الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يَثْرِبَ) :
مدينة الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وسُمّيَتْ به حكاية عن
المنافقين، وكان اسمها في الجاهلية، فقيل لأنها اسم أرْض هي في ناحيتها.
وقيل سُميَتْ بِيَثْرب بن مهلائيل من بني إرم بن سام بن نوح، لأنه أول مَنْ
نزلها.
وقد صحَّ النَّهْى عن تسميتها به، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره الاسْمَ الخبيث، وهو يُشعر بالتثريب، وهو الفساد، أو التثريب، وهو التوبيخ.
ومنه: (لا تَثْرِيبَ عليكم الْيَوْمَ يَغْفِر الله لكم) .
وقوله: (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه.
وهو يتعلق بالتثريب أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار.
وقيل: إنه يتعلق بـ (يَغْفر) ، وذلك بعيد، لأنه تحكُّم على الله، وإنما
يغفر دعاء، فكأنه أسقط حقَّ نفسه بقوله:(لا تَثْريب عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أنْ يغفر لهم حقَّه.
(يَقْنُت) :
بالياء حملاً على لفظ من.
وقرئ بالتاء حملاً على المعنى وكذلك (تعمل) .
والقنوت هنا بمعنى الطاعة.
(يومَ تُقَلَّبُ وجوهُهم في النار) .
العامل في (يوم) قوله: (يقولون) ، أو (لا بجدون) ، أو محذوف.
وتقليبُ وجوههم تصريفُها في جهاتِ النار كما تدورُ البضعة في القلب إذا
غلَتْ من جهة إلى جهة، أو تغيرها عن أحوالها.
(يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) :
معنى (مُزِّقْتُمْ) أي بَليتم في القبور وتقطعت أوصالكم، و (كُلَّ مُمَزَّقٍ) مصدر.
(والخلق الجديد) ، هو الْحَشْر في يوم القيامة والعامل في " إذا " معنى (إنكم لفي خَلْق جديد) معمول يُنبئكم، وكسرت إن لللام التي في خبرها، ومعنى الآية أنَّ ذلك الرجل يخبركم أنكم تُبْعَثون بعد أنْ بَليتم في الأرض، ومرادهم استبعاد الحشر.
(يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)
.
الضمير للكفار المنكرين للبعث، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخَلْفهم، لأنهما محيطتان بهم.
والمعنى ألم يَرَوْا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما
قادر على بعْث الناس بعد موتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى تهديدا لهم، لأنه فسره بقوله:(إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بهم الأرض أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء) .
(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) :
الضمير لداود، تقديره: قلنا يا جبال.
والجملة تفسير للفضل.
ومعنى أوّبي سبِّحي، وأصفه من التأويب بمعنى السَّير بالنهار، وقيل كان ينوح فتسعده الجبال بصَدَاها.
(وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على لفظ (يَا جِبَالُ) ، وبالنصب عطف على موضع (يَا جِبَالُ) .
وقيل: هو مفعول معه.
وقيل عطف على (فضلاً) .
(يَبْسط الرزْقَ لمن يشاء ويَقْدر) .
أخبار تتضمن الردَّ على قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) .
لأنَّ بسْطَ الرزق وقبْضه في الدنيا متعلق بمشيئة الله، فقد يوسع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع، وبالعكس.
وقد حكي أن مدينة ببلاد السودان إذا ملكها المسلمون صار أرْضها
ترابا، وإذا ملكلها الكفار صار أرضها تِبْراً، فأسلمها المسلمون للكفار على
إعطاء الجزية، وهذا ليس بعَجيب، إذ لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جناحَ
بعوضة ما سقي كافرٌ جَرْعة ماء.
والمقصودُ منها التقوّت لما يوصل إلى الآخرة.
وحكى وهب بن منبه أنَّ ملكين التقيا في السماء الرابعة يهبطان إلى الأرض، فقال أحدهما للآخر: إن الله أمرني أنْ أوصل الحوتَ الفلانيّ لليهوديّ الفلاني
لأنه اشتهاه.
فقال الآخر: وإن العابد الفلاني يصوم وأراد إفطاره على الخبز
والزيتون، وأمرني أن أهْبِط له.
فانظر هذا، فإنَّ تيسير الشهوات ليس من أسباب السعادة، وإن الله ليذود وليَّه عن الدنيا ويحميه عنها لئلا يشتغل بها،
(ولولا أنْ يكونَ الناس أمَّة واحدة) .
