الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) .
أي سوى القبيلة لم يُفْلت أحداً منهم.
وقال الزمخشري: الضمير للدمدمة، أي سوَّاها بينهم.
فانظر كيف هوَّل عليهم بهذه اللفظة بسبب ذَنْبهم، وهو التكذيب، وعَقْر
الناقة، ليتعظ غيرهم.
(وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) :
ضمير الفاعل لله تعالى.
والضمير في عقباها للدَّمْدَمة والتسوية، وهو الهلاك، أي لا يخاف عاقبةَ إهلاكهم ولا درك عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم، وفي ذلك احتقارٌ لهم.
قيل: وضمير الفاعل لصالح، وهو بعيد.
وقرئ فلا يخاف بالفاء وبالواو.
وقيل في القراءة بالواو إن الفاعل أشْقاها.
والجملة في موضع الحال، أي انبعث ولم يخَفْ عقبى فعلته، وهذا بعيد.
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) :
مخاطبة من الله أو من النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير: قل يا محمد.
(فَحَدِّثْ) :
أمر من الله لرسوله أنْ يحدّث بنعمه، وهي الْقرآن، والرسالة، وجميع النعم التي أعطاه من دِينية ودنيوية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" التحدث بنعم الله شكرٌ لها وكتمانُها كفرها ".
ولهذا كان بعض السلف يقول: صليتُ البارحة كذا، وصمْتُ من الشهر كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وَجْهِ الشكر، أو ليُقْتدى به، لا على وَجْهِ الفَخْر والتكبّر.
وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث
وصايا، فقابل قوله:(ألم يجِدْكَ يتما) بقوله: (فأما اليَتيمَ فلا تَقْهَر) .
وقوله: (ووجدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) بقوله: (وأما السائلَ فلا تنْهَرْ) على قول مَنْ قال: إنه السائل عن العلم.
وقابله بقوله: (وأمَّا بنعمة رَبِّكَ فحدِّثْ) - عَلى القول الآخر.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) :
هذا وعْد بالسسْر بعد العسر،
وتسليةٌ لنبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما كانوا يلْقَوْن من الأذَى من الكفار.
وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقارنة ليدلَّ على قُرْب اليسر من العسر.
فإن قيل: ما وَجْه ارتباط هذا مع ما قبله؟
والجواب: لما عدّدَ عليه النعم تسليةً له وتأنيساً قَوِي رجاؤه بالنصر، كأنه
يقول له: إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظْهرك ويبدّل لك هذا
العسر يسراً قريباً، ولذلك كرَّر:(إنّ مع العسر يسراً) ، مبالغة.
قال صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب عُسر يُسرين ".
وقد روى ذلك عمر، وابن مسعود، وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد، لأن الألف واللام للعهد، كقولك: جاءني رجل فأكرمْتُ الرجل.
واليسر اثنان لتنكيره.
وقيل: إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة، وقد أكثر الناسُ في هذه الآية وألفُوا فيها تواليف منها كتاب:" الفَرَج بعد الشدة "، وجنة الرضا، وغيرهما مما يطول ذكر شيء منها.
وبالجملة فمَنْ تَذَكًر سَبْقَ نعمته عليه، وكثْرَة نعمه إليه، وعظيم ثوابه.
وصدْقَ وعْده، وسعةَ رحمته وسَبْقَها غَضبه - آثر له قوة رجائه فيه، وهان عليه ما يَلْقَاه في ضيقه، قال تعالى في بعض كتبه: يا مطرود، لا تبرح، ويا مَرْدُود لا تَيأْس، ويا مهجور لا تَقْلق، قد فتحنا لك البابَ وجعلناك من الأحباب، وهب أني طردْتُك عن بابي، وألزمْتك حِجابي فإلى بابِ مَنْ تلتجئ، وعلى أي جهة تقف، فكنْ معي كالصبي مع أمّه، كلما زجَرَتْه رجع إليها، وكلما طردته تمرًغ بين يديها، فلا يزال معها حتى تقبله، فانْقُل قدمَ الإقدام لبابي، واكشف رأْسَ الاستغفار ونادِ بلسان الحقْر والاضطرار: ربي مَسني الضرّ وأنْتَ أرْحَمُ الراحمين - يقع لك جواب: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) .
(فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) :
هو من النصَب بمعنى التَّعب.
والمعنى إذا فرغت من أمْرٍ فاجتهد في أمرٍ، ثم اختلف في تعيين الأمرين، فقيل:
إذا فرغت من الفرائض فانْصَبْ في النوافل.
وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانْصَبْ في الدعاء.
