الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك المؤمن يخاف من غَمّ القيامة، فيسمع النداء: لا تخف فالمراد به
غيرك.
(فَتَنَّاكَ فُتُوناً) ، أي اختبرناك اختباراً حتى ظهر منك أنك
تصلح للنبوءة والرسالة.
وقيل: خلّصناك من محنة بعد محنة، لأنه خلصه من
الذبح، ثم من اليمّ، ثم من القصاص بالقتل.
والفتون يحتمل أن يكون مصدراً أو جمع فتنة.
(فلبثْتَ سنين في أهل مَدْين) :
يعني الأعوام العشرة التي استَأْجَره فيها شعيب لرَعْي الأغنام، فقال له شُعيب في العام الرابع: يا موسى، كلما وُلدت أنثى من الحمْلَان فهي لك في هذه السنة، فكان موسى يُلقي عصاه في الماء، ويسقي الأغنام منها، فولدت كلها أنثى في تلك السنة، فقال شعيب عليه السلام في السنة العاشرة: كلما ولدت ذكورا من الْحُمْلان فهي لك، فولدت في تلك - السنة كلها ذكورا.
فاجتمع له أغنام كثيرة، فرجع مع أهله إلى مصر، فآنس في الطريق ناراً، كما قال الله تعالى، فلما دنا منه الكلِيم صار نوراً، وكذلك نار الخليل لما دنا منها الخليلُ صارت روضة ورحمة.
وكذلك جبّ يوسف كان مملوءاً عفاريت وحيّات، فلما دنا منه الصديق صار رحمةً، وكذلك البحر لما دَنَا منه الكليم صار يبساً، وكذلك القبر موضع الوَحْشة والديدان فإذا نام فيه الحبيبُ صار عليه روضةً من رياض الجنة.
وكذلك يوم القيامة - يوم الحسرة والندامة - فإذا قام فيه الحبيب يصير يوم العز والقربة، والدنوِّ والرتبة.
وكذلك النار موضع الملامة فإذا دخل عليها الحبيب صار موضع إظهار الكرامة.
(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) :
ضمير التثنية يعود على موسى وهارون، وضمير الإفراد على فرعون.
يعني أن الله أمرهما بالإتيان إليه ليخْبِراه بالرجوع عما هو فيه، لِمَا في إخبارهما له بإقامة الحجة عليه.
وفي ضمن ذلك دعوتُه إلى الإيمان.
والمرادُ بإرسال بني إسرائيل معهما لإخراجهم عن ملكه، ومن دائرة حكمه.
وفي ذلك تحقير لشأنه وإبطال ما ادَّعاه من السلطان.
فإن قلت: لم حذف من هذه الآية اسم فرعون وأثبته في الشعراء؟
والجواب أنه تقدم ذكره في قوله: (اذْهَبَا إلى فرعون إنّه طغَى) - فلم تكن
إعادة اسمه ظاهراً مع الاتصال والقرب، إذ لم يفصل بين ظاهره ومضمره إلا
كلمتان.
أما آية الشعراء، فوَجْه إظهارِه أنه قد اجتمع فيها أمران:
أحدهما: الفصل بين مضمر الاسم وظاهره، مع إتيان الظاهر مضافاً إليه
فَضْلُه إلى ما ذكر من الفَضْل ببضع وعشرين كلمة.
والثاني: أمر موسى عليه السلام أولاً، وإنما أورد بإتيانه قوم فرعون.
قال تعالى: (وإذ نادى ربّك موسى)، فقد يتوهم أن الجاري على هذا أن لو قيل عوض قوله: فأتيا فرعون - فأتهم - إلا أنه لم يقصد
ثانياً إلا ذكر متبِعيه، فلم يكن بدّ من الإفصاح باسمه غير مضمر.
وأما قوله تعالى في الأولى: فقولا إنا رسولا ربك - بتثنية لفظ " رسولا "
فوارد على اللغة الشهيرة.
وأما قوله في الثانية: (إنا رسول ربِّ العالمين) - فعلى لغة مَنْ يقول رسول للواحد والاثنين والجماعة والذكر والمؤنث، فورد الأول في
الترتيب الثابت على اللغة الشهيرة، والثاني على اللغة الأخرى، على ما قد تقدم في مثل هذا.
وعَكس الوارد مخالف للترتيب، ولا يناسبه.
وأما قوله: (إنّا رسولَا ربك) بإضافة اسمه تعالى إلى ضمير الخطاب فإنه يناسب من حيث ما فيه من التلطف والرفق لما تقدمه من قوله تعالى: (فقولَا لَهُ قَوْلاً ليِّناً) .
وقد تفسر هنا القول، وتبيَّن ما فيه من التلطّف في قوله تعالى في آية النازعات:(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) .
