمدرسة، ومكتب الأيتام، وجاء في نص وقف هذا المجمع الصحي الاجتماعي الثقافي: أنه على الملك والمملوك والكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة، ومن مات جهزه وكفنه ودفنه، وكان في هذا البيمارستان كل التخصصات الطبية، ورتب الفراشين والفراشات، والقومة لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام، وجهزت الأسرة والفرش لكل مريض، وأفرد لكل طائفة من المرضى أمكنة تختص بهم، وأفردت أماكن لطبخ الطعام والأشربة والأدوية والمعالجة وتركيب الأكحال، ورتب فيه مكان يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء الدروس على طلبة الطب، وكان لا يتولى الإشراف على هذا البيمارستان إلا الوزراء ومن في معناهم، وكان السلطان المملوكي يصدر بنفسه مراسيم تعيين المدرسين في البيمارستان، وكانت كل الخدمات العلاجية تقدَّم مجانًا
(3)
.
(1)
انظر: الحياة الاجتماعية بالمدينة الإسلامية، سعيد عبد الفتاح عاشور، مجلة عالم الفكر، أبريل - مايو - يونيو 1980 م، 11/ 114 - 115.
(2)
رحلة ابن بطوطة، ابن بطوطة، 1/ 70 - 71.
(3)
انظر لمزيد من التفاصيل: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى، 13 - 149، والخطط والآثار، المقريزي، 2/ 407، ونهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين أحمد النويري، 3/ 106 - 107، وصبح الأعشى، القلقشندي، 11/ 249، وتاريخ ابن الفرات، ابن الفرات، 8/ 23 - 26.
ويسجل التاريخ المملوكي زيادة ملحوظة في عدد المدارس الوقفية بمختلف تخصصاتها، فيذكر الرحالة ابن بطوطة أن عدد المدارس في مصر لا يمكن حصره لكثرتها
(1)
، ويذكر المقريزي أنه كان في مصر في العصر المملوكي (75) مدرسة
(2)
، وكان في القدس (40) مدرسة وقفية
(3)
، وفي دمشق عشرات المدارس، وهكذا في كل المدن الرئيسة في الشام، ومصر، واليمن، والحجاز، وسوف نذكر نماذج من تلك المدارس في بعض المدن لتكتمل الصورة عن حركة الوقف في هذا المجال الحيوي.
فقد كان في القدس وحدها - على سبيل المثال - أربعون مدرسة وقفية في العصر المملوكي، ولعل المدرسة الأشرفية التي تقع في رواق بيت المقدس الغربي، والتي وقفها السلطان المملوكي "الأشرف قايتباي" .. من أغنى المدارس أوقافًا، فقد كانت أوقافها تتألف من 28 قرية، منها 22 قرية تابعة لغزة، و 14 مزرعة وقطعة أرض، وبساتين وحمام، ودكاكين، ومعصرة، وخان، وفرن بغزة، وقد بلغ عدد العقارات الموقوفة على هذه المدرسة 52 عقارًا
(4)
، وكانت تدفع للطالب 45 درهمًا شهريًا، ولناظر المدرسة 600 درهم شهريًا، وكان شيخها يتقاضى 510 درهمًا شهريًا
(5)
.
وتُشير المصادر إلى "المدرسة الظاهرية" في دمشق، التي وقفها "الظاهر بيبرس" عام 662 هـ/ 1264 م، ووقف عليها الأوقاف، وخصص لها مكتبة ضخمة تحتوي سائر العلوم، في حين تخصصت "المدرسة الدُّنَيسَريَّة "بالطب التي وقفها "عماد الدين الربيعي الدُّنَيسَريُّ"(686 هـ/1287 م)؛ الطبيب المشهور، والمدرسة الطبية الأخرى
(1)
انظر: رحلة ابن بطوطة، ابن بطوطة، 1/ 33.
(2)
انظر: الأوقاف ونظام التعليم في العصور الوسطى الإسلامية، د محمد محمد أمين، ندوة مؤسسة الأوقاف، ص 150 حاشية رقم 6.
(3)
مؤسسة الأوقاف ومدارس بيت المقدس، كامل العسلي، 95، وانظر لمزيد من التفاصيل عن الوقف المملوكي في القدس: الأوقاف الإسلامية في القدس الشريف: دراسة تاريخية موثقة، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإسطنبول، 2009 م، 2/ 142 - 330.
(4)
انظر: مؤسسة الأوقاف ومدارس بيت المقدس، كامل العسلي، 95 - 97.
(5)
انظر: المرجع السابق، 104 - 115.
