الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأجاب بعضهم بأنه لما ذكر فاعل البدأة وفاعل النهاية أنه الله تعالى، عُلِمَ أن
ما بينهما من فعله، فاكتفي بذلك، ولم يحتَجْ إلى ذكره في الرد إلى أرذل العمر، لأنها حالةٌ متوسطة بين البداية والنهاية.
(ويعبدون من دونِ الله ما لا يَملكُ لهم رِزْقاً) :
الضمير راجع للكفار، يعني أنهم يعبدون الأصنام وغيرهم.
فإن قلت: لَمْ يخصُّوهم بالعبادة لأنهم يقولون: (ما نَعْبُدهم إلا ليُقَربونا إلى
الله زلْفى) ، فلِمَ ذكر هنا العبادة لهم، وما فائدة إبراز الضمير في لهم؟
والجواب أن ذلك الجزء الذي صرفوه لهم من العبادة، عبدوهم وهم فيه من
دون الله، وإنما أبرز الضمير، لأنه إذا أبرز الضمير لمن عبده فأحْرَى ألا يملكه
لغيره، وقدْ قدمنا أن (شيئاً) في الآية بدل من (رزقاً) .
(ورَحْمَتِي وَسِعَتْ كلَّ شيء) :
يحتمل أن يريدَ رحمته في الدنيا، فيكون خصوصاً في الرحمة وعموماً في كل شيء، لأن المؤمن والكافر والْمُطيع والعاصي تنالهم الرحمة ونعمته في الدنيا.
ويحتمل رحمةَ الآخرة فيكون خصوصاً في كل شيء، لأن الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين.
ويحتمل أن يريد جنْس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموماً في الرحمة وفي كل شيء.
وقد صح أنً للهِ مائة رحمة، رحمة في الدنيا للجميع، ويضم هذه الرحمة للتسعة وتسعين ويخصها بالمؤمنين.
(وقَطَّعْناهم في الأرض أُمَماً) :
أي فرقناهم في البلاد، ففي كل بلد فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه، وذلك بقتلهم الأنبياء.
(وإذْ أخذَ رَبك مِنْ بني آدَمَ) :
في معنى الآية قولان:
إن اللَهَ لما خلق آدم أخرج ذرِّيته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم
العهد بأنه ربهم، فاقرّوا بذلك، والتزموا.
روي هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة، وقال به جماعة ٌ من الصحابة وغيرهم.
والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخْذ الذرية عبارة عن إيجادهم في
الدنيا.
وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الآيةَ على ربوبيته، وشهدتْ
بها عقولهم، فكأنه أشْهَدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألَسْتُ بربكم، فقالوا بلسان واحد: بلى، أنْتَ ربنا.
والأول هو الصحيح، لتَوَاتر الأخبار به، إلا أن ألفاظَ الآية لا تطابقه
بظاهرها، فلذلك عدل عنه مَنْ قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل، وذلك أَن أخْذَ الذرية إنما كان من صلْب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخْذ الذرية من بني آدم.
والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم، كقوله:
(ولقد خَلَقْنَاكم ثم صَوَّرنَاكم) .، الآية، على تأويل لقد
خلقنا أباكم آدم من صورته.
وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريته مَنْ كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
والصحيح المشهور أن المراد جميع بني آدم حسبما ذكر.
وفي الحديث: إن أول من أجاب الأنبياء، ثم العلماء سمعوهم فأجابوا، ثم العامة، ثم الكفار، فكلهم أقَرّوا له بالربوبية.
(وإنْ تَدْعوهم إلى الْهدَى لا يسْمَعوا) :
يحتمل أن يريد الأصنام، فيكون تحقيراً لها وردًّا على مَنْ عبدها، فإنها جماد مَوَات لا تسمع شيئاً، أو يريد الكفار، ووصفَهم بأنهم لا يسمعون، يعني سمعاً ينتفعون به لإفراط نفورهم، أوْ لِأنَ اللهَ طبع على قلوبهم.
(وتَرَاهم ينظرون إليكَ) :
إن كان هذا من وصْفِ الأصنام فهو مجاز، وقوله:(لا يُبْصِرون) حقيقة، لأن
لهم صورة الأَعين وهم لا يبصرون شيئاً.
