الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت إخراجهم إياهم من أرضهم عقوبةٌ ناشئةٌ عن عدم العَوْد، فهلاّ
قالوا: لتعودنّ في مِلَّتِنا أو لنخرجنَّكم من أرضنا؟
فالجواب أنَّ المقام مقام التخويف، فلذلك بدأوا بالإخراج.
(قال الْمَلَأ من قَوْم فِرْعون) :
حكى الكلامَ هنا عن الْمَلَأ، وفي الشعراء، عن فرعون، فكَأنه قد قاله هو وهمْ، أو قاله هو ووافَقوه عليه كعادة جُلساء الملوك في اتَباعهم لما يقولون لهم.
(قالوا إنَّ لَنَا لأجْراً إنْ كنَّا نَحْن الغالبين) :
هذا من قول السحرة، طلبوا الأجر من فرعون إنْ غَلَبوا موسى.
فإن قلت: لِمَ ورد هنا مجيء السحرة عقب قوله: (يأتوك بكل ساحر
عليم) ، وأُخِّرَ جمعهم ومجيئهم في الشعراء، فقال:(فجُمِعَ السحرة) : الآيات المذكورة فاصلة؟
فالجواب أن فيها إطناب يناسبه ما تقَدَّمَ من ذلك في مجاورة موسى عليه
السلام ومكالمتَه فرعون مِن لَدن قوله تعالى: (وإذ نادى ربُّك موسى أن ائْتِ
القومَ الظالمين) .
إلى هذه الآية، ولم يقع في قصصه عليه السلام في السّوَر الوارد فيها قصصه من الإحالة في مراجعة فرعون مثل الوارد هنا، فناسب ما أعْقَب به مما لم يقع الإخبارُ به في الأعراف.
ولما كان الوارد قَبْلَ آية الأعراف مَبْنِيًّا على الإيجاز وتحصيل المراد بأوجز كلام - ناسبَه إيجاز الآية المذكورة، ووردَ كلّ مِنْ ذلك على ما يجب ويناسب.
(قال نعم وإنكمْ لَمِنَ الْمقَرَّبين) :
لما طلبوا الجُعل من التقريب من فرعون أنعم لهم بذلك، فهذا عطف على معنى نعم.
كأنه قال للسحرة: نُعطيكم أجركم، ونقرِّبكم، واسم رئيسهم يومئذ شمعون أو يوحنَّا.
فإن قلت: ما وَجْهُ حذفِ " إذًا " هنا وإثباتها في الشعراء؟
والجواب أن ذلك من الإطناب المذكور، وأيضاً فهي مضمرةٌ مقدرة،
ومعناه: إن غلبتم قَرَّبْتكم، ورفعْتُ منزلتكم، فهي جزاء.
وورد في الشعراء مفصحاً، ليناسب بزيادتها ما مضَتْ عليه آي هذه السورة من الاستيفاء والإطناب.
(قالوا يا موسى إمّا أنْ تلْقِيَ وإما أنْ نكونَ نحْن الْملْقين) :
(أنْ) هنا في موضع نصب، أي إما أن تفعل الإلقاء.
ويحتمل أن تكون في موضع رفع، أي إمّا هو الإلقاء.
وخَيَّر السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر، وهذا فِعْل العَدْل الواثق بنفسه.
والظاهرُ أن التقدّم في التخييلات والمخارق أحجج، لأن بديهتها تمضي في النفوس، فلما أراد الحقّ أن يُظْهرَ نبوءةَ موسى قوَّى نفسه ويقينَه، ووثَّقه بالحق، فأعطاهم التقدم، فبسطوا وسرّوا حتى أظهر اللَّهُ الحق وأبطل سَعْيهم.
فإن قلت: ما معنى اختلاف كل السحرة وتخييرهم في الإلقاء؟
والجواب لأنه كان في موطنين، أو لعله كان قد تكرر منهم، أو لعل بعضَهم
قال هذا وبعضهم هذا، أو لعل المعنى الذي حكي عنهم تعطيه العبارتان، وهذا أقرب شيء لما بين اللغات من اختلاف المقاصد عند الواضع الأول، أو قَصَد الإيهام على الخلاف في ذلك، ومع هذه الإمكانات يسقط الاعتراض رأساً.
(قال فرعون آمنْتم به قبل أن آذَنَ لَكمْ) .
هذا قول فرعون دليل على وَهَن أمره، لأنه إنما جعل إذْنَهم مفارقاً لإذنه، ولم يجعله نفس الإيمان إلا بشرط.