ونحن قد بُسط لنا فيها، وتمتّعْنَا بها، فانظر عاقبتَنا بِمَ تكون!
فإن قلت: ما فائدة تكرار هذه الآية، وإبراز (من عباده) في الثانية من
سورة؟
والجواب: أنَّ الله كرّرها لاختلافِ المقاصدِ، والرد على الكقار في أقوالهم.
وترغيب المؤمنين في الإعراض عنها والرجوع إلى مَنْ بيده مقاليدها.
وأبرز الضمير في ثانية سبأ ترغيباً لعباده في إنفاقها والخروح منها، وسلاّهم بوعده بالخلف، وأنهم إن خرجوا عنها يخلفه لهم، ووَعْده حق، ولهذا أشار عليه السلام بقوله:" ما نقص مالٌ من صدقة ".
فإن قلت: قد وجدناه ينقص في العَدد؟
والجواب أنه ليس بنقص، لأنه لا يأتي عليه إلا أيام قلائِل فيعود أكثر مما
كان، وهذا مشاهدٌ.
وقد يكون الخلف من حيث لا يظنّ.
وقد يكون بالثواب المدَّخر أو بتكفير السيئات، كما قال تعالى:(إن تبْدُوا الصدقات) الآية.
أو بالطهارة، كما قال:(خُذْ مِنْ أموالهم صدقة تطَهِّرهم) ، والإضعاف، قال تعالى:(الذين يُنْفِقُون أموالَهم في سبيلِ الله) .
والقَبول: (هو يَقْبَلُ التوبةَ عن عباده ويأخذ الصدقات) .
وقد جعل الله جميعَ الطاعات على ثلاثة أقسام: جعل على اللسان التوحيد
والذكْر والاستغفار والدعاء، وثوابها عشر أمثالها.
وعلى المال الصدقة والزكاة والنفقة، وثوابُها واحد لسبعمائة.
وعلى القلب الصبر والقناعة والشكر والرضا، وثوابُها بغير حساب.
(يَقْذِفُ بالحق) :
القذف: الرَّمْي، ويستعارُ للإلقاء، فالمعنى يلقي الحقَّ إلى أنبيائه، أو يرمي الباطلَ بالحق فيذهب، ولذلك قال:
(وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) ، فنفى الإبداء والإعادة عبارة عن أنه
لا يفعل شيئاً ولا يكون له ظهور، أو عبارة عن ذهابه.
(يَقْذِفون بالغيْبِ مِنْ مكان بَعيدٍ) .:
معطوف على (كفروا) .
والمعنى أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة، فيقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام:
شاعر أو ساحر، والمكان البعيد هنا عبارة عن بطْلان ظنونهم وبُعْد أقوالهم عن
الحق.
(يَزِيدُ في الْخَلق ما يشاءُ) :
قيل حسن الصوت.
وقيل حسن الوجه.
وقيل حسن الَخطِّ.
والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكةِ، أو يكون على الإطلاق في كل زيادةٍ في المخلوقين.
(يسر) .
بفتح الياء والسين: الرجل الذي يشتغل باليسر، وجمعه أيسار.
وهو القِمَار في النَرْدِ والشطرنج وغير ذلك.
وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب.
وقد قدمنا أن مَيْسر العرب عشرة أقداح، وهي الأزلام لكل واحد
نصيب معلوم من ناقة يجَزّئُونَها عشرة أجزاءٍ، ثم يدخلون الأزلام في خريطة
ويضَعونها على يدي عدل، ثم يدخل يده فيها، فيخرج باسم كل رجل قدحاً، فمن خرج له قدح له نصيب أخذ ذلكَ النصيب، ومن خرج له قدح لا نصيبَ له غرم ثمنَ الناقةِ كلها.
(يَحِيقُ) : يحيط.
(يس) : من أسمائه صلى الله عليه وسلم، ومعناه يا إنسان، بلسان الحبشة، قاله ابن عباس.
وقال سعيد بن جُبير: يا رجل، بلغة الحبشة.
(يَخِصِّمُون) :
أصلُه يختصمون ثم أدغم، ومعناه يتكلمون في أمورهم.
وقرئ بفتح الخاء وكسرها واختلاس حركتها.
(يَحِقَّ القَوْلُ على الكافرين) .
أي يجبُ عليهم العذاب.