هي "المدرسة اللبودية النجمية" التي أنشأها "نجم الدين اللبودي" (670 هـ/ 1272 م
(1)
، وقد حظيت "المدرسة التنكزية" التي وقفها الأمير المملوكي "سيف الدين تنكز" نائب الشام عام 730 هـ/ 1330 م بكثير من الأوقاف؛ منها: خان، وحمامان، وعدد كبير من الدكاكين، ودور مختلفة، وقرية عامرة تُدعى "عين قينية" قرب رام الله
(2)
، وكانت المدرسة التنكزية" تدفع للفقيه المنتهي 20 درهمًا شهريًا، ونصف رطل خبز يوميًا، وللفقيه المتوسط 15 درهمًا شهريًا، ونصف رطل خبز يوميًا، وللفقيه المبتدئ 10 دراهم شهريًا، ونصف رطل خبز يوميًا، ولطالب الحديث 7 ونصف درهم فضة شهريًا، وثلث رطل زيت، وثلث رطل صابون شهريًا، وكان راتب المدرس 60 درهمًا فضيا شهريًا وثلثا رطل خبز يوميا، وراتب شيخ المحدثين 40 درهمًا، ورطل من الخبز يوميا، وراتب شيخ الصوفية 60 درهما شهريًا، وثلث رطل زيتون، وثلث رطل صابون، ورطل من الخبز يوميًا
(3)
.
أما "المدرسة الباسطية" المخصصة للأيتام في القدس؛ فكان اليتيم يتقاضي في عام 834 هـ / 1931 م (15) درهمًا شهريًا، وكان يعطى في عيد الفطر (30) درهمًا بدل كسوة، وكانت المدرسة الحسنية تدفع للطالب (10) دراهم شهريًا وربع رطل خبز في كل يوم
(4)
.
وتميزت مدينة دمشق بكثرة مدارسها، فقد كان فيها سبع دور للقرآن الكريم، منها "دار القرآن الخَيُضَريّة"(887 هـ /1482 م)، التي أنشأها قاضي القضاة محمد الخَيضَريِّ ووقف عليها أوقافًا كثيرة، و "دار القرآن الجزرية"، التي وقفها شمس الدين الجزري (751 - 833 هـ/ 1350 - 1430 م)، و "دار القرآن السنجارية"(735 هـ / 1335 م)، و"الصابونية" التي أنشأها شهاب الدين الصابوني (833 هـ/ 1430 م)، وقد شرط
(1)
انظر: الدارس في تاريخ المدارس، عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي، 2/ 127.
(2)
انظر: مؤسسة الأوقاف ومدارس بيت المقدس، كامل العسلي، 97 - 98.
(3)
انظر: المرجع السابق، 104 - 115.
(4)
انظر: المرجع السابق، 102.
الواقف فيها قراءة البخاري كل ثلاثة أشهر، وبنى مكتبة لعشرة أيتام مع شيخ يدرسهم
(1)
، و "دار الحديث البهائية"(723 هـ/1323 م)، و "دار الحديث الحمصية"(742 هـ/1362 م) .. وغيرها
(2)
، وكانت هناك ثلاث مدارس جمعت بين القرآن والحديث؛ وهي: دار القرآن والحديث الصبانية (738 هـ/ 1338 م)، ودار الحديث المعبدية (746 هـ/ 1345 م)، ودار القرآن والحديث التنكزية (741 هـ/ 1341 م).
وقد حرص الواقفون في العصر المملوكي على أن يلحقوا بكل مدرسة خزانة كتب، يشرف عليها خازن للكتب (أمين للمكتبة)، وقد حددت وثائق الوقف المملوكي مهمة أمين المكتبة بالتفصيل
(3)
، ومن الجدير بالذكر أنه توافرت عدة عوامل أدت إلى ازدهار المكتبات في العصر المملوكي؛ منها: بذل السلاطين والأمراء الأموال لاقتناء الكتب، واشتداد التنافس بين العلماء في طلب العلم، وحرصهم على اقتناء الكتب، وتوجه المجتمع نحو الاعتناء بالكتب فنيًا؛ من حيث النسخ والتجليد والتذهيب والحفظ، والتباهي والتفاخر بذلك كمظهر اجتماعي يدل على الثراء والثقافة، وساعد على ذلك انتشار الأسواق المتخصصة بصناعة الكتاب، فضلًا عن وراثة المماليك للمكتبات الأيوبية الكثيرة والمتنوعة، ناهيك عن هجرة العلماء مع كتبهم من الأندلس، عندما بدأت المدن الأندلسية تتهاوى بأيدي الإسبان، إلى جانب هجرة علماء بغداد بعد نكبتها على يد التتار، فالمكتبة المملوكية كان لها الفضل بعد الله في حفظ تراث الأمة من الضياع، بعد أن أحرق التتار الكتب عند دخولهم بغداد عام 656 هـ / 1258 م؛ لذا لا غرابة أن نرى جلَّ المخطوطات من الكتب المحفوظة في دور الكتب المحلية والعالمية تعود للعصر المملوكي وقد تعددت المكتبات الموقوفة في العصر المملوكي، فوجدت مكتبات المساجد، ومكتبات المدارس، والمكتبات الخاصة، ومكتبات الزوايا والأربطة، فقد كان جلُّ المساجد ملحق بها مكتبة، فإذا علمنا بأن المساجد تعد بالآلاف أدركنا درجة الثقافة التي وصلت إليها الأمة آنذاك، يقول المقريزي: إن عدد المساجد التي يصلى بها
(1)
انظر: الدارس في تاريخ المدارس، عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي، 1/ 3.