والضميرُ في (به) يحتمل أن يعودَ على اسم الله تعالى، ويحتمل أن يعودَ على موسى عليه السلام، وعنَّفَهم على الإيمان قبل إذنه ثم ألزمهم
أن هذا كان من اتفاق منهم، فقال لهم موسى: إن غلبتكم أتؤْمنون بي، فقالوا له: نعم، فعلم بذلك فرعون، فلهذا قال:(إن هذا لمكر مَكَرْتموه) ، أي صنيع صنعتموه في مصر، لتستولوا عليها، فلسوف تعلمون ما أفْعل بكم.
فإن قلت: ما وجْهُ إظهار اسم فرعون في هذه الآية، وحذفه من طه؟
والجواب لأنه تقدَّمَها قوله: (قال الملَأ من قوم فرعون) ، فعرفت هذه الآية أنهم كانوا متولّين للتجربة من تكذيب الآية، ورَدّ ما جاء به موسى عليه، ولم يجر هنا ذِكر لفرعون ولا فيما يلي الآية َ ويَتْلوها من المجاورة والمراجعة بين الملأ وأتباعهم إلى قوله:(رَبِّ موسى وهارون)، فلما لم يقع إفصاح باسمه في هذه الجملة مع أنه ليس القائل على كل حال:(آمنتم به) غير فرعون وإنْ بَعُدَ ذلك، ولو لم يكن ليس ألبتة، فإن كونه لم يجْرِ له ذِكر مما يقتضي أن يذكر.
ولما تقدم في سورة طه أَمْر موسى عليه السلام بإرساله إلى فرعون في قوله
تعالى: (اذهَب إلى فرعونَ إنه طَغَى)، وقوله لموسى وهارون:
(اذهبا إلى فِرعَوْن إنه طَغَى) ، ثم كرر ذلك، ثم وقع بعد ذلك
سؤال فرعون لهما في قوله: (فَمنْ رَبُّكما يا موسى) ، فتكرّرُ اسم
فرعون ظاهر ومضمر، ولم يجرِ للملأ به ذِكْراً مفْصِحاً به ظاهراً ألبتَّة ولا
مضمراً سوى الجاري مضمراً في قوله: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) ، إلى ما بعد هذا - من غير إظهارِ ألبتَّة، فلتكرر اسم فرعون كثيراً ظاهراً ومضمراً، وارتفاع اللبْس ألبتَّة، حَسُن إتْيَانه مضمراً في قوله:(قال آمنتم له) ، إذ ليس الوارِد هناك كالوارِد في الأعراف للافتراق من حيث ما ذكرنا.
(قد جاءكم الفَتْح) :
إن كان الخطاب للكفّار فالفَتْح هنا بمعنى الحكم، أي قد جاءكم الفتح الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقَتْل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين فالفَتْح هنا يحتمل أن يكونَ بمعنى الحكم، لأنَّ الله حكم لهم.
أو بمعنى النصر.
(قالوا: سمِعنَا وهم لا يسمعون) :
أي سمعنا بآذاننا، وهم لا يسمعون بقلوبهم، فسماعُهم كَلَا سَماع.
(وقاتِلُوا الْمشْرِكِينَ كَافَّةً) ، أي في الأشهر الحرم، فهذا
نسخ لتحريم القتال فيها.
(وكافة) حال من الفاعل أو المفعول.
(قالوا لا تَنفِروا في الْحَرِّ) :
قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفَر إلى تَبوك في الحر، فأمر الله نبيّه أن يقول:(قل نَار جهنم أشدُّ حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فحرارةُ هذا السفر دفعت حَرَّ نارِ جهنم، وكذلك الجوع والتعب الذي ينال الإنسان في الدنيا يقابَل في الآخرة بضده.
(قعد الذينَ كذَبوا اللَهَ ورسولَه) :
هم قوم لم يعتَذِروا وكذَبوا في دعواهم الإيمان، إذ لو كانوا صادقين لم يتخلَّفوا عن رسول الله، فأخبر اللَّهُ رسوله بأنه سيصيب الذين كفروا منهم عذابٌ أليم.
(قَدَّرَه مَنَازِل) :
الضمير للقمر، والمعنى قَدَّرَ سيْرَه في المنازل، ليعلموا عددَ السنين والأشهر والأيام والليالي، ويكون القدر بمعنى التقدير، كقوله تعالى:(إنّا كلَّ شَيء خلقْنَاه بقَدَر) .
وبمعنى التصوير، كقوله تعالى:(فقَدَرْنَا فنعم القادرون) ، يعني
صوَّرنا، وبمعنى الوجود، كقوله تعالى:(إلا امْرأته قَدَّرْناها من الغابرين) ، وبمعنى القضاء، كقوله تعالى:(فالتقى الماءُ على أمر قَدْ قدِر) .