وإدْ كان مِن وَصْف الكفار فينظرون حقيقة، ولا يبصرون مجازاً على وَجْه المبالغة، كما وصفهم بأنهم لا يسمعون.
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ)
الضمير في الجميع للشيطان وأريد بفْوله: (طائِف من الشيطان) الجنس، فلذلك أعيد عليه ضمير الجماعة.
وإخوانهم هم الكفار، ومعنى (يمدونهم) يكونون مَدًّا لهم، أي يعضدونهم.
وضمير المفعول في (يَمدّونهم) للكفار، وضمير الفاعل للشياطين.
ويحتَمل أن يريد بالإخوان الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار.
والمعنى على الوجهين أنَّ الكفَّار يمدّهم الشيطان.
وقرئ " يمدونهم " - بفتح الياء وضمها.
والمعنى واحد.
و (الغي) يتعلق بـ (يمدونهم) .
وقيل يتعلق بـ (إخوانهم)، كما تقول: أَخوه في الله أو في الشيطان.
(وإذَا لَمْ تأْتِهم بآية قالوا لولا اجْتَبَيْتَها) :
في معناها قولان:
أحدهما اخترعتها من قِبَل نفسك: فالآية على هذا من القرآن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأخر عنه الوَحْى أحياناً، فتقول الكفَّار: هلا جئت بقرآن من قولك، والاجتباء معناه طلبتها من الله وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة أي يقولون اطلب من الله المعجزة.
(وإذا قرِئ القرآن فاسْتَمِعوا له) :
كانوا إذا سمعوا القرآن اشتغلوا عنه، فأمر اللَّهُ بالإنصات لقراءته على الإطلاق، ولا معنى لمن قال: إن معناها الإنصات لقراءة الإمام أو الخطبة، لأن الآية مَكّية، والخطبة إنما شرِعت بالمدينة.
وأيضاً اللفظ عام، ولا دليلَ على تخصيصه.
(وَجِلَتْ قلوبُهم) ، أي خافت.
وقرأ أبيّ بن كعب فزعت.
ومنه: لا توجل، ووجلون.
فاعرِضْ نفسك على هذا الميزان، هل تجد لذِكْرِ الله وجلاً في قلبك، فأنْتَ
مؤمن حقاَ، وحينئذ فلا تنْسَ نفسك وإخوانك من الدعاء، وإلا فابْكِ على
نفسك لحرمانك بخطيئتك، واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات.
(وإنّ فريقاً من المؤمنين لكَارِهونَ) ، أي لقتل العدو،
وذلك أنَّ عير قريش أقبلَتْ من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكباً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، فسمع بذلك أهْلُ مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عَدَدٍ كثير ليمنعوا عيرهم، فنزل جبريل، وقال: يا محمد، إنَ الله يَعِدُكم إحْدَى الطائفتين، إما العير وإما قريشا، فاستشارهم صلى الله عليه وسلم، فقالوا: العير أحبُّ إلينا من
لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له سعد بن عبادة: امضِ لما شئت، فإنا متبعوك.
وقال سعد بن معاذ: والذي بعثك بالحق لو خضتَ هذا البحر لخضناه معك.
(ولِيَربِطَ على قلوبكم ويثَبِّتَ به الأَقْدام) :
لما عدم الصحابة الماء قبل وصولهم إلى بدْر أنزل الله عليهم الماءَ فتطهَّروَا به، وثبتت قلوبهم بزوال ما وَسْوس لها الشيطان من عدم الماء لوضوئهم وغسلهم، وأزال عنها الكسل، وكانوا في رملة دَهسَة لا يثبت بها قَدم، فلما نزل المطر تلبَّدَت، ولبَّدَت الطريق، وسهل المشي والوقوف.
وروي أنَّ ذلك المطر صعب الطريق على المشركين، فكان فيه لطف من الله، فلذلك عدَّدَه من نعمه عليهم.
(وإنْ تعودوا نَعدْ) :
أي إنْ تعودوا إلى الاستفتاح والقتال نعد لقتلكم والنصر عليكم.
