الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهم جميع الكفار، فحمل ها هنا مرةً على لفظ (من) فوحد لقلتهم، ومرةً على المعنى فجَمع، لأنهم وإن قلّوا جماعة، وجمع ما في يونس ليوافق اللفظ المعنى.
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) .
جواب لو محذوف ليكون أبلغ، لأن المخاطب يترك مع غاية تخيّله.
ووقعت (إذ) موضع إذا التي هي لما يستقبل، وجاز ذلك، لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبَّر عنه كما يعبَّر عن الماضي الوقوع.
و (وُقِفوا) معناه: حُبسوا، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا، ووقفت غيري.
قال الزهراوي: وقد فرّق بينهما في المصدر، ففي المتعدي وقفت وقْفاً، وفي غير المتعدي وقفت وقوفاَ.
ويحتمل أن يكون وقوفهم على النار دخولهم فيها، ويحتمل إشرافهم عليها
ومعايَنَتها.
فإن قلت: ما فائدة تكرير الوقوف؟
فالجواب: لأنهم أنكروا النارَ في القيامة، وأنكروا جزاءَ اللهِ ونكالَه في النار.
فختم بقوله: (فَذوقوا العذابَ بما كنْتم تكفرون) .
وهذه استعارةٌ بليغة، والمعنى باشروه مباشرةَ الذائق، إذ هي من أشد المباشرات.
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) :
هذه الآية ابتداء كلام على تأويل الجمهور، وإخبار عنهم بهذه المقالة لإنكارهم البَعْثَ الأخروي.
فإن قلت: ما فائدة إسقاط قولهم: (نموت ونحيا) ، في هذه الآية؟
والجواب: لأنها عند كثير من المفسرين متّصلة بقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) .
وقالوا: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، ولم يقولوا ذلك بخلاف ما في سائر السور، فإنهم قالوا ذلك، فحكى الله عنهم.
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) :
هذا ابتداء خبر عن حال الدنيا، والمعنى أنها إذا كانت فانيةَ منقضية لا طائل لها أشبهت اللهو واللعب الذي لا طائل له إذا انقضى.
فإن قلت: قد قدم اللعب في أكثر الآيات وفي بعضها أخّره، فهل لذلك
وَجْه؟
والجواب: إنما قدم اللعب في الأكَثر، لأنه زمان الصبا، واللهو زمان
الشباب، وزمان الصبا مقدَّم على زمان اللهو، يبَينه قوله في الحديد:(اعلموا أنما الحياةُ الدنيا لعب) ، كلعب الصبيان، ولهو كلهو الشباب.
وزينة كزينة النساء، وتفاخر كتفاخر الإخوان، وتكاثر كتكاثر السلطان.
وقريب من هذا في تقديم لفظ اللعب على اللهو قوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) ، وقدم اللهو في الأعراف، لأن ذلك في القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأ بما بدأ به الإنسان انتهاء من الحالتين.
وأما العنكبوت فالمراد بذكرهما ذكر زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء، (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) ، أي الحياة التي لا أَمد لها ولا نهاية لأَمدها، فبدأ بذكر اللهو، لأنه في زمان الشباب كما فدمنا أنه أكثر مِنْ زمان اللعب.
(ولَلْدار الآخرة خَيْر) :
سميت الآخرة لتأخرها عن الدنيا.
وقرأ الستة من القراء: و (للدَّار) بلامين والآخرة نْعت للدار.
وقرأه ابن عامر وَحْدَه: ولَدَار - بلام واحدة، وكذلك وقع في مصاحف الشام بإضافة الدار إلى الآخرة، وكذلك هو لَدَار الحياة الآخرة.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: أفلا تعقلون، على إرادة المخاطبين، وكذلك في الأعراف وفي آخر يوسف، ووافقهم أبو بكر في آخر يوسف، وإنما قال فيها:(ولَدَار الآخرة) بالإضافة، لأن ما قبلها في هذه السورة:(وما الحياة الدنيا) ، فالدنيا
صفة للحياة، كذلك جعل الآخرة صفة للدار، ولأنه في المصاحف بلامين إلا
في مصحف الشام، وما في يوسف بلام واحدة على الإضافة، فوافقوا المصاحف، وقراءة ابن عامر على الإضافة موافقةٌ لمصحفهم، واعتباراً بما في يوسف.
ويقَوّي ما في هذه السورة ما في الأعراف: (والدار الآخرة خير) .
(وقالوا لولا نزِّلَ عليه آيةٌ) :
الضمير عائد على الكفار.
ولولا تحضيض بمعنى هلاّ.
ومعنى الآية: هلا أنزل على محمد بيانٌ واضح لا يَقَع معه توقف من أحد، كمَلَك يشهد له، أو غير ذلك مِنْ تشططهم المحفوظ في هذا فأمِر عليه السلام بالردِّ عليهم بأن الله عز وجل له القدرة على إنزال تلكَ
الآيات، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، أنها لو نزلت ولم يؤمنوا
لعوجلوا بالعقوبة.
ويحتمل: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، أن الله تعالى إنما جعل الإنذار في آيات معروضة للنظر والتأمّل ليَهْتدِيَ قومٌ ويضِلَّ آخرون.
فإن قيل: ما وَجْه إفراد الآية هنا وجمعها في العنكبوت، ولِمَ طلبوا
الآية وقد أتى بمعجزات وآيات؟
فالجواب: أن (لولا) في الآيتين تحضيض، وإنما يجري في كَلَامِه عندما
يراه المتكلم به أولى أو أهمّ في مقصود ما أو أتمّ في مطلب ما، إلى أشباهِ هذا، مما يستدعي التحضيض، فأفردوا هنا الآية لما قصدوه من أنه عليه السلام لو جاءهم بآية واحدةٍ من الضَّربِ الذي طلبوه.
أما آية العنكبوت فقد تقدَّم قبلها: (بل هو آيات بيناتٌ)، وقال بعدها:(وما يَجْحَد بآياتنا)، وقال بعدها:(قل إنما الآيات عند الله) ، فلم يكن ليناسب بعد اكتناف هذه الجموع توحيد آيةٍ، ثم إن هذه الآية لم يتقدمها من التهديد وشديد الوَعيد ما تقدَّم آيةَ الأنعام، فناسب ذلك ورود
الفعل غير مضعَّف.
وجاء ذلك كلّه على ما يجب.