وبمعنى التضييق، كقوله:(ومَنْ قدِر عليه رِزْقه) ، (فظَن أنْ لن نَقْدِر عليه) .
وبمعنى التسوية، كقوله تعالى:(نحن قَدَّرنا بينكم الموتَ) .
وبمعنى المثل، كقوله تعالى:(فسالت أودِية بقَدَرِها) : أي بمثلها، ومنه سميت القدرية قدرية، لأنهم يقولون بمثل قول المجوس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: القدرية مجوس هذه الأمة.
(قَدَم صِدق عند ربهم) ، أي عملَ صالح قدَّموه.
وقال ابن عباس السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ.
وقيل غير هذا.
والظاْهر أنه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن أمته قدموه بين أيديهم.
(قال الكافرون إنَّ هذا لسِحر مبِين) : يعنون به ما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وعلى قراءة - الساحر - فيعنون به سيدنا ومولانا محمداً صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسيراً لما ذكر قبل مِن تعجبهم من النبوءة، أو يكون خبراً مستأنفاً.
(قادِرونَ عليها) ، أي متمكنون من الانتفاع بها.
(قَتَر) ، أي غبار يغبِّر الوجه، وهذا كقوله تعالى:(وجوه يومئِذٍ عليها غَبَرَةّ تَرهقها قتَرة) .
والقتور من التقتير.
(قوماً صالحين) ، أي بالتوبة والاستقامة، وقيل صالحين مع أبيهم يعقوب، فانظر كيف سوَّفوا التوبةَ، وعلموا أنهم أخطأوا الصواب، ولا يُنسب لهم الخطأ، لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم وقع منهم هذا قبل النبوءة لا
بَعدَها (1) .
(قال: لا يَأْتِيكمَا طَعَامٌ ترزَقَانِه) ، تقتضي أنه وصفَ لهما نفسه بكثرة العلم، ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله، وفيها وجهان:
أحدهما أنه قال ذلك يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا مِن طعام قبل أَنْ
يأتيهما، وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء.
والآخر أنه قال: لا يأتِيكما طَعام في المنام أخبرتكما بتأويله قبل أنْ يظهر تأويله في الدنيا.
(قال الذي نجَا منهما) : هو ساقي القوم.
(قليلاً مِمَّا تأكلون) ، أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج
للأكل خاصة خوفَ ضياعه.
(قال الْمَلِكُ ائْتوني به) :
قبل هذا محذوف، وهو: فرجع
(1) الراجح عند المحققين القول بعدم نبوتهم. والله أعلم.
الرسول إلى الملك فقصَّ عليه مقالةَ يوسف، فرأى عِلْمَه وعَقْله، فقال: ائتوني به.
(قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ) .
لما أمر الملكُ بإخراج يوسف من السجن وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبَرِّئَ نفسه مما نسِب إليه مِن مرَاوَدة امرأة العزيز عن نفسه، وأنْ يعلمَ الملك وغيره أنه سُجن ظُلْما، فذكر طرفاً من قصته لينظرَ الملك فيها، فيتبين له الأمْر، وكان هذا الفعل من يوسف صبرًا وحلماً، إذ لم يُجِبْ إلى الخروج من السجن ساعةَ دعِي إلى ذلك بعد طول المدة.
فإن قلت: قد قال سيدنا صلى الله عليه وسلم:
" رحم الله أخي يوسف، لو لبثت في السجن ما لبث فيه لأجبت الداعيَ ".
وهذا يقتضي أن الإجابةَ أولى من الْمكْثِ فيه؟
والجواب أن هذا عنه صلى الله عليه وسلم على جهة الْمَدْح ليوسف والتواضع منه صلى الله عليه وسلم، وإلا فصَبر يوسف في السجن فيه فوائد، منها: إظهار منزلته عند الملك وتبرئته مما قِيل، وليزدادَ منزلةً عنده فيصير سائساً للدولة وحافظاً، ألا تراه كيف قال:
(اجعَلْني على خزائنِ الأرضِ إنَّي حفيظٌ عَلِيم) ، وإنما طلب
منه الولاية شفقةً على عباد الله، ورغبةً في العدل، وإقامة الحق والإحسان إلى
الضعفاء من عباد الله، لأن هذا الْمَلِكَ كان كافراً فأسلم لمَّا رأى من حسن
سيرته، وكَمْ له في هذه الولاية من المصالح الدينية والدنيوية، والمراد بخزائن
الأرض أَرض مصر، لأن الملك لم يملك غيرها، فتأسَّ يا محمدي بهذه الأخلاق
الكريمة، واجتهد في إصلاح هذه الأمة: وَقِّرْ كبيرهم، وارحم صغيرهم، وتجاوَزْ عن مسيئهم، ألا ترى الصدِّيقَ لم يذكر امرأة العزيز مع ما كان منها من الإساءة، بل ذكر النسوة اللاتي قطَّعْنَ أيديهنَّ، وعفا عن إخوته فما صدر منهم، هكذا أولو العَزْم في معاملتهم مع أمّة نبيهم، تعلموا منه الصفْحَ والإحسان، فعامَلُوا أمته بسَتْرِ ذوي العصيان والدعاء لهم بالرحمة والإحسان، راجين بذلك معاملةَ الله لهم، وكما تَدِين تدَان.