وناسب هذا ما بنيت عليه سورة طه من تَأنيس نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وتأنيس موسى كليمه بقوله:(وأنَا اخْتَرْتك فاسْتَمِعْ لما يُوحَى)، وما بعده إلى قوله:(قد أُوتِيتَ سؤْلَكَ يا موسى) ، وما بعده.
فلما كان مَبْنَى هذه السورة
بجملتها على التلطّف والتأنيس ناسب ذلك بما أمر موسى عليه السلام من دعاء فرعون وأنسه ولطفه، وأمر موسى عليه السلام وأخيه هارون بذلك، فقيل لهما:(فقولَا له قَوْلاً ليِّنا) .
وجرى على ذلك قوله: (إنا رسولا ربك) ، فأشعرت هذه الإضافة بالتلطف الربّاني.
ولما لم تكن سورة الشعراء مبنية على ما ذكر، وإنما تضمنت تعنيفَ فرعون
وملأه وإغراقهم، وأخذ المكذّبين للرسل بتكذيبهم، وهذا في طرف من التلطف
- ورَدَ فيها: (فقولا إنا رسول رب العالمين) ، بإضافة اسمه تعالى إلى العالمين.
لتحصيل أنه مالك الكلّ، وأنهم تحت قَهْره تعالى، وفي قبضته، وعدل عن
الإضافة إلى ضمير الخطاب، إذ لم يقصد هنا ما قدم من التلطف.
ونظير الوارد في هاتين الآيتين قوله تعالى: (ولو شاء ربّك ما فعلوه) - تأنيساً لنبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ورد فيما بعد: (ولو شاء
الله ما فعَلوه) .
فقِفْ على ذلك، وقد تبين جليل النظم، وهو التناسب، وتأمل أَمرَهما الله هنا بالإخبار بأنهما رسولَا رَبِّه، وأمرهما في آية أخرى بالتلطف له في الموعظة، لأنه أعون على قَبُول النصح، وإنفاذ الدعوة، وإمالة القلوب إلى ما تدعى إليه، وهذا كقوله تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
واختلف في معنى القول اللين، فقيل: عِدَاهُ شباباً لا يهرم بعده (1) ، وملكاً لا
ينزع منه إلا بالموت، وأن تبْقى له لذة المطعم والمشرب والْمَنْكح إلى حين موته.
وقيل: لا تواجهاه بما يكره، فإن في ذلك تنفيرا له، أو لما له من حق التربية
لموسى، فقد روي أنَّ الله عز وجل قال: كانت لفرعون على موسى حقّ التربية، فأردت أن أكافئه بقولي:(فقُولَا له قَولاً ليّنا) .
وقيل كنِّياه، وكان له ثلاث كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة.
وقد رُوي أن إبليس أتى إليه ودقَّ عليه الباب، فقال: مَنْ، فقال له
(1) هذا الأمر لا يتحقق إلا لأهل الجنة فقط، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه ومنِّه.
إبليس: من ادَّعَى الرّبوبية يعرف مَنْ أنا، فقال له فرعون: هل علمت من هو شر منّا، قال إبليس: مَنْ باع آخرته بدنْيا غيره.
فانظر هذا اللطف العظيم مع من ادَّعَى الربوبية، فكيف بمن أقر له بالعبودية
وعبده مدةً مديدة، أتراه لا يعامله بما تدهش له النفوس من العيشة الهنية.
(فمنْ ربّكمَا يا موسى) :
خطاب لهما، مع أنَّ موسى الأصل في النبوءة وهارون تابعٌ له.
(فيُسْحِتَكم) : معناه يهلككم.
وقيل سحت وأسْحَت، وقد قرئ بفتح الياء وضمها.
والمعنى متفق.
(فأَجمعوا كيْدَكمْ) ، أي اعزموا وأنفذوه.
وهذا من قول موسى على وَجْه الإسراع في مقصودهم لعِلْمه بباطلهم.
(فرجع موسى إلى قَوْمه) :
يعني بعد كمال الأربعين يوماً التي كلَّمه الله فيها في قوله: (وواعَدْنَا موسى ثلاثين ليلة) ، فتناول منها ورقةَ زيتون، فأمر بعشرة أخرى، فانظر بالله ورقة زيتون منعت متَناولها عن المراد، فكيف تنال مرادك مع تناول شهواتك، وخصوصاً إن كانت من ظلم للعباد.
(فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) .
أي في طاعتك لإبليس، فجعل المسبّب مع السبب.
فإن قلت: لم خصّ آدم بالشقاء والتوبة في قوله: فتاب عليه وهَدَى، وحوَّاء
كانت المتسببة؟
فالجواب: أن آدم كان نبيئاً وحوَّاء كانت من جملة الأولياء الذي يجب أن
يكون مأمون العاقبة، ومن شرط الولاية كثرة الْحُزن والخوف إلى آخر الزمان.
