الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن الأثير: «يا أَمَة الجبار» : إنما أضاف الأَمَةَ هنا إلى الجبَّار دون باقي أسماء اللَّه تعالى؛ لأن الحال التي كانت عليها المرأة من الفخر والكبرياء بالطيب الذي تطيبت به، وجرِّ أذيالها، والعُجبِ بنفسها، اقتضى أن يضيف اسمها إلى اسم الجبار، تصغيرًا لشأنها، وتحقيرًا لها عند نفسها، وهذا من أحسن التعريض، وأشبهه بمواقع الخطاب» (1).
وقال الشيخ محمد عبد الرحمن البنا الساعاتي: «إنما طلبَ منها الغسل كغُسلِ الجنابة، يعني في وجوبه، وتعميم بدنها بالماء مبالغة في إزالة ريح الطيب، والمعنى: أن اللَّه تعالى لا يقبل من امرأة تطيَّبت لأجل المسجد صلاةً مادامت رائحة ذلك الطيب عالقة بها، فإذا كان هذا عقاب من تطيبت لأجل المسجد والصلاة، فما بالك بعقاب من تطيبت للخروج في الأسواق والمتنزهات، ولم تركع للَّه ركعة من الصلوات المفروضات. نسأل اللَّه السلامة» (2).
5 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَسْجِدِ
فَلْتَغْتَسِلْ مِنْ الطِّيبِ كَمَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ» (3).
(1) جامع الأصول في أحاديث الرسول، 4/ 772.
(2)
بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، 5/ 200.
(3)
أخرجه النسائي، كتاب الزينة، اغتسال المرأة من الطيب، برقم 5127، وفي السنن الكبرى له أيضاً، كتاب الزينة، اغتسال المرأة من الطيب، برقم 9362، وبنحوه البيهقي، 3/ 133، وابن أبي شيبة 9/ 26، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1031.
قال السندي رحمه الله: «قوله: فلتغتسل من الطيب ظاهرهُ أنها إذا أرادت الخروج إلى المسجد وهي قد استعملت الطيب في البدن، فلتغتسل منه، وتبالغ فيه كما تبالغ في غسل الجنابة، حتى يزول عنها الطيب بالكلية، ثم لْتخرج.
ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّه} (1)، لا أنها إذا خرجت بطيب ثم رجعت فعليها الغُسل لذلك، لكن رواية أبي داود ظاهرة في الثاني؛ فقيل: أمَرَها بذلك تشديدًا عليها، وتشنيعًا لفعلها، وتشبيهًا له بالزنا؛ وذلك لأنها هيَّجت بالتعطر شهوات الرجال، وفتحت باب عيونهم التي بمنزلة بريد الزنا، فحكم عليها بما يُحكم على الزاني من الاغتسال من الجنابة، «واللَّه تعالى أعلم» (2).
والوجه الأول القاضي بوجوب الغُسل عليها إذا أرادت الخروج متطيبة إلى المسجد، هو الذي ذهب إليه الحافظ ابن خزيمة في صحيحه حيث قال:«باب إيجاب الغسل على المتطيبة للخروج إلى المسجد، ونفي قبول صلاتها إن صلَّت قبل أن تغتسل» (3).
وقد كان السلف الصالح رحمهم اللَّه تعالى يتشددون في هذا
(1) سورة النحل، الآية:98.
(2)
حاشية السندي بهامش سنن النسائي، 8/ 154.
(3)
صحيح ابن خزيمة، 3/ 91.
الباب، فيزجرون المرأة إذا شمُّوا طيبها، ولا يأذنون لها - حينذاك - ـ بالخروج من بيتها.
* فعن إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ، فَمَرَّ بِالنِّسَاءِ، فَوَجَدَ رِيحَ رَأْسِ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: مَنْ صَاحِبَةُ هَذِهِ الرِّيحِ؟ أَمَا لَوْ عَرَفْتُهَا لَفَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، إِنَّمَا تَطَّيَّبُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا، فَإِذَا خَرَجَتْ لَبِسَتْ أُطَيْمِيرَهَا أَوْ أُطَيْمِيرَ خَادِمِهَا، قَالَ: فَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهَا قَامَتْ عَنْ حَدَثٍ» (1) يعني من شدة الخوف.
* وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ وَجَدَ مِنَ امْرَأَتِهِ رِيحَ مِجْمَرٍ، وَهِيَ بِمَكَّةَ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا أَلَا تَخْرُجَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» (2).
* وعَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّ امْرَأَتَهُ اسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَهَا، فَأَذِنَ لَهَا، فَوَجَدَ بِهَا رِيحُ دُخْنة فحبسها، وَقَالَ: إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَطَيَّبَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ فَإِنَّمَا طِيبُهَا شَنَارٌ فِيهِ نَارٌ» (3).
وأما ما جاء عن عائشة رحمه الله، أنها قالت:«كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالسُّكِّ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَاهَا» (4).
(1) مصنف بن أبي شيبة، 9/ 25 - 26.
(2)
مصنف بن أبي شيبة، 9/ 27.
(3)
مصنف بن أبي شيبة، 9/ 27، وغريب الحديث لأبي عبيد الهروي، 4/ 429، والفائق للزمخشري.
(4)
أخرجه أبو داود، كتاب المناسك، باب ما يلبس المحرم، برقم 1832، والبيهقي، 5/ 48، ولفظه:«فلا ينهانا» ، وله في معرفة السنن، 7/ 143، وبنحوه أحمد، 41/ 50، برقم 24502، وقال الشوكاني في نيل الأوطار، 5/ 10:«سكت عنه أبو داود والمنذري، وإسناده رواته ثقات، إلا الحسن بن الجنيد شيخ أبي داود، وقد قال النسائي لا بأس به، وقال ابن حبان في الثقات: مستقيم الأمر فيما يروي» ، وقال النووي في المجموع،
7/ 219: «هذا حديث حسن» ، وصحح إسناده الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 6/ 92، برقم 1606.
