الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: أدلة وجوب الحجاب من السنة المطهرة:
الدليل الأول: أحاديث أسباب نزول الحجاب:
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في سبب نزول آية الحجاب، وهي قوله تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً * إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنّ اللهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} (1):
«هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول اللَّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل اللَّه تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ، وقلت: يا رسول اللَّه إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن؟ فأنزل اللَّه آية الحجاب، وقلت لأزاوج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تمالأن عليه في الغيرة:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت كذلك، وفي رواية لمسلم ذكر أسارى
(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 53 - 54.
بدر وهي قضية رابعة» (1).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول اللَّه، يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل اللَّه آية الحجاب» (2).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى اللَّه تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة، والواقدي وغيرهما.
وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث، فاللَّه أعلم» (3).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما تزوّج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى
(1) البخاري، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة
…
، برقم 402، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، برقم 2399، وهي رواية مسلم المشار إليها فلفظها:«قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الْحِجَابِ وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ» .
(2)
مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، برقم 2399.
(3)
تفسير القرآن العظيم، 11/ 202.
دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية (1).
وفي لفظ البخاري عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينت بنت جحش بخبز ولحم، فَأُرْسِلْتُ على الطعام داعياً، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقلت: يارسول اللَّه ما أجد أحداً أدعوه، قال:«ارفعوا طعامكم» ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال:«السلام عليكم - أهل البيت - ورحمة اللَّه وبركاته» ، قالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول اللَّه؟ بارك اللَّه لك؟ فَتَقَرَى (2) حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط [في البيت] يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حُجْرة عائشة، فما أدري أخبرتُه أم أُخْبِرَ أن القوم خَرَجوا؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسْكُفَّةِ (3) الباب داخله والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب» (4).
(1) البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} ، برقم 4791، وبرقم 4792، وبرقم 6239، و6271، ومسلم، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش، رقم 11792.
(2)
أي: تتبعها.
(3)
أسكفة الباب: عتبته.
(4)
البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} ، برقم 4793، و4794، والنسائي في السنن الكبرى، برقم 10101.
وعن أنس بن مالك قال: أعرس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سُليم حيساً (1)، ثم جعلته في تَوْر (2)، فقالت: اذهب بهذا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقرئه مني السلام، وأخبره أن هذا منا له قليل، قال أنس: والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت: يارسول اللَّه، بعثت بهذا أم سُليم إليك، وهي تقرئك السلام، وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال:«ضعه» ، فوضعته في ناحية البيت، ثم قال:«اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً» ، فسمى رجالاً كثيراً وقال:«ومن لقيت من المسلمين» ، [فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين] ، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال: كانوا زهاء ثلاثمائة، قال أنس: فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «جِئْ بِهِ» ، فجئتُ به إليه، فوضع يده عليه ودعا، وقال:«ما شاء اللَّه» ، ثم قال:«ليَتَحَلَّق عَشَرة عَشَرَة، وليسمُّوا، وليأكل كل إنسان مما يليه» ، فجعلوا يسمّون ويأكلون، حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«ارفعه» قال: فجئتُ فأخذت التور، فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت؟ قال: وتخلّف رجال يتحدثون في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مُولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث،
(1) الحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن وتسوَّى كالثريد.
(2)
التور: إناء يشرب فيه.
فشقوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، [وكان أشدَّ الناس حياء، - ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً]- فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فخرج فسلَّم على حُجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً، وأنزل اللَّه عليه القرآن، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ
نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ} إلى قوله: {بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً} الآيات، قال أنس: فقرأهن عليَّ قبل الناس، فأنا أحدث الناس بهن عهداً» (1).
قال ابن كثير رحمه الله: «وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به» (2) ، وعلقه البخاري في كتاب النكاح، فقال: وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه (3). ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر عن الجعد به (4) ، (5).
(1) تفسير ابن أبي حاتم، 10/ 3149، برقم 17759. وهذا لفظه.
(2)
مسلم، كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، برقم 94 - (1428)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأحزاب، برقم 3218، والنسائي، كتاب النكاح، باب الهدية لمن عرس، برقم 3387.
(3)
البخاري، كتاب النكاح، باب الهدية للعروس، برقم 5163،
(4)
مسلم، كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، برقم 95 - (1428)، وانظر: صحيح البخاري، برقم 5170.
(5)
تفسير القرآن العظيم، 11/ 204.
وعن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لزيد: «اذهب فاذكرها عليَّ» ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها، قال وهي تُخمر عجينها، فلما رأيتُها عظُمَتْ في صدري
…
، وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} ، وزاد في آخره بعد قوله: وَوَعَظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ} الآية» (1).
وعن عائشة رحمه الله قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كنَّ يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع - وهو صعيد أفيح -، وكان عمر يقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك، فلم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة، حِرْصاً على أن
(1) مسلم في النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، برقم 89 - (1428) عن محمد بن حاتم، عن بهز، وعن محمد بن رافع، عن أبي النضر بن القاسم، والنسائي، كتاب النكاح، باب صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها، برقم 3251، وفي التفسير في الكبرى، قوله تعالى:{فلما قضى زيد منها وطراً} ، برقم 11346، عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، ثلاثتهم عن سليمان به.
