الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَتَكَهُ، وَقَالَ:«أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ» ، قَالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ» (1).
4 - عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها
- أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً (2) فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟» قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» ، وَقَالَ: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا
(1) البخاري، كتاب اللباس، باب ما وطئ من التصاوير، برقم 5954، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، بَابُ تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه
…
، برقم 2107.
قال الحافظ ابن حجر: «القرام - بكسر القاف، وتخفيف الراء -: هو ستر فيه رقم ونقش، وقيل: ثوب من صوف ملون، يُفرش في الهودج أو يُغطى به. على سهوة - بفتح المهملة، وسكون الهاء -.
وقد نقل ابن حجر في معناها أقوالًا عديدة، ثم اختار المعنى المناسب لها في هذا الحديث فقال: فتعين أن السهوة بيت صغير عُلقت الستر على بابه». فتح الباري، 10/ 387.
(2)
نمرقة - أي بضم النون والراء، ضبطه ابن السِّكّيت هكذا، وضبطها أيضًا: بكسر النون والراء، وبغير هاء-، وجمعها: نمارق، وقال ابن التين: ضبطناها في الكتب بفتح النون وضم الراء، وقال عياض وغيره: هي وسادة، وقيل: مِرفقة، وقيل: هي المجالس، ولعله يعني الطنافس. وفي المُحْكم: النمرق والنمرقة، قد قيل: هي التي يلبسها الرجل، وفي الجامع: النمرق تجعل تحت الرحل، وفي الصحاح: النمرقة: وسادة صغيرة، وربما سَمَّوا الطنفسة التي تحت الرحل: نمرقة». عمدة القاري، 11/ 224.
تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» (1).
وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب البيوع فقال: «باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء» ، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه:«والثوب الذي فيه الصورة يشترك في المنع منه الرجال والنساء، فهو مطابق للترجمة من هذه الحيثية» (2).
قال النووي رحمه الله: «أما اتخاذ المصوَّر فيه صورةَ حيوان، فإن كان معلقًا على حائط، أو ثوبًا ملبوسًا، أو عمامة، ونحو ذلك، مما لا يُعَدُّ ممتهنًا فهو حرام، وإن كان في بساط يُداس، ومخدّة، ووسادة، ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل، وما لا ظل له.
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء: من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته
(1) البخاري، كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، برقم 2105، واللفظ له، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، بَابُ تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه
…
، برقم 2107.
(2)
فتح الباري، 4/ 325.
ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة.
وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقمًا في ثوب، أو غير رقم، وسواء كانت في حائط، أو ثوب، أو بساط ممتهن، أو غير ممتهن، عملًا بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النُّمْرُقة الذي ذكره مسلم، وهذا مذهب قوي.
وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقمًا في ثوب سواء امتُهن أم لا، وسواء عُلِّقَ أم لا، وكرهوا ما كان له ظل، أو كان مُصَوَّرًا في الحيطان وشبهها، سواء كان رقمًا أو غيره، واحتجوا بقوله في بعض أحاديث الباب:«إلا ما كان رقمًا في ثوب» ، وهذا مذهب القاسم بن محمد.
وأجمعوا على منع ما كان له ظل، ووجوب تغييره، قال القاضي: إلا ما ورد في اللَّعِبِ بالبنات (1)، والرخصة في ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادَّعى بعضهم أن إباحة اللَّعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث، والله أعلم» (2).
وقد تعقَّبَ الحافظُ ابن حجر الإمامَ النووي في بعض ما ساقه، قال: «وفيما نقله مؤاخذات:
- منها: أن ابن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها
(1) أي: الدمى، مفردها: دمية، ويقصد بها هنا ما يُتخذ على صورة البنات.
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي، 14/ 81 - 82.
ظل حَرُمَ بالإجماع، سواء كانت مما يمتهن أم لا، وهذا الإجماع محله في غير لُعَبِ البنات، وصحَّحَ ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها إذا بقيت على هيئتها حَرُمَت، سواء كانت مما يمتهن أم لا، وإن قطع رأسها أوفرقت هيئتها جاز، وهذا المذهب منقول عن الزهري، وقوَّاه النووي، وقد يشهد له حديث النُّمْرُقة.
- ومنها: أن إمام الحرمين نقل وجهًا أن الذي يُرَخَّصُ فيه مما لا ظل له، ما كان على ستر، أو وسادة؛ وأما ما على الجدار والسقف فيُمنع.
- ومنها: أن مذهب الحنابلة جوازُ الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا على ما في خبر أبي طلحة، لكن إن سُترَ به الجدار منع عندهم.