فهو خاص بحالة مريد الإحرام لا بغيرها، ويقابل تلك الحالة من المنهيات قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» (1)، وما ذلك إلا لكونها في عبادة خاصة؛ لهذا أذنَ لها بالطيب قبل شروعها في الإحرام رغم أنه مُحَرَّمٌ عليها عند خروجها من منزلها في غير الحالة المذكورة، وحَرَّمَ عليها النقاب والقفازين أثناء إحرامها مع كونهما من حجاب المسلمات الذي دَرَجْنَ عليه في غير حالة الإحرام.
وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله في باب «الطيب للإحرام» من كتابه: «اختلاف الحديث» بعضَ الأحاديث الواردة في ذلك، ثم قال:«وبهذا كله نأخذ، فنرى جائزًا للرجل والمرأة أن يتطيبا بالغَالية وغيرها مما يبقى ريحه بعد الإحرام، إذا كان تطيبَ به قبل الإحرام» (2).
وقال الإمام النووي رحمه الله: «يُستحبّ أن يتطيّب في بدنه عند إرادة الإحرام، سواء الطِّيب الذي يبقى له جُرم بعد الإحرام، والذي
(1) أخرجه البخاري، برقم 1838، تقدم تخريجه.
(2)
اختلاف الحديث، ص 175.
لا يبقى، وسواء الرجل والمرأة، هذا هو المذهب، وبه قطع جماهير الأصحاب في جميع الطرق».
وبعد أن أورد أقوالًا أخرى قال: «والصواب استحبابه مطلقاً
…
وسواء في استحبابه المرأة الشابة والعجوز، وقالوا: والفرق بينه وبين الجمعة؛ فإنه يكره للنساء الخروج إليها مُتطيبات؛ لأن مكان الجمعة يضيق، وكذلك وقتها، فلا يمكنها اجتناب الرجال بخلاف النسك» (1).
وقال الخطيب الشربيني: «وَيُسَنُّ أَنْ يُطَيِّبَ مُرِيدُ الْإِحْرَامِ بَدَنَهُ لِلْإِحْرَامِ رَجُلًا كَانَ أَوْ خُنْثَى، أَوْ امْرَأَةً شَابَّةً، أَوْ عَجُوزًا: خَلِيَّةً أَوْ مُتَزَوِّجَةً، اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم.رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَقِيلَ: لَا يُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ، كَذَهَابِهَا إلَى الْجُمُعَةِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ زَمَانَ الْجُمُعَةِ وَمَكَانَهَا ضَيِّقٌ، وَلَا يُمْكِنُهَا تَجَنُّبُ الرِّجَالِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ» (2).
وبناءً على ذلك فإن هذا الحديث خاص بحالة الإحرام؛ ولعل الحكمة في الترخيص لهن بالطيب أثناء ذلك هي دفعُ الروائح الكريهة الناجمة عن كثرة التعرق من شدة الحرارة، وكثرة الزحام، ويبعد عنهن في الغالب كل البعد استمالة الرجال إلى المعصية أثناء ذلك؛ لكونهن يؤدين عبادة اللَّه تعالى في أقدس البقاع.
(1) المجموع شرح المهذب، 7/ 218.
(2)
مغني المحتاج، 1/ 479.
أما ماعدا تلك الحالة، فيحرم على المرأة أن تتطيب عند خروجها من بيتها؛ لدلالة الأحاديث المتقدمة التي تنهى عن ذلك أشد النهي.
وحديث عائشة رحمه الله قالت: «طَيَّبتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِيَدِي لِحُرْمِه، وطيَّبتُهُ بِمِنًى قبلَ أن يُفيضَ» (1).
وليس في هذا الحديث أي دلالة على جواز خروج المرأة متطيبة. بل يؤخذ منه عين الترجمة التي وضعها له الإمام البخاري، حيث قال:«باب تطييب المرأة زوجها بيديها» .
قال الحافظ ابن حجر: «كَأَنَّ فِقه هَذِهِ التَّرجَمَة مِن جِهَة الإِشارَة إِلَى الحَدِيث الوارِد فِي الفَرق بَين طِيب الرَّجُل والمَرأَة، «وأَنَّ طِيب الرَّجُل ما ظَهَرَ رِيحه، وخَفِيَ لَونه، والمَرأَة بِالعَكسِ» (2)، فَلَو كانَ ذَلِكَ ثابِتًا لامتَنَعَت المَرأَة مِن تَطَيُّب زَوجها؛ لِما يُعَلَّق بِيَدَيها وبَدَنها مِنهُ حالَة تَطيِيبها لَهُ، وكانَ يَكفِيه أَن يُطَيِّب نَفسه، فاستَدَلَّ المُصَنِّف بِحَدِيثِ عائِشَة المُطابِق لِلتَّرجَمَةِ، وقَد تَقَدَّمَ مَشرُوحًا فِي الحَجّ، وهُو
(1) البخاري، كتاب اللباس، تطييب المرأة زوجها بيديها برقم 5922، بلفظه، ومسلم، كتاب الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، برقم 1189.
(2)
الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في طيب الرجال والنساء، برقم 2788، بلفظ:«طيب الرجال ما ظهر ريحه، وطيب النساء ما ظهر لونه، وخفي ريحه» ، وقال:«هذا حديث حسن غريب» ، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الزينة، الفصل بين طيب الرجال والنساء، برقم 9348، ومعجم الشيوخ لابن عساكر، 2/ 191، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، برقم 188.