(2)
انظر: المرجع السابق 1/ 12 - 13 و 129 وما بعدها.
(3)
انظر: الخطط والآثار، المقريزي، 2/ 245.
الجمعة في القاهرة لوحدها (130) مسجدًا
(1)
، ويقول خليل بن شاهين الظاهري (873 هـ/1468 م): إن بمصر والقاهرة داخل السور وخارجه ألف خطبة ونيف
(2)
، ولعل من أشهر مكتبات المساجد مكتبات المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، والمسجد الأموي بدمشق، والأزهر الشريف، وغيرها، كما أن جلَّ البيمارستانات الكبرى كان ملحق بها مكتبات لخدمة العلماء وطلبة العلم.
وقد انتشرت ظاهرة وقف الزوايا، والربط، والخانقاوات في العصر المملوكي، مع انتشار التصوف واتساع نطاقه في هذا العصر، حيث عدَّ المقريزي (26) زاوية في القاهرة وحدها، وكانت هذه الزوايا عبارة عن دور علم وعبادة، ومكان إقامة للمتصوفة والفقراء والأيتام
(3)
، كما زادت عدد الخانقاوات زيادة كبيرة، وارتبط اسم كثير منها بأسماء كبار شخصيات الدولة من السلاطين والأمراء، ويكفي أن يُشار إلى خانقاه سرياقوس" الذي أنشأه "الناصر محمد بن قلاوون" عام 725 هـ/ 1325 م؛ لنعرف ما وصلت إليه الخانقاوات في العصر المملوكي من الشمول في الخدمات والارتقاء في التنظيم، حتى ذُكر أنه بها مائة خلوة المائة صوفي، وبجانبها جامع تقام فيه الجمع، ومكان برسم ضيافة الواردين، وحمام ومطبخ .. وغير ذلك من المرافق المساعدة
(4)
.
ويذكر للمرأة المملوكية بصماتها الواضحة في دفع عجلة الوقف بكل أنواعه، فقد قامت "تذكار باي خاتون" ابنة السلطان الظاهر بيبرس عام 684 هـ/ 1285 م بوقف "رباط البغدادية" الذي خصصته للنساء، حيث كانت تودع فيه النساء اللائي
(1)
انظر: الخطط والآثار، المقريزي، 2/ 245.
(2)
انظر: زبدة كشف وبيان الطرق والمسالك، خليل ابن شاهين، تصحيح: بولس راويس، القاهرة، دار العرب، ط 2، 1988، 31.
(3)
انظر: الخطط والآثار، المقريزي، 2/ 930 - 136، والحركة الفكرية في مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي الأول، عبد اللطيف حمزة، القاهرة، دار الفكر العربي، 1968 م، 105.
(4)
انظر: السلطان الناصر محمد بن قلاوون ونظام الوقف في عهده، د حياة الحجي، 161 - 174.
طلقن أو هجرن من أزواجهم وليس لهن ولي حتى يتزوجن، وجعلت فيه شيخة تعظ النساء وتشرف على توجيههن، وبقي هذا الرباط يقوم بدوره الاجتماعي الراقي حتى القرن التاسع الهجري
(1)
، كما يذكر لفاطمة خاتون" حفيدة السلطان قانصوه الغوري: بناء المسجد الكبير في جنين، حيث عينت له إماما وخطيبًا حسن الصوت، وخصصت لهما راتبًا شهريًا
(2)
، ويذكر لـ"خَوَند تَتَر" ابنة السلطان الملك الناصر محمد من قلاوون وقف "المدرسة الحجازية"، ومكتب السبيل بجوارها؛ حيث كان يتم فيه تدريس الأيتام المسلمين، ويُجرى عليهم في كل يوم من الخبز خمسة أرغفة لكل يتيم، ومبلغ من المال، فضلًا عن الكسوة في الصيف والشتاء
(3)
.
