الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن أريد بالرعد السحاب فالمعنى أنه سبَّح اللهَ وحمده على إبرازه إياه من
العدم إلى الوجود بلسان الحال لا بالقول، إذ لا عقل له، فلذلك لم يُسنِد
الخوف إليه، بخلاف التسبيح، لقوله:(وإنْ من شيء إلَاّ يسبِّحُ بحَمْده) .
والخوف إنما يقَعُ من العاقل.
(والذين يَدْعون مِن دونه) :
لم يَدْعُوهم مِنْ دون الله: لكن الجزء الذي شركوهم فيه مع الله في العبادة دعوهم فيه من دونه.
(يستجيبون) :
ليس هو من استفعل بمعنى طلب الفعل، وإنما هو كقول
الشاعر:
وداعٍ دعا يَا مَنْ يُجيب إلى النَّدا
…
فلم يَسْتَجِبْه عند ذلك مُجِيب
فعلى هذا لا سؤال، وإن لم يكن بمعنى أجاب يرد فيه بأن استجاب خاصة
بمن أجاب بما يوافق غَرَض السائل.
وأجاب علامة في المجيب بالموافق والمخالف، فيقال لهم نفي جوابهم بالموافق، مع أنهم لا يجيبون بشيء على الإطلاق، فيجاب بأن مطلوبهم من الآلهة إنما هو حصولُ غَرضهم، فنفاه.
وأما غيره فليس مطلوباً لهم، فلم يحتج إلى نفيه، قاله الزمخشري.
وقوله: (كباسطِ كَفيه) :
يحتمل أن يريد به إلا استجابة كاستجابة باسط، أي كاستجابة الماء من بسط كفيهِ إليه يطلب أنْ يبلغه فاه.
والماء جماد لا يشعر بعطشه ولا بدعائه له.
وشَبَّه باسطَ كفيه للماء دون فاتح فيه للماء، لأنه داعٍ، وشأن الداعي أن يبسط يديه.
(وما هو بِبَالغهِ) :
الفعل يقتضي التجدد، والاسم يقتضي الثبوت، فإذا أريد المبالغة عبّر في الثبوت بالاسم، وفي النفي بالفعل، لأنه يلزمُ من نفي ثبوت الصفة وقتا ما نَفْى ثبوتها دائماً، ولا يلزم من نفي ثبونها دائما نفي ثبوتها وقتاً ما، وكذلك يؤتى في الأعم بالنفي، وفي الأخص بالثبوت، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأعم يستلزم تفْي ثبوت الأعم، ونحوه
للزمخشري في قوله: (فلما أضَاءَتْ ما حَوْلَه ذهب الله بنورهم) .
وجاءت هذه الآية على العكس في قوله: لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) .
فعبَّر بالثبوت في الفعل، وفي النفي بالاسم، فنفى عنه البلوغ الثابت دائما، ولا يلزم منه في البلوغ المتجدد الثابت وقتاً ما؟
والجواب أنَّ القرينةَ هنا تنفي هذا المفهوم المتوهَّم، وتعتن أنَّ المراد نفْيُ
البلوغ على الإطلاق كيفما كانت.
(ومِمَّا يوقدون عليه في النار ابتغاءَ حِلْيَةٍ أو مَتاع زَبدٌ مِثْلُه) :
الزمخشري: هو كل ما يلين من المعادن، فإذا برد اشتد وتبين، كالذهب
والفضة والحديد والنحاس والرصاص.
والحلية: كل ما يتحلَّى به من الذهب والفضة وغيرها.
(والذين يَنْقُضون عهدَ الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللهُ به أن يوصَل) : هذا دليل على أن العهد يطلق على الوعد، وعلى الأمْرِ المشقّ الْمُلْتَزَم، ولو كان العهد هنا الميثاق لما كان لقوله:(من بَعْد ميثاقه) فائدة.
وقيل هي مباينة لما قبلها، ووقعت المبالغة فيما قبلها بتسعة أوصاف، وفي هذه بثلاثة أوصاف: لأن الأولى في معرض الجزاء على الطاعة.