وخص آدم بالخطاب، لأنه كان المخاطب أولاً والمقصود بالكلام، وأَضاف
الإخراج إلى إبليس والإنزال إلى نفسه بقوله: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ)
لأن الضيف إذا كان كريماً لا يُخْرج ضيفَه من ضيافَتِه، فلما خرج قال له: يا آدم، أسكَنْتك في جوارِ العدو لتعصيه فيها، وتطيعني، فأقول هذا بذاك، والمحبة بيننا باقية، كذلك يوم القيامة يقول:
عبدي أنعمت عليك برضاك، وأطعتني برضائي، وعصيتني مخالفاً لأمري، دع الطاعة في مقابلة النعمة، والزّلَّة في مقابلة البليّة، والمعرفة بيننا باقية.
(فإمّا يَأْتِيَنَكم مني هدًى) :
إن الشرطية دخلَتْ عليها ما الزائدة وجوابها.
(فمن اتَّبع هدَاي فلا يَضِل ولا يشْقَى) .
أي لا يضلّ في الدنيا، ولا يَشقى في الآخرة.
(فلا تستعجلون) ، أي لا تستعجلون العذاب.
وقيل المراد هنا آدم، لأنه لما وصل الروح إلى صدره أراد أنْ يقومَ، وهذا ضعيف.
(فَعَلَهُ كَبِيرُهم هذا) :
ضمير الفعل للصنم، وذلك أنهم لما سألوه عمَّنْ كسر الأصنام قال لهم هذا القولَ، ومقصوده بذلك تبكيتهم لإقامة الحجة عليهم، كأنه يقول: إن كان إلهاً فهو قادر على أن يفعل، وإن لم يقدر فليس بإله، ولم يقصد الحقيقة الْمَحْضة.
فإن قلت: قد ورد في الحديث: أنَّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات، إحداها هذه؟
والجواب: أن معناها قال قولاً ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى
آخر.
ويدلُّ على ذلك قوله: (فَاسألوهمْ إنْ كانوا يَنْطِقون) .
وهذا التأويل أولى، لأن نفي الكذب يعارِض الحديث، والكذبُ الصراح لا
يجوز على الأنبياء عند أهل التحقيق.
وأما المعاريض فهي جائزة، وعلى تقدير جواز الكذب فإنما جاز له ذلك، لأنه فعله من أجل الله.
(ففَهَّمْنَاهَا سلَيْمان) :
الضمير يعود على القضية المذكورة قبل هذا في الرجلين.
(فهل أَنْتم شاكِرون) :
لفظه استفهام، ومعناه استدعاء إلى الشكر.
(فنَفخنا فيها مِنْ روحِنَا) :
عبارة عما ألقاه الحق سبحانه من أَسرار آثار أسماء الأفعال، وسرى إليها من ذلك السر، فتكوَّن الولد في رحمها، وذلك الإلقاء إما بواسطة الملك المعبَّر عنه بالرّوح أو دونه، وإضافةُ الروح إلى ضميره تعالى إضافة الملك إلى المالك.
وقد كثرت الأقاويل في الروح، حتى أنهاه بعضهم إلى أربعمائة قول، ولا يعلم حقيقته إلا الله، كما قال:(مِنْ أمْرِ رَبِّي) ، أي من عجائب ربي.
وقيل: من علم ربي.
وقيل الروح آدم، (ونفخت فيه من روحي) .
وقيل جبريل، (وأيدْنَاه بروح القدس) .
وقيل الروح: الْخَلْق العظيم الذي في عالم العزّة يأمر بما يأمره الله به جميع الملائكة، وهو خلق عظيم أعظم العوالم يسبّح كلّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحةٍ ملكاً يجيىء يوم القيامة صفاً واحداً، فذلك قوله:(يوم يقوم الرّوحُ والملائكةُ صفًّا) .
فإن قلت: لم أنث الضمير هنا وذكّره في التحريم، مع أن القصة واحدة؟
والجواب أنه لما كان المقصود في سورة " اقتربت " ذكْرها وما يؤُول إليه
أمرها حتى ظهر ابنها وصارت هي وابنها آية، وذلك لَا يكون إلا بالنَّفْخِ في
جملتها خُصَّت بالتأنيث، وما في التحريم مقصور على ذِكْرِ إحصانها
وتصديقها بكلمات ربها، وكان النفخُ في جميعها وهو مذكَّر، فلذا قال:
(فيه) .
وأيضاً فهنا أنَّث بعد ذكر جملة من الأنبياء والرسل بخصائص عليَّة، وآياتٍ
نبوية ناسب ذلك ذكر مريم وابنها بما منحا.
وأما آية التحريم فمقصود فيها ذِكر