وتؤكد الوثائق والمصادر التاريخية والآثار القائمة والمدرسة أن المماليك جعلوا من رفد الحرمين الشريفين بالأوقاف همهم الأول، فهناك على سبيل المثال (128) وثيقة وقفية تعود للعصر المملوكي محفوظة في دار الوثائق القومية ووزارة الأوقاف في مصر .. تنص على أوقاف على الحرمين الشريفين
(4)
، ويعد السلطان المملوكي "الأشرف شعبان" من أشهر سلاطين المماليك الذين وقفوا أوقافًا ضخمة، شملت مصارف كثيرة، وصلت إلى توفير الإبر والخيوط للفقراء بمكة المكرمة، وقد ضمَّن أوقافه تلك في وثيقة الوقف التي كُتبت عام 777 هـ/ 1375 م، والتي يبلغ طولها (40 مترًا)، وقد فصلت هذه الوثيقة تفصيلًا دقيقا لمواضع الأعيان الموقوفة، وطرق صرفها، وقد جاء من ضمن المصاريف ما خُصِّص نفقته على صائدي الهوام والحشرات في الحرم المكي، ونفقات كسوة وأكفان دفن الموتى، والإبر والخيوط للفقراء في مكة.
(1)
انظر: الخطط والآثار، المقريزي، 2/ 27 - 428.
(2)
انظر: الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق، د. عكرمة صبري، 434.
(3)
انظر: الوقف والمجتمع - نماذج وتطبيقات من التاريخ الإسلامي، يحيى محمود جنيد، مؤسسة اليمامة الصحفية، سلسلة كتابة صحفية، الرياض، ع 39، 17، 1417 هـ، 56.
(4)
انظر: أوقاف السلطان الأشرف شعبان على الحرمين، راشد بن سعد القحطاني، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1414 هـ، 107.
وتذكر المصادر أيضًا أن السلطان "الملك الصالح" ابن السلطان الملك الناصر قلاوون اشترى قريتين، وقفهما على عمل كسوة الكعبة الشريفة والحجرة النبوية، ولما ضعفت غلة هاتين القريتين قام السلطان العثماني "سليمان القانوني" في عام 947/ 1540 م بوقف قرى أخرى؛ ليصبح عددها عشر قرى موقوفة بالكامل على كسوة الكعبة والحجرة النبوية والمنبر النبوي، ولم تزل موقوفة على ذلك حتى حلَّ وقفها محمد علي باشا في أوائل القرن الثالث عشر الهجري
(1)
.
وهكذا استمر الاهتمام بالأوقاف وتنظيمها في العصر المملوكي، وبالذات في عهود كل من: الظاهر بيبرس، والسلطان حسام الدين لاجين، والسلطان الناصر بن محمد قلاوون، وابنه الناصر حسن، وكان لهذه السياسة أثر إيجابي في تنظيم الوقف وازدياد متحصلاته وشمول نفقه لشريحة كبيرة من طبقات المجتمع، كما يلاحظ أن الأوقاف في العصر المملوكي كانت تميل إلى العمل المؤسسي المتكامل، فكانت الأوقاف في هذا العصر تشتمل على عدة مرافق تهتم بالروح والجسد والعقل، كما يلاحظ ظهور حقول جديدة من الوقف لم تكن موجودة في العصور السابقة، ولكن على وجه الإجمال فإن الاهتمام بالثقافة، والمساجد والزوايا والربط، والحرمين الشريفين كان يمثل ظاهرة واضحة في هذا العصر، كما كان للمرأة لمساتها المبدعة في هذه الحقبة التاريخية؛ إذ انصب جهدها على تقديم خدمات وقفية مميزة ولخدمة المرأة، كما هو الحال في "رباط البغدادية"، وسيتضاعف هذا الإثمار والجهد وتزداد الأوقاف ازدهارًا في العصر العثماني؛ حيث تظهر إبداعات جديدة في الحقل الوقفي، الذي يمثِّل معلمًا من معالم رقي الحس الإنساني والاجتماعي للأمة الإسلامية.
(1)
انظر: كسوة الكعبة المعظمة عبر التاريخ، السيد محمد الدقن، مطبعة الجبلاوي، 1406 هـ، 95 - 149، وتاريخ الكعبة المعظمة - عمارتها وكسوتها وسدنتها، حسين بن عبد الله باسلامة، الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، 1419 هـ.، 321.