(ولا تَوَلَّوْا عنه وأنْتم تسمعون) ، أي القرآن والواعظ.
(وإذ يمكر بكَ الذين كفَروا) .
عطف على (إذ أنْتم قَليل) ، أو استئناف، وفيها إشارةٌ إلى اجتماع قريش
بدار النّدْوة.
قال الثعلْبي: كانوا اثني عشر رجلا دخلوا الدارَ، ودخل معهم إبليس لعنه
الله على صورةِ شيخٍ في يده عصاه، فقال له أبو جهل: إنَّا قد اجتمعنا في تدبير أَمرِ خفيّ، فارجع أنْتَ يا شيخ.
فقال إبليس: إني شيخ من أرض نجْد رأيت الدهور، وكرَّت الأمور عليَّ، أنا أعلم مصالح التدبير وموافقة التأويل والتفسير، فأدخلوني معكم لعلي أنبئكم بتأويله.
وإنما نسَب نَفْسَه لنَجْد، لأنهم قالوا:
لا تدْخِلوا معكم أحدًا من أهل تهامة لمحبتهم في محمد، فلما دخلوا قال لهم عتبة: إن الموت حق، فاصبروا حتى يقضيَ الله على محمد فتَنْجوا من شره.
فقال له إبليس: أفّ لك! أين أنْتَ عن التدبير، أنت لا تصلح إلا لرَعْي المواشي، فلو صبرتم حتى يموتَ محمد يظهر دِينه في مشارق الأرض ومغاربها، فتجمع عنده عساكر عظيمة لمحاربتكم، فيهلككم.
فقالوا: صدق الشيخ النجدي.
ثم قال شيبة: إني أرى أنْ نحْبِسه في بيتٍ ونغلق أبوابه حتى يموت فيه جوعاً وعطشا.
فقال إبليس: وهذا أيضاً ليس بصوابِ، فإنَّ بني هاشم يجتمعون ويأخذونه من أَيديكم، ويخلون سبيله، ويقع بينكمَ وبين أقربائه عداوة عظيمة.
فقالوا: صدق الشيخ النَّجْدي.
فقال عامر بن وائل: نعضد محمداً على بعير ونَسوقه في البادية
ليهلك فيها.
فقال إبليس: ليس بصواب، لأن محمداً فصيح اللسان، مَليح
الجنان، قويم القامة، صبيح الوَجْه، كلّ مَن رآه أحبه، وربما لقِيَه أحدٌ وهداه إلى البلاد، فيصدقه كلّ من يسمع كلامه، ويجتمع عنده جمع عظيم، فيرجع إليكم، ويحاربكم، فصاحوا جميعاً: صدق الشيخ النجدي.
فقال أبو جهل لعنه الله: إني أرى أنْ نخْرِجَ من كل قبيلة شابّاً فيهجمون
على محمد في ليلة فيضربه كلّ واحد منهم ضربةً جميعاً بالأسلحة حتى لا يعْلم قاتِله بعينه، فإذا طَلب أقارِبه الديةَ نجمَع الأموال من القبائل ونعْطيهم وننجو من شره.
فقال إبليس: أحسنْتَ وأصبْتَ، لرَأْيك أحسن الرأي، وتدبيرك أحسن
التدبير، فاتفقوا عى قَتْله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا من دار الندوة، فنزل جبريل بهذه الآية، تم قال: إن الله يقول لكَ: اخرج من مكة.
فأتى إلى أبي بَكْر، وكان يأتيه كلّ يوم طرفي النهار، فأتاه في الظَّهيرة، فقال أبو بكر: ما جاء بك في هذا الوقت، فِداك أبي وأمي؟
فقال لي: أَخرِج مَنْ معك.
فقال: وهل هم إلا أهلك.
فقال: أما شعرت أنَّ الله أمرني بالخروج، وكان يقول لأبي بكر: لا تهاجر حتى أَجِدَ لك رفيقاً، فقال له: الصحبة يا رسول الله، فقال: الصحبة.
فقال: خذْ إحدى هاتين الناقتين.
فقال له: لا آخذها إلا بالثمن، ليكون مهَاجراً بنفسه وماله.