وهذه في معرض العقوبة على المعصية، فناسب المبالغة في الأولى، تأكيداً على
المثابرة على الطاعة، وعدم المبالغة في هذه تنفيراً عن المعاصي، وأن العقاب يقع على أدنى شيء من المعصية.
ووجْه ثان: وهو أن نقض العهد إشارةٌ إلى العهد المأخوذ على الخلائق يوم: (ألَسْتُ بربكم) ، فهو راجع إلى التوحيد.
وقطع ما أمر الله بوصله: راجع إلى الإيمان بالرسول، لأن تكذيبه قطع له
مِن مرسله، والإيمان به إقرار بصلته مع مرسله.
والفساد في الأرض راجعٌ إلى المعاصي.
وفي الآية حجةٌ لمن يقول: إن المندوب غير مأمور به، لأنها في معرض الذم لفاعل ذلك، فلو كان مأموراً به لما
تناوَلَهُ الذمُّ، وليس المراد مَنْ جَمعَ هذه الأوصاف، بل من اتصف بواحدٍ منها.
فإن قلت: هل قوله تعالى: (لهم اللعنةُ ولهم سوءُ الدار) ، لمن
اتصف بها، سواء كان مؤمناً أو كافراً؟
والجواب: أنَّ اللعنةَ للكفار وسوء الدار للعُصَاة، فهو لفٌّ ونشر! وإدخال
اللام تهكم بهم وإشارة إلى أن اللعنةَ أمرٌ ملائم لهم ومناسبٌ لفعلهم! فليَحْذَر
العاقلُ هذا الوعيد الهائل ولا يستحقر العاصي.
(وفَرِحوا بالحياةِ الدنيا) :
هذا يرجع إلى الكفار الذين جعلوا الدنيا دَارَهم، وهل هي إلا سجنُ المؤمن إن عقل، لِمَا يَسْتَولي عليه فيها من الهموم والبلايا والحيات والقمل.
ووَجْهُ المناسبة بينها وبين السجن ظاهرة، فانظر ما أغْفَلَنا عن الآخرة مع
مشاهدتنا لهذه الأمور! ولهذا تجد الكفار يوسعَّ عليهم في الدنيا ليزدادُوا كفْرا
وفِسقاً، وكذلك الموسَّع عليه منا أكثر ترفُّهاً وعصياناً، ولهذا قال في حديث:" أولئك قوم عجلت لهم طيباتُهم في الدنيا ".
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) :
لولا للتحضيض، كقول الفقير للغني: لولا أحسنْتَ إليَّ.
فأجابهم الله بأن يقول لهم: إنما أنا عبد، والعبد ليس له مع سيده اختيارٌ، وسيِّدُه أعلمُ بأموره، إما أنْ يضلّه أو يهدي إليه مَنْ أناب.
فإن قلت: لم جعل فعْلَ المشيئة مضارعاً والإنابة ماضياً، والمناسب العكس.
لأن مشيئة الله قديمة وإنابة العبد حادثة، وفي غافر: (وما يتَذَكَّرُ إلا مَنْ
يُنيب) ؟
فالجواب، أن فعل المشيئة أتى مضارعاً باعتبار متعلّقها، وهو من فعل العبد
وغير مطلوب لأن أصلها من الله، فلم يحتَجْ إلى طلب متعلّقها.
والإنابة من فعل
السيد، فجاء فعلها ماضيا إشارة إلى تأكد طلبها حتى كأنها واقعة.
وأيضاً مشيئة الله دائمة مستمرة، وإنابة العبد منقطعة، فهو إشارة إلى أن مَنْ أناب ليس على وثوق مِنْ بقاء إنابته واستمرارها في المستقبل إلا بهداية الله وتوفيقه.
والآية عندي صريحةٌ في مذهب أهل السنة، لقوله:(يَهْدي إليه) ، أي يخلق في قلبه الهدايةَ ويُرشده إليها.
وأناب إشارة إلى ماله في ذلك من الكسب.
ثم ذكر حالهم أنهم آمَنوا به واطمأنّت قلوبهم بذكره.
فإن قلت: كيف تطمئنُّ قلوبهم بذِكْرِه وقد ذكرهم الله في آية أخرى:
(الذين إذا ذكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهم) ، فهذه اقتضت أنَ ذكر
الله موجب خَوْفه والوَجَلَ منه، والأولى اقتضت طمأنينة قلوبهم؟
والجواب: أنهم لما سمعوا ذكره تعالى حدث لهم خَوْف منه ووَجَل، ثم تعقبه
طمائينة وسكون، كما قال القائل.
وإنّي لتَعْزوني لذِكْرَاك فَترة
…
كما انتفض العصفورُ بلَّلَه القَطَر
وقال ابن عبد السلام: معنى الأولى أنهم إذا أخبروا أنَّ الله تعالى ذكرهم
اطمأنَت قلوبهم وسكنَتْ، لأنهم يعلمون أنَّ ذلك رحمة منه بهم واعتناء
بذكرهم، وجاء قولهم:(إذا ذكِر الله وجلَتْ قلوبهم) على الأصل من حالهم، لأن حالهم الخوف، فإذا ذكر الله ازداد وَجَلهم وخوفهم من عقابه.
وهذا جوابٌ حسن.
وهذه أمور ذوقية لسنا من ذلك على ذوق، فلا القلب يطمئن ولا يوجل، اللهم أقِل العَثْرَة واغفر الزلة.
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) .
وجوابها مقدر، أي لا آمنوا به، والقضية الشرطية تقتضي نفيَ الأول لانتفاء الثاني، نحو: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان.
وتارة تقتضي ثبوتَه لثبوته، نحو: لو لم يكن هذا حيواناً لما كان إنساناً، لكنه إنسان فهو حيوان.
وتارة تقتضي مجردَ الملازمة والارتباط، نحو: لو حضر زيد لحضر ثوبه،
والآية من هذا القسم، والعطف فيها تدلّ، لأن تسيير الجبال أقرب وأعجب لعظم جرمها وكونها جماداً لا يقبل الاتصاف بصفة الحيوان، والسير من صفة الحيوان، ولم يقع ذلك فيها بوجه، ثم يليه تقطيع الأرض لكثرة وقوعه، لاسيما ما قاله ابن عطية من أنه تفجير أنهارها.
ويليه تكليم الموتى، لأنه قد وقع لعيسى عليه السلام وغيره.
(ولقد استهْزِئَ برسُلٍ من قبلك) .
الآية: فيها دليلٌ على أنه لا أثر للاستهزاء على الكفر مع الكفر، لأن الاستهزاء كفر وزيادة.
وتعليق الحكم على الوصف المناسب يُشعر بغلبته له، والاستهزاء هو عَيْن الكفر، وهؤلاء لم يكونوا في زمن الفترة، بل كانوا مؤمنين بغيره، وما عُلِم كفْرهم به إلا من لفظ الاستهزاء، وفيها دليل على صحة العمل بالقياس، لأن الآيةَ سيقت مساق التخويف للكفار، والتسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وما وَجه التخويف إلا من ناحية أَن المشاركة في الوصف توجب التسوية في الحكم الناشء له، والكفار المعاصرون لنبينا مشاركون لمن سبقهم في الاستهزاء.
واقتضت الآية أنَّ مَنْ سبقهم عُوقب، فكذلك هؤلاء.
ولا معنى للقياس إلا إثبات حكم الأصل للفرع لعلة جامعة.
وتنكير لفظ (رسل) للتشريع، ولا يناسب التعظيم، ولا يحصل به التخويف.
لأنهم يقولون: إنما عُوقبوا أولئك على استهزائهم بعظماء الرسل فما يلزم منه
عقابنا نحن.
فإن قلت: كيف أكد هذا القسم باللام وقد مع أن الماضي بعيد عن زمن
الحال؟
والجواب: تنزيلاً له منزلةَ القريب، ليحصل كمال التخويف.
ولما أخبرهم بالإملاء فعلم العاقل منهم أنَّ الإملاء أشد من الإمهال بكثير، لأنه يتضاعف به العذاب، فأسرع إلى الدخول في الإسلام، وعَلم أن تيسير أسبابِ الوقوع من موجبات عذاب آخر، والأمر كذلك، لأنَ الله تعالى يقول:(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) .
ويحكون في مثل هذا أنَّ صبيّاً مسلماً