(يَسْتَسْخِرُون) :
معناه يسخرون، فيكون فعل واستفعل بمعنى واحد.
وقيل معناه يستدعي بعضُهم بعضاً لأنْ يسخر.
وقيل: يبالغون في السّخْرِية.
(يَقْطين) :
كل شجر لا يقوم على ساق كالقرع والبطيخ ونحوهما.
والمعنى أنَّ الله أنبتَ على يونس لما خرج من بَطْن الحوت القرع
يظله من حَرّ الشمس.
وقد كان رق جلْدُه، وكانت الذباب تؤذيه.
والسرُّ فيه أن ورقَه كبير، ومسّه فيه لين، والذباب لا يقربه، ولذلك قال النقاش: إن من رش بمائه البيت لم يقربه الذباب.
فهذه شجرةٌ منَعَتْ يونس من الإذاية، أفلا تمنَعُ يا محمدي شجرةُ الإيمان من
إذاية الشيطان، وينجيك بركتها من الدخول في النيران، وفي الخبر: لما صَحَّ
يونس، ورجع إلى قومه، وجد الشجرة قد جفّتْ فاغْتَمّ لذلك، فأوحى الله
إليه: اغتممْت على شجرة يبست ولم تغْتَمَّ على هلاك مائة ألف أو يزيدون! (1) .
فلذلك أمر الله نبيّه بالصبر على أمته، والدعاء لهم، فقال: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون.
هؤلاء دعا لهم، واعتذر عنهم، وقد عصوه، وكسروا رباعيته، وشَجُّوا
وجهه، كيف لا يغتم للمصلّي عليه وذاكره وكل ساعة بالسلام عليه.
وقد أمره الله بألَاّ يكون كصاحب الحوت في الفرار من قومه، يعني تفارق
أمتك حين ينزل العذاب عليهم، فقال: رب عامِلْهم بخلاف ما تعامل به الأمم، فأنزل الله تعالى:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) ، بالْخَسف والمسخ، والريح والصواعق، فقال: اللهم إني أعوذ بوجهك من ذلك، فرفع الله عنهم العذابَ وهم كفار ومنافقون، أفَلا يرفَعه عنك يا محمديّ وأنتَ مؤمن به ومصدِّق له! اللهم بحرمته لدَيْكَ لا تحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة.
(يَزِفونَ) ، أي يسرعون.
وقرئ بضم الياء ونصب الزاي، أي يصيرون إلى الزفيف.
(1) لا يصح ولا يثبت.
(يستَمِعُون القولَ فيتّبعُون أحْسنَه) :
يعني يستمعون القولَ على العموم فيتبعون بأعمالهم أحسنَه، من العفو الذي هو أحسنُ من الانتصار، وشِبْه ذلك.
وقيل: هو الذي يسمع حديثاً فيه حسَنٌ وقبيح، فيحدّث بالحسن
ويكفُّ عما سواه.
وهذا قول ابن عباس، وهو الأظهر.
وقال ابن عطية: هو عام في جميع الأقوال.
والقَصْدُ الثناء على هؤلاء ببَصَرٍ ونظر سدِيد يفرِّقون به بين الحق
والباطل، وبين الصواب والخطأ، فيتبعون الأحسن من ذلك.
(ينابيع) :
جمع ينبوع، وهو العين.
(يهيج) :
ييبس، لقوله:(فتراهُ مُصْفَرًّا) .
(يُرِيكم آياتِه) :
يعني العلامات الدّالة على مخلوقاته ومعجزات رسله.
(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) .
من أعظم آيات الرجاء، لسؤال الملائِكة لهم بالرحمة والجنّة.
فإن قلت، حَمَلَةُ العرش والملائكة كلهم مؤمنون به سبحانه، فما فائدة
الإخبار بقوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ؟
والجواب: إظهاراً لفضيلة الإيمان وشرَفه، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياءَ في غير ما موضع من كتَابهِ بالصلاح، كقوله:(ونَبِيّا من الصالحين) .
ومعلوم أن الأنبياء من أهل الإيمان والصلاح، وكما أعقب أعمالَ الخير بقوله:(ثم كان مِنَ الذين آمَنُوا) ، فأبانَ بذلك فَضْل الإيمان.
وقد ذكر الزمخشري أن فيه فائدةً أخرى، وهي أنَّ معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال كسائرِ الخلق لا بالرؤية، وهذه نزعةٌ منه إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤْية الله تعالى.