ينزل الحجاب، قالت: فأنزل اللَّه الحجاب» (1). ولكن قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب، كما رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رحمه الله قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة أما واللَّه ما تَخْفَيْنَ علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأت راجعة، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشّى وفي يده عَرْقٌ (2) ، فدخلت فقالت: يارسول اللَّه إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى اللَّه إليه، ثم رُفعَ عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: «إنه قد أذنَ لكن أن تخرجن لحاجتكن» (3). لفظ البخاري» (4).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والحاصِل أَنَّ عُمَر رضي الله عنه وقَعَ فِي قَلبه نُفرَة مِن اطِّلاع الأَجانِب عَلَى الحَرِيم النَّبَوِيّ، حَتَّى صَرَّحَ بقَولهِ لَهُ عليه الصلاة والسلام: اُحجُب نِساءَك، وأَكَّدَ ذَلِكَ إِلَى أَن نَزَلَت
(1) أخرجه ابن جرير بسنده في جامع البيان، 22/ 28.
(2)
العرق: العظم أخذ عنه معظم اللحم، وبقي عليه لحوم رقيقة طيبة.
(3)
المسند، 40/ 333، برقم 24290، والبخاري في كتاب الوضوء، باب خروج النساء إلى البراز، برقم 146، ورقم 147، و4795، و5237، و6240، ومسلم، كتاب السلام، باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان، برقم 2170.
(4)
تفسير القرآن العظيم، 11/ 206.
آيَة الحِجاب، ثُمَّ قَصَدَ بَعدَ ذَلِكَ أَن لا يُبدِينَ أَشخاصهنَّ أَصلاً، ولَو كُنَّ مُستَتِرات، فَبالَغَ فِي ذَلِكَ، فَمَنَعَ مِنهُ، وأَذِنَ لَهُنَّ فِي الخُرُوج لِحاجَتِهِنَّ دَفعًا لِلمَشَقَّةِ، ورَفعًا لِلحَرَجِ» (1).
وقال القسطلاني رحمه الله: «وفيه تنبيه على أن المراد بالحجاب التستر حتى لا يبدو من جسدهن شيء لا حجب أشخاصهن في البيوت» (2).
ثم استثنى من ذلك فقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} .
قال مجاهد، وقتادة وغيرهما: أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه اللَّه ويذمّه، وهذا دليل على
(1) فتح الباري، 8/ 531.
(2)
إرشاد الساري، 7/ 303.
(3)
البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة، برقم 5232، ومسلم، كتاب السلام، باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان، برقم 2172.
تحريم التطفيل، وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.
ثم قال تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إذَا دَعَا أَحَدُكُم أخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرساً كان أو غيره» (1).
وفي الصحيح أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لو دُعيتُ إلى ذِراعٍ لأجبتُ، ولو أُهدِي إليَّ ذِراعٌ أوْ كُرَاعٌ لقبِلْتُ» (2)؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، ونسُوا أنفسهم حتى شق ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} .
وقيل: المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه صلى الله عليه وسلم حتى أنزل اللَّه عليه النهي عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى:{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا
(1) مسلم، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، برقم 100 - (1429)، وأصله في الصحيحين.
(2)
البخاري، كتاب الهبة، باب القليل من الهبة، برقم 2568، ورقم 5178.
إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن، فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن مسعر، عن موسى بن أبي كثير، عن مجاهد، عن عائشة رحمه الله قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قَعْبٍ (1) ، فمر عمر فدعاه فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال حسّ (2) - أو أوه- لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزل الحجاب» (3).
وقد جمع الحافظ رحمه الله بين هذه الروايا فقال: «
…
وطَرِيق الجَمع بَينها أَنَّ أَسباب نُزُول الحِجاب تَعَدَّدَت، وكانَت قِصَّة زَينَب آخِرها لِلنَّصِّ عَلَى قِصَّتها فِي الآيَة» (4).
وقال الحافظ بعد ذكر حديث عائشة رحمه الله آنف الذكر الذي أصابت أصبعه أصبعها فيه: «ويُمكِن الجَمع بِأَنَّ ذَلِكَ وقَعَ قَبلَ قِصَّة زَينَب، فَلِقُربِهِ مِنها أَطلَقت نُزُول الحِجاب بِهَذا السَّبَب، ولا مانِع مِن تَعَدُّد الأَسباب» (5).
(1) القعب: القدح الضخم.
(2)
حس: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه وأحرقه غفلة كالجمرة والضربة ونحوهما. انظر: النهاية في غريب الحديث، 1/ 385.
(3)
تفسير القرآن العظيم، 11/ 207.
(4)
فتح الباري، لابن حجر، 1/ 249.
(5)
فتح الباري، لابن حجر، 8/ 531.