وقيل: إذا فرغت من شغْل دنياك فانصب في عبادة ربك.
(فارْغَبْ) :
إنما قدم المجرور في (إلى ربك) ليدلَّ على الحصر، أي لَا ترغب إلا إلى ربك وحْدَه.
وفي هذا إشارة إلى عدم الركون للخلق، فإن الركونَ إليهم وحشة والالتجاء إليهم إعراض عن الحق.
وقد قدمنا من هذا المعنى كثيراً.
(فلهم أجْر غير مَمْنون) :
أي غير منقوص، يقال: مننت الحَبْلَ إذا قطعته.
وقال مجاهد: غير محصور، لأن كلّ مَحْسوب محصور، فهو
معدّ لأن يمنَّ به.
ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المنِّ والأذَى من حيث هو من جهة الله
تعالى، فهو شريف لا منَّ فيه، وأعطياتُ البشر هي التي يدخلها المنُّ.
قال السدي: نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزمناء إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر ما كانوا يعملون.
فإن قلت: أيّ حكمة في الإخبار بهذا، ولم زيدت هنا الفاء، وحذفت من
آية الانشقاق، وفصِّلَتْ؟
والجواب إنما زيدت لمراعاة الفاء التي بعدها، وفائدة تكرير هذه الآية
والإخبار بها للتأسي والتخلّق بأفعال الحق في عدم مَنِّه، لأنَّ المنَّ يكدِّرُ الإحسانَ ويذهب بلذّته، ولذلك قال تعالى:(لا تبْطِلوا صدقَاتِكم بالمَنِّ والأذَى) .
قال المفسرون: المنُّ أن يذكره، والأذى أن يظهره.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا تأكل طعام المنَّان، فإنه داء ". . . إلى غير ذلك من الأحاديث مما يطول
ذكرها.
(فمن يعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) :
قد قدمنا في حرف الميم ما في هذه الآية وتسميتها بالجامعة الفاذة، ولما نزلت هذه السورة بَكى أبو بكرٍ
وقال: يا رسول الله، أو أُسأل عن مثاقيل الذّرّ من أعمالي، قال له عز وجل: يا أبا بكر، ما رأيته في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذَرِّ الشر ويَدَّخِر لك الله مثاقيلَ ذرِّ الخير. . . إلى آخره.
فانظر بكاء المشهود له بالجنة على نفسه، وخَوْفه من ذنوبه مع أن الله بشَّره
بشفاعته في عدد ربيعة ومُضَر من هذه الأمة، وأنت تريد اللحوقَ بهم مع عدم خوفك وبكاك، وكثرة أوزارك محيطة بك، ما يكون جوابك إذا قيل لك:(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ، فما أعظمها من كربة إذا حملْتَ حُزمة سيئاتك، وصرت تقرؤها بين يدي ربك، وما مثلنا إلا كحاطبٍ يجمع كلً ما يَلْقَى، فإذا جاء يرفعها لم يقدر عليها، وقد أخفى الله غضبه في معاصيه، فلا تحقرن منها شيئاً، فإنها عند الله بمكانٍ، وكلّ ما صغر في عينك عظيم عند الله.
قال الفضيل بن عياض: أتاني رجل، فقال: عِظْني، فقرأتُ عليه: (إذا
زُلْزِلَت) ، فغاب مدةً ثم أتاني، فقلت له: أين غَيْبَتُك، قال:
كنْتُ مشغولاً بتحقيق الحساب الذي علَّمْتَني، فقلت له: وما هو، قال:(فمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره) .
ورئي بعض المشايخ وقد بلغ جدَاراً، وكان في زمن الشتاء، وهو يتصببُ عرقاً فسئل عن ذلك، فقال: أخذتُ من هذا الحائط قطعةَ طين غسل يده بها ضيفٌ، ولم أستحل من صاحبه حتى مات، فأنا كلما مررتُ به لم أمًلك نفسي.
هذا حالُهم، فأنَّى لنا اللحوق بهم! مَلأْنَا بطونَنا من الحرام، وتراكمت على
قلوبنا سحائبُ الآثام، وغلب علينا سكر المنام، وادعيْنَا الدعاو ى الباطلة
والآمال الكاذبة.
فإن قلت: ما سِرُّ تقديم الخير في هذه الآية على الشر؟
والجواب لما كان المطلوب في العمل تقديمُ الخير على الشر جاء في اللفظِ على
الوَجْهِ المطلوب.
وأيضا لما كان فاعلُ الخير مقدَّماً في الرتبة على فاعلِ الشرِّ جاء
العملُ مرتباً على ترتيب عامله.