وتأمَلْ يا محمديّ إلى عظيم التناسب المرعيّ بين قوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ،
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تجد فيه تنبيهاً على أن الاشتراكَ في الإيمان يجبُ
أن يكون أدْعى شيءٍ إلى النصيحة، وأبعثه على إمْحَاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناسُ، وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضيّ قطّ، ولما جمع الإيمان جاء معه التجانس الحقيقي، والتناسب الكلّي، حتى استغفر مَنْ حَوْلَ العرش لمَنْ في الأرض مع عظم أجرامهم وقُوّتهم، قال صلى الله عليه وسلم:
" أذِنَ لي أن أحدِّث عن ملك من حَمَلة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة
سبعمائة سنة ".
فانظر يا محمديّ ما أعظم قيمتك! الأنبياء والملائكة يستغفرون، ونبيّك أمر
إخوانك بالاستغفار لكَ، قال:
" من استغفر لوالديه وللمؤمنين والمؤمنات كل يوم خمساً وعشرين مرَّة أو سبْعا وعشرين - أحد العدديْن - كان من الذين يُسْتجَاب دعاؤهم، ويرزق بهم أهْلُ الأرض ".
ودعاء الأبدال أنْ تقول بعد كلَ صلاة:
اللهم أصْلح أمَّةَ محمد، اللهم ارحم أمةَ محمد، اللهم فَرج عن أمة محمد، اللهم اغفر لأمَّة محمد، ولجميع مَنْ آمن بك.
ولما دحا الله مبسوطَ بساطِ الأرض، ومهَّدَ مِهَادَها لترتيب المكونات فَخَرتْ
عليها السموات، فنكست رأس الانكسار، ومدَّت يدَ الاستعطافِ إلى عين الجود، فجادلها بقَطْعِ حجة مَنْ جادلها:
(يا سماء) :
إنْ كنت فخرتِ بالشمس لظهور الموجودات، فأين مثل شريعةِ نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم في ظهور الغَيْب، شمْسُ السماء لها
أفول، وشمس شريعةِ محمدٍ ليس لها أفول.
وإن افتخرت بحسن القمر ونوره فأينك من حسن سُنَنِه المشرق ونوره إذا
كُسِفت شمسك، وخسف قمرك، فالشفاعة من أهل الأرض، والشافعُ أفضلُ من المشفوع فيه.
وإن افتخرتِ بالنجوم للاهتداء فنجومُ الصحابة معلومة للاقتداء على مقعد
صدق، إن كان من النجوم رجوم للشياطين! فعُمر فقأ عين الرئيس إبليس.
وشهب إيمانه توفيه فترميه فلا يسلك عمر فَجًّا إلَاّ هرب منه إبليس.
وإن فخرتِ باللوح المحفوظ فَلوْح الغيب يكتب بيد الخالق، كتب في
قلوبهم الإيمان.
وإن فخرت بسعة الكرسيّ فأين هو من سعةِ: وسعني قَلْبُ عبدي المؤمن.
وإن فخرت بنفخ إسرافيل للأرواح لإحياء الأجساد فأين أنْتِ من نفخةٍ
حَيِيت بها القلوب إلى يوم التَنَاد.
وإنْ فخرت بعلو مَنْ في العلو من الأملاك فقصيدة الاقتصاد أشهر من " قفَا
نَبْكِ ".
هذا عزرائيل كان إمام المقربين فتنفَّس بنفس فسقي كأس أسف.
هاروت وماروت، استعير لهما شهرة الشهرة فجرى ما جرى، وعند جهينة الخبر اليقين، فكيف بمن عجنت بها طينة تركيبه، وعقل عَقْله بعقال الهدى!
وإن فخرت بالصافّين المسبحين، فكم على أرض الدّجَا من أمة قائمة، كم في
رواشن الأسحار من سمّار المستغفرين.
وإن فخرت بشفقة ميكائيل وحيائه، فكم حيى أحياء بشفقة أبي بكر
وأحبائه.
وإن فخرت بقوَّةِ جبريل وإقدامه فأينك من قوة عمر وإقدامه يوم قال:
واللَه لا يُعْبَد الله سرًّا بعد اليوم، فسرى نحو الكعبة، فسُرِّي عن الإسلام غُمة الغم.
وإن فخرتِ بنزول القَطْرِ لإحياء مَوَات النبات، فأين أنْتِ من سواكب
العبرات لإحياء القلوب الموات، فكم صدرٍ شرح للإسلام، فهو أوسع من سِدْرَة المنتهى.