- ومنها: قول النووي: وذهب بعض السلف إلى أن الممنوع ما كان له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقًا، وهو مذهب باطل
…
قلت: المذهب المذكور نَقَله ابن أبي شيبة، عن القاسم بن محمد بسند صحيح، ففي إطلاق كونه مذهبًا باطلًا نظر، إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله:«إلا رقمًا في ثوب» ؛ فإنه أعمُّ من أن يكون معلقًا، أو مفروشًا، وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر المذكور مركبًا من كونه مصورًا، ومن كونه ساترًا للجدار
…
ثم قال الحافظ: لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رُخِّصَ فيه من ذلك ما يُمتهن، لا ما كان منصوبًا، وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق أيوب، عن عكرمة، قال:«كانوا يقولون في التصاوير في البسُط والوسائد التي توطأ ذُلٌ لها» ، ومن طريق عاصم، عن عكرمة، قال:«كانوا يكرهون ما نُصِبَ من التماثيل نصبًا، ولا يَرون بأسًا بما وطئته الأقدام» (1).
قال ابن قدامة: «فأما الثياب التي عليها تصاوير الحيوانات، فقال ابن عقيل: يكره لبسها وليس بمحرَّم، وقال أبو الخطاب: هو محرم، لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا صورة» ، متفق عليه (2).
وحجة من لم يَرَهُ مُحرَّمًا: أن زيد بن خالد رواه عن أبي طلحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في آخره:«إلا رقمًا في ثوب» متفق عليه» (3).
وقال ابن مفلح الحنبلي: «ولا يجوز لُبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين» اختاره أبو الخطاب، وجزم به السامري، وصاحب التلخيص، لما روى أبو طلحة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب، أو صورة» متفق عليه.
(1) فتح الباري، 10/ 388 باختصار.
(2)
البخاري، برقم 3322، ومسلم، برقم 2106، وتقدم تخريجه.
(3)
المغني، 1/ 590، والحديث أخرجه البخاري، برقم 3322، ومسلم، برقم 2106، وتقدم تخريجه.
والمراد به كلب منهي عن اقتنائه، وقال أحمد في رواية صالح: الصورة لا ينبغي لبسها، وكتعليقِهِ وستر الجدار به وِفَاقًا، وظاهره عام في الكل.
والثاني: يُكره ولا يحرم، قاله: ابن عقيل، وقدَّمه ابن تميم، لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الخبر:«إلا رقمًا في ثوب» ، وكافتراشه، وجعله مِخَدًا، لأنه صلى الله عليه وسلم اتكأ على مخدة فيها صورة. رواه أحمد (1).
وعُلم مما سبق أنه يحرم تصوير الحيوان، وحكاه بعضهم وفاقًا، لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن أصحاب هذه الصور يُعذبون يوم القيامة، ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتم» رواه البخاري (2).
فلو أُزيل منها ما لا تبقى الحياة معه لم يكره في المنصوص، ومثله شجر ونحوه» (3).
وقال البهوتي - فقيه الحنابلة في وقته -: «يحرم على ذكر وأنثى لُبس ما فيه صورة حيوان» لحديث أبي طلحة قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة، أو كلب» متفق عليه.
(1) لم أجد هذا اللفظ، وفي مسند أحمد، 10/ 404، برقم 6326:«حَدَّثَنَا لَيْثٌ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ فِيهَا تَمَاثِيلُ طَيْرٍ وَوَحْشٍ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يُكْرَهُ هَذَا؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يُكْرَهُ مَا نُصِبَ نَصْبًا، حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ» ، وضعفه محققو المسند.
(2)
البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، برقم 7558.
(3)
المبدع في شرح المقنع، 1/ 377 - 378.
«وتعليقُه» : أي ما فيه صورة، «وسترُ الجدار به» لما تقدم.
«وتصويرُه كبيرة» للوعيد عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم» .
«حتى في ستر، وسقف، وحائط، وسرير، ونحوها» لعموم ما سبق.
«لا افتراشه وجعله» أي المصوَّر، «مِخَدًا» فيجوز «بلا كراهة» .
قال في الفروع: «لأنه صلى الله عليه وسلم اتكأ على مِخَدَّةٍ فيها صور» . رواه أحمد، وهو في الصحيحين بدون هذه الزيادة» (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا تصح الصلاة في الثوب المغصوب، ولا الحرير، ولا المكان المغصوب، هذا إذا كانت الصلاة فرضًا، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وإن كانت نفلًا، فقال الآمدي: لاتصح، روايةً واحدة.
وينبغي أن يكون الذي يجرُّ ثوبه خيلاءً في الصلاة على هذا الخلاف؛ لأن المذهب أنه حرام، وكذلك من لبس ثوبًا فيه تصاوير» (2).
وقال الشوكاني في شرحه للحديث السابق: «فيه الإذن بتصوير الشجر، وكل ما ليس له نفس، وهو يدل على اختصاص التحريم بتصوير الحيوانات.
(1) كشاف القناع، 1/ 325، ونحو مختصراً في الإقناع.
(2)
الاختيