الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة في الإفراد والجمع
من ذلك السماء والأرض: حيث وقع في القرآنِ ذكر الأرض فإنها مفردة ولم
تجمَع بخلاف السماوات، لثقل جمعها وهو أرَضون، ولهذا لما أُرِيد ذِكْر جميع
الأرض قال: (ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهنَّ) .
وأما السماء فذُكرت تارةً بصيغة الجمع، وتارة بصيغة الإفراد لنكتةٍ تليقُ بذلك المحلّ، كما أوضحتُه في أسرار التنزيل.
والحاصل أنه حيث أريد العدد أتيَ بصيغة الجمع الدالة على سعة العظمة، نحو:(سَبَّحَ لله ما في السماوات) ، أي جميع سكانها على كثرتهم، (تُسَبِّحُ له السماوات) ، أي كلّ واحدة على اختلاف عددها.
(قل لا يَعْلَم مَنْ في السماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلَاّ الله) ، إذ المراد نَفْيُ علم الغيب عن كلِّ مَنْ هو في واحدة من السماوات.
وحيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد، نحو:(وفي السماء رزْقُكم) .
(أأمنْتم مَنْ في السماءِ أنْ يَخْسفَ بكم الأرض) ، أي من فوقكم.
ومن ذلك الريح حيث ذكرت مجموعة ومفردة، فحيث ذُكِرت في سياقِ
الرحمة جمعت، أو في سياق العذاب أفردت.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن أبيّ بن كعب، قال: كل شيء في القرآن من
الرياح فهو رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب.
ولهذا ورد في الحديث: " اللهم اجعلها رِياحاً ولا تجعلها رِيحاً ".
وذكر في حكمةِ ذلك أنَّ رِياحَ الرحمة مختلفة الصفات والهبات والمنافع، وإذا هاجَتْ منها رِيح أثير لها من مقابلها ما يكسر سَوْرتها، فينشأ من بينهما ريحٌ لطيفة تنفَعُ الحيوان والنبات، فكانت في الرحمة رياحاً، وأما في العذاب فإنها تأتي من وَجْهٍ واحد، ولا معارض لها ولا دافع.
وقد خرَج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: (وَجَرَينَ بهم بِرِيح
طيِّبَة) .
وذلك لوجهين: لفظي، وهو المقابلة بقوله:(جاءتها ريحٌ عاصف) .
ورُبَّ شيء يجوز في المقابلة، ولا يجوز استقلالاً، نحو:(ومَكَروا ومَكَر الله) .
ومعنوي، وهو أنَّ تمامَ الرحمةِ هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها.
فإنَ السفينةَ لا تسير إلا بريح واحدة من وجْهٍ واحد، فإذا اختلفت عليها الرياح كان سبب الهلاك، والمطلوب هنا ريح واحدة، ولهذا أكّد هذا المعنى بوصفها بالطيب، وعلى ذلك أيضاً جرى قوله:(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) .
وقال ابن المنير: إنه على القاعدة لأنَّ سكونَ الريح عذابٌ وشدة على أصحاب السفن.
ومن ذلك إفراد النور وجَمْع الظلمات، وإفراد سبيل الحق وجمع سبيل
الباطل، في قوله:(ولا تَتَّبِعوا السّبلَ فتَفرًقَ بكم عن سبيله) ، لأنَّ طريق الحقّ واحدة، وطرق الباطل متشعبة متعددة، والظلمات بمنزلة طرق الباطل، والنور بمنزلة طريق الحق، بل هما هما، ولهذا وحّد وَلِيّ المؤمنين، وجمع أولياءَ الكفار لتعدّدهم في قوله:(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) .
ومن ذلك إفراد النار حيث وقعت والجنة حيث وقعت مجموعةً ومفردة، لأن
الجنان مختلفة الأنواع، فحسُنَ جمعها، والنار مادة واحدة، ولأن الجنة رحمة والنار عذاب، فناسب جَمْعَ الأولى وإفراد الثانية على حدِّ الرياح والريح.
ومن ذلك إفراد السمع وجمع البَصر، لأنَّ السمْعَ غلب عليه المصدرية.
فأفرد، بخلاف البصَر، فإنه اشتهر في الجارحة، ولأن متعلّق السمع الأصوات، وهي حقيقة واحدة، ومتعلق البصر الألوان والأكوان وهي حقائق مختلفة، فأشار في كل منهما إلى متعلقه.
ومن ذلك إفراد الصديق وجمع الشافعين في قوله: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) .