وإن افتخرتِ بأنَّ الجنة فيك فقد اشتاقت إلى تسليم سلمان إذا تمهد ملك
الجنة للساكن، فالملائكةُ خدّام يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم
ليحظَوْا بحظ الردّ، إنما علا قَدر الْمُقربين لما أطلق لهم من ديوان الخاص والعام، (ويستغفرون للذين آمَنوا) .
وإنْ فخرْتِ بالعرش والطائفين، فأين أنت من البيت والطائفين ما في زاوية
العَرْشِ حَجَر سوّد بالسؤدد أدرج في درجة درج الميثاق.
يوم السبت لما أهبط آدم بمنشور الولاية إلى الأرض مُهِّدت له دار المملكة قبل الوصول، وزينت حرمة الحرم للحرمة والإحرام باب الاستغاثة، وعرفات باب دخول المَسائل لنيل الوسائل، فلما ئني البيتُ أذِن الله لخليله عليه السلام بالأذان على صوْمعة أبي قبيس بتأذين، وأذّن قال: يا ربّ، وأين يبلغ أذاني، قيل: يا إبراهيم منك الأذان وعلينا البلاغ.
فلما دنا النداء من باطن الحجر أوقع من وقع له يوم: (ألستُ بربكم) بفيض
المبلّغ، فتزاحموا على باب الإجابة، شعارهم لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ!
فإن قلت: كيف يصح أن يقال: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) ؟
فالجواب أنَّ الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل وسع
كلَّ شيء رحمتُك وعلمك، ولكن أزيلَ الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى
صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز، لا إغراق في وصفه
بالرحمة والعلم، كأنَّ ذاته رحمة و3علم ويسعان كل شيء، وهذا نحو قولهم: تفقأت شحماً، وتصببت عَرقاً.
فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أنْ يكونَ ما بعد الفاء مشتملاً على
حديثهما جميعاً، وما ذكر إلا الغفران وَحْده؟
والجواب: فاغفر للذين علمْتَ منهم التوبة، واتباعَ سبيلك.
فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائِبون صالحون مَوعودون
بالمغفرة، واللَه لا يُخْلف الميعاد؟
قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدتُه زيادةُ الكرامةِ والثواب.
فإن قلت: هل قيدت هذه الآية الآية المطلقة في حم عسق، وهي قوله:
(ويستَغْفِرُون لمنْ في الأرض) ، لأنه معلوم أنَّ الملائِكة
صلوات الله وسلامه عليهم لا يستغفرون لكافر؟
والجواب: يحتمل أن يكون استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم
بعد ذلك، كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، واستغفار نبينا للمنافقين، ولما تقدم هذه الآية:(غافِرِ الذَّنْبِ وقَابِلِ التَّوْب) ، ناسب استغفارَ
الملائكة للمؤمنين منهم، يَشْهد لهذا قوله بعده (فاغْفِرْ للذين تَابُوا) .
ولما تقدم آية الشورى: (تكاد السموتُ يتَفَطَّرْن من فوقِهنّ) ، ناسب استغفارَ الملائكة لمن في الأرض لإبقاء الستر، إذ لا يفوتونه.
وقد يُؤْمن مَنْ سبقت له السعادة منهم.
(يُرِيكم آياته) :
هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة، ولذلك وبَّخهم بقوله:(فأيَّ آياتِ اللَهِ تنْكرون) .
(تكاد السماوات يَتَفَطَّرْنَ من فَوْقهن) ، أي يتشقَّقْن من
خوف الله وتعظيم جلاله.
وقيل من قول الكفار: (اتَّخذَ الله ولداً) ، فهي كالآية التي في مريم.
قال ابن عطية: وما وقع للمفسرين من ذكر الثقل هنا مردود، لأنَّ الله تعالى
لا يوصَف به.
فإن قلت: لو أراد تشقّق السماء من قوْلِ الكفار لقال مِنْ فوقهم، وما وجْه
اتصال التسبيح والاستغفار من الملائكة بهذه الآية؟
والجواب: أن المعنى تشقق السماوات من أعلاهن، وذلك مبالغة في التهويل.
وقيل الضمير للأرضين، وهذا بعيد.
وقيل للكفار، كاْنه قال من فوق الجماعات
الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات تتَفَطرْن.
وهذا أيضاً بعيد.