الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن الله لا يؤاخذ عباده بعدم القيام بشكر النعم لذكره المغفرة والرحمة عقب قوله بهذه الآية، أي ما تحدِّثُون به أنفسكم، وليس المراد السر في اصطلاح الفقهاء.
وتضمنت الآية الإشعار باتصاف الله تعالى بالقدرة والعلم، فالقدرة بقوله:
(أفَمَنْ يَخْلُق كَمَنْ لا يَخْلُق) ، وهذا للعلم.
وعطف (ما يسرون وما يعلنون) للتسوية، فهو أمر استَأثر اللهُ به، كما قال:(إنَّ الله عنده عِلْمُ الساعة) .
(وإنَّ لكم في الأنْعام لَعِبْرَةً) :
لما كان التفكر منفعة عامة في العاقل وغيره أعقبه بالمنفعة الخاصة بالعاقل، وأكّده بأنّ واللام لغفلة المخاطب عن الاعتبار والتذكر، لا لكونه منكراً لذلك.
وقد قدمنا في حرف الفاء أن زيادة لكم تنبيه على العبرة، والعبرة يُرَاد بها الاتّعاظ، لقوله:(فاعتبروا يَا أولِي الأبصار) .
(ومما يَعْرِشون) :
قد قدَّمنا أن الله تعالى أوحى إلى النحل أَنْ تتخذ البيوت في الجبال والشجرِ وبيوتِ الناس حيث يعرشون، أي يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيوتاً في غير هذه الثلاثة ألبتَّة.
وتأمل كيف كان أكثر بيوتها في الجبال، وهو المتقدم في الآية، وفي الأشجار
وهي دون ذلك، ومما يعرش الناس، وهي أقلّ بيوتها.
وانطرْ كيف رآها حسنة الامتثال إلى أن اتّخَذَت البيوتَ قبل المرعى فهي
تَتخذها أولاً، فإذا استقرَّ لها بيتٌ خرجت منه وَرَعَتْ، فأكلت من كلِّ
الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربَّها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولاً، ثم
بالأكل بعد ذلك.
قال في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، إذ فيه أوحى
الله إلى النحل صنعةَ العسل.
قال الغزالي: لؤ تأملت عجائبَ أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها من النجاسات والأقذار وطاعتها لواحدٍ من جملتها، وهو أكبرها شخصا، وهو أميرها، ثم ما سخّر اللَّهُ له من أمرها من العدل
والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ كلّ ما وقع على نجاسة
لقضيْتَ من ذلك العجب إنْ كنْتَ بصيراً في نفسك، وفارغاً من هَمِّ بطنك
وفَرجِك وشهوات نفسك في معَاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنيانها من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مُرَبّعاً ولا مخمَّساً، بل مسدساً لخاصية في ميل المسدس يقصر فَهم الهندسين عن دَرك ذلك، وهو أنَّ أوسع الأشكال وأحْوَاها المستدير، وما يقرب منه، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فتركَ المرَبّع حتى لا تبقى الزوايا فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارجَ البيوت فُرَجٌ ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصَّة، ولا شكل من الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فُرْجة إلا المسدس وهذه خاصية هذا الشكل.
فانظر كيف ألهمَ اللَّهُ تعالى هذا النحل على صِغَر جرمه لُطْفاً به وعنايةً
بوجوده فيما هو محتاج إليه ليتهنّأ عيشه، فسبحانه! ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه!
ولو ذكرنا منافع النحل، وما أوْدع فيها لاحتاج إلى مجلد، ولذلك مثّل صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنحلة إن صاحَبْتَه نفعك، وإن سارَرته نفعك، وإن جالسته نفعك.
وكذلك النحلة على ما فيها من منافع.
قال ابن الأثير: وجه المشابهة من المؤمن في النحلة حِذْق النحل في فِطنته وقلة
أذاه وحقارته ومنفعته وقناعته وسَعْيه في الليل وتنزهه عن الأقذار، وطيب
أَكْله، لأنه لا يأكل من كسب غيره، وتحوله وطاعته لأميره، وإنَّ للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله ظُلمة الغفلة، وغَيْم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعية، ونار الهوى.
وفي مسند الدارمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كونوا في
الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس في الطير شيء إلَاّ وهو يستَضْعفها، ولو تعلم الطّيْرُ ما في أَجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناسَ بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإنَّ للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحبَّ.
والمعروف من قول علي بن أبي طالب أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم.
فأشرَفُ المطعوم العسل، وهو قيء ذباب، وأشرف المشروبات الماء يستوي فيه البرّ والفاجر.
وأشرفُ الملبوسات الحرير، وهو نسج دودة.
وأشرف المركوبات الخيل، وعليها يقتل الرجال.
وأشرف المشمومات المسك وهو دَمُ حيوان.
وأشرف المنكوحات المرأة وهو مبال في مبال.
وروى الكواشي في تفسيره الأوسط: أن العسلَ ينزل من السماء فينبت في
أَماكن، فتأتي النحلُ فتشربه، ثم تلقيه في الشمع المهيَّأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض الناس أنَ العسل من فضيلات الغذاء وأنه قد استحال في المعدة عسلاً، هذه عبارته.
ومما يدلك على كمال قُدْرته سبحانه أنه جمع في النحلة السمّ والعَسل، دليل على كَمالِ قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجاً بالشمع، كذلك عمل المؤمن ممزوج بالْخَوْف والرجاء.
وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء، والحلاوة، واللين، كذلك المؤمن، قال تعالى:(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، يخرج من الشاب
خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، كذلك حال المقتصد والسابق، أمرها اللَه تعالى بأمرِ حتى صار لعابها شفاء، ودواء الأطباء مرٌّ، ودواء الله حُلو، وهو العَسَل، وهي تأكل من كلّ الشجر، ولا يخرج منها إلا حُلْو، ولا يعتريها اختلافٌ بأكلها، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) .