فإن قلت: هل يجوز لنا الاقتداء بمَدْح يوسف لنفسه؟
والجواب أنه مدح الصفتين اللتين أودعهما الله فيه، فالمدحُ إنما هو للهِ لا
لنفسه، ولولا ذلك لهلك الْخَلْق.
وقد أخبره اللَهُ أن صلاح هؤلاء العامة إنما يكون بسببه لصبره على بلائه، وكذلك أنتَ يا محمدي إذا جُهل أمرك، ورجوت صلاح إخوانك، فلا ينبغي لك السكوت، لما فيه من المصلحة، هذا إن رجوت
بذلك منفعة غيرك، ولذلك استحبَّ للعلماء لُبْس الجيّد، والتشبّه بأرباب الدنيا، لأن العامة لا تقبل كلامَ رَثِّ الهيئة، ولا تلتفت إليه، فضلاً عن سماع كلامه، ورَضي الله عن السيد الذي طُولب بولاية القضاء ففرَّ منها، فلما كان بغَدٍ أعطي أَلف دينار، فقال له الملك: بالأمس هربت منها، والآن أرشيت عليها، فقال: بالأمس كان غيري أَولى بها، والآن أعتقْتُ هذه الأمة ممن يريد أكلها، هكذا كانوا رضي الله عنهم، يراعون مصلحة الأمة رَعْياً لنبِيها، ويَرْحمونها لوصيته عليها.
فيا أبناء الطريقة ورجال الحقيقة، استَوْصوا خيراً بهذه الخليقة، وخصوصاً
بهذه الأمة، فاخفضوا لها جناحَ الذل من الرحمة ولا توحشوها ما أنستها مِنْ رَبّها ونبيها، وعاملوا الكلّ على الإطلاق بمكارم الأخلاق، صلوا مَنْ قطعكم، وأعطوا مَنْ حرمكم، واعفوا عمن ظلمكم، وإن لم يكونوا لها أهلاً فكونوا أنتم لها أهلاً.
(قال إني أَنا أخوك) .
أي قال يوسف لأخيه: إني أنا أخوك واسْتَكْتَمَه الأمر.
وحبسه بتهمة السرقة، فكتب إليه يعقوب وقال لموصله: انظره، فإنْ نظر فيه وتغيَّرَ لوْنُه فاعلم أنه يوسف، ثم قال له في كتابه:
إن الله اصطفاك فاستحال عليكَ اسمُ السرقة، كذلك مَن اصطفاه اللَّهُ يستحيل أَن تنسبه إلى السرقة، فلما نظر يوسف إلى الكتاب تغيَّرَ لوْنه، فقال للرسول: مِثْلُ هذا الكتاب لا يقرَا إلا في الخلوة، ثم قرأه وبكى كما قدمنا.
وأنت يا محمديّ اصطفاكَ ربّك في الأزَل، وأخرجك في خير الملل، وبعث
إليك خاتم الأنبياء والرسل، وخاطبك بكتابه الذي ليس له مِثْل، فامتَهَنْتَه ولم
تلتفت إليه، بل وصفْتَ نَفْسك بشرِّ الخصال، وعرَّجْتَ عليه كأنكَ لم تصدِّق
بالمآل، ولم تعرِف أنكَ تُرض عليه عند الموت ويوم السؤال، وتطالب - مع هذا الْجَوْر والقصور - بالتنعم باللذات والحبور، أنت تعلم ما تقاسي على صفة منتنة، وما تحتاج إليه من مؤونة، وتريد الوصولَ إلى الجواري الحسان اللاتي لم يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ ولا جان، هؤلاء الملائكة مع جليل قَدْرهم، وكَثْرَة عبادتهم، يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عَبَدْنَاكَ حقَّ عبادتك، ولو استكثرت أعمالهَا لتباعدت من خالقها، يقول تعالى في بعض كتبه:
" أيطلب أحدكم الجنةَ بقيام الليل، والحاريس
يحرسُ ليلةً بدانِقَيْن، فكيف يمنّ عليَّ بليْلةٍ، وهي تساوي دَانِقين، أخذت بزيّ كسرى وقيصر، وتريد أنْ ترافِقَ أحبابي! وَيْحَك اعرض نفسك على كتابي تجد فيه وصفَ أحبائي وأعدائي، وانظر إلى أيِّ الصنفين أنْتَ أقرب، فإنكَ بهم يوم القيامة تلحق.
