الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال معلقًا على قول جابر رضي الله عنه في آخر حديثه: «فخطبت امرأة من بني سلمة، فكنت أختبئ تحت الكرب حتى رأيت منها بعض ما دعاني إِليها» (1).
وفي هذا الحديث دليل من وجهين:
الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن استطاع أن ينظر. . . إلخ» يدل على أن النظر إلى النساء لم يكن سهلَا، بل كان لابد لها من حيل وتصرفات، ولو كانت النساء يخرجن سافرات الوجوه في ذلك الزمان لم يكن لاشتراط الاستطاعة في النظر إليهن معنى.
والثاني: ما فعله جابر من الاختباء تحت الكرب دليل على أن النساء لم يكن يتركن الحجاب إلا إذا علمن أنهن في أمن من نظر الرجال.
الدليل الرابع والعشرون: حديث أَبِي حُمَيْدٍ رضي الله عنه
-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ
(1) المحلى لابن حزم، 11/ 220.
(2)
مجلة الجامعة السلفية، عدد نوفمبر وديسمبر، 1978م، وإبراز الحق، ص 52.
إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ» (1).
قال الشيخ أبو هشام الأنصاري رحمه الله: «إن رفع الجناح عن إظهار التزين في هذه الحالة المخصوصة لأجل هذه المصلحة الخاصة دليل على أن في إظهار التزين في عامة الأحوال جناحًا وإثماً.
والدليل على تغاير حكم الخطبة عن حكم عامة الأحوال أن الخاطب أبيح له النظر إلى المخطوبة، بل هو مأمور بذلك أمر حض وإرشاد، أو أمر استحباب وندب، بينما هو مأمور بغض البصر عن الأجنبيات، وحرم عليه النظر إليهن إلا النظرة الأولى، أو نظرة الفجأة التي تصدر منه من غير عمد وقصد، والذين لهم إلمام بقواعد الشريعة يعرفون جيدًا أن تقييد إِباحة الشيء أو جوازه أو رخصته بحالة خاصة دليل على تحريمه في الأصل، كما أن ما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة (2)، فجواز أو إباحة إظهار التزين - الذي يعده البعض كشف الوجه - للمخطوبة دليل على تحريم إظهار تلك الزينة في عامة الأحوال.
وصنيع الفقهاء والمحدثين يرشد إلى ما قلنا؛ فإن عامتهم بوبوا
(1) أخرجه الإمام أحمد 39/ 15، برقم 23602، والطحاوي، 3/ 14، والطبراني في الأوسط، 6/ 99، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد:«ورجال أحمد رجال الصحيح» ، وسكت عليه الحافظ في التلخيص الحبير، 3/ 147، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 97، وصححه محققو المسند، 39/ 15،.
(2)
انظر: زاد المعاد، 2/ 213.
على أحاديث الخطبة بباب جواز النظر إلى المخطوبة وأمثاله، فتقييدهم النظر إلى المخطوبة بالجواز يشعر بأن النظر إلى غير المخطوبة غير جائز عندهم» (1).
وقال الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني: «لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها
…
، ولا بأس بالنظر إليها بإذنها وغير إذنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالنظر وأطلق
…
ولا يجوز له الخلوة بها؛ لأنها محرمة، ولم يَرد الشرعُ بغير النظر، فبقيت الخلوة على التحريم؛ ولأنه لا يُؤمَن مع الخلوة مواقعة المحظور
…
، ولا ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة، ولا لريبة، قال أحمد في رواية صالح: ينظر إلى الوجه، ولا يكون عن طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها، ويتأمل محاسنها؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك» (2).
وقيَّد الحجاوي والفُتُوحي وغيرهما جواز النظر بما إذا غلب على ظنه إجابته، قال الجراعيُّ:«متى غلب على ظنه عدم إجابته لم يجز، كمن ينظر إلى امرأة جليلة يخطبها مع علمه أنه لا يُجاب إلى ذلك» .
وكما أن الأحاديث التي ذُكرت آنفًا قد دلت بمنطوقها على جواز
(1) مجلة الجامعة السلفية، نوفمبر، ديسمبر، 1978م.
(2)
المغني، 6/ 552 - 553 مختصراً، وفي المسألة تفصيل يراجع في سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم 95 - 99.
نظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، فكذلك هي دالة بمفهومها على أنه لا يجوز النظرُ إلى غيرها من سائر الأجنبيات ويوضح ذلك قوله في حديث أبي حُميد رضي الله عنه:«إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة» ، فدل على أنه لا يجوز النظر إلى الأجنبية لغير خاطب.
وأيضاً فوضع البأس والجُناح على الخاطب إذا نظر إلى مخطوبته يدل على أنه لا يجوز النظر لغير خاطب، وأن عليه في نظره إلى الأجنبية بأساً وجناحَاً، واللَّه أعلم (1).
وقد أخرج البخاري رحمه الله في الجامع نحو حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقد عقد بابًا إذ قال: «باب النظر إلى المرأة قبل التزويج» ، وقال الحافظ في الفتح:«قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، قالوا: ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها» (2).
وسياق حديث محمد بن مسلمة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ألقَى اللَّه عز وجل
(1) انظر: عودة الحجاب، 3/ 324.
(2)
راجع الخلاف في هذا في فتح الباري، لابن حجر، 9/ 182.
(3)
رسالة الحجاب، ص 42 - 43.