كيف تأمن مَكْرِي، أو تطلب جواري، ولست تدري في أي
الفريقين أنتَ يوم الميثاق حيث قلت: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، أَم حين خلقتك في ظلمات ثلاث، وكتب عليك ملَكُ الأرحام بالشقاوة أو السعادة، أو يوم المطلع حين تبَشَّر برضائي أو سخطي، أم يوم يصير الناس أشتاتاً، ولا تدري أي الطريقتين تَسْلك، فمحقوق صاحبُ هذه الأخطار ألا يلتفت إلى الأغيار، ولا يتشبه بالأحرار، ما حيلتكَ إذا اضطجعْتَ في حفرتك، وانصرف المشيعون من جيرانك، وبكى كلُّ غريب عليك لغُرْبتك، ودَمَع عليك المشفقون مِن عشيرتك، وناداكَ من شَفِير القبر ذو مَوَدَّتك، ورحمك المعادي عند صَرْعتك، ولم يَخْفَ على الناظرين عَجر حيلتك، فإن كنت عندي حبيباً، وإليَّ قريباً، أحسن ضِيافتك، وأكون أشفق من قرابتك، وأقول لملائكتي: فريد قد نعاة الأقربون، ووحيد قد جفاهُ الأهلون، فأشْفِقوا عليه وارحموه، ويا هوامّ لا تقربوه، ويا أرض توسمعي عليه ولا تؤذيه، ويا رضوان افتح عليه مِنْ نعيم ما يُؤْنِسه ويغذيه، (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
(قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا) :
هذا الكلام من إخوة يوسف على وَجْهِ الاستعطاف، لأنهم كانوا أعلموه بشدة محبَّةِ أبيه.
(قال كَبببرهم) ، أي في السن، وهو روبيل، أو في الرأي، وهو شمعون، وقيل يَهوذا.
(قال بل سوَّلَتْ لكم أنْفسُكم أمْراً) ، قبله محذوف، تقديره: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له: (إن ابنكَ سرق) ، عند الجمهور بفتح السين وضمها وشدّ الراء وتخفيفها، فقال:(بل سوَّلَتْ لَكم أنْفسكم) ، لأنه علم أَنَّ كلَّ ذلك لم يكن.
(قال: يا أَسَفَى عَلَى يوسف) :
تأسَّف على يوسف دون أخيه لإفراط محبته فيه، ووَحْشَته له، ومصيبته كانت السابقة، فجدّدت له هذه الثانية وَحشَته.
وهكذا عادته فيمن أحبَّ غيره ابْتلي بفراقه، فلا تجعل محبك ومحبوبك إلا
مَن لا يفارقك.
وروي أن يوسف عليه السلام جاءه رجل فقال له: إني أُحبُّك.
فقال: لا تفعل، أحبَّني أبي فعمي بصره، وألقيت في الجب، وامرأة العزيز
أحبَّتني فابتليت بالملامة، وحُبست في السجن، وكذلك سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم أحبَّ جبريل فابتلي بحَبسه عنه مدةً، وأحبَّ مكةَ فابْتلي بالخروج منها، وأحبَّ عائشة فابْتلي بقصة الإفْك، كلّ هذا غيرةً منه سبحانه على أحبابه، ليكون شغلك يا محمدي بالله لا بغيره إن فهمت، وإلا فهكذا يُفعل بك.
(قالوا أإنَّكَ لأنْتَ يوسف) :
قرئ بالاستفهام والخبر، فالخبر على أنهم عرفوه، والاستفهام على أنهم توهَّموا أنه هو ولم يحقِّقوه.
(قال أبوهم إنِّي لأجِدُ رِيحَ يوسف) .
كان يعقوب ببيت المقدس، ووجد ريح القميص، وكان مع يوسف في بيته زماناً لا ريح له، فلما فصلت العِير اتَّصل ريحه بيعقوب.
كذلك قلبك يا محمدي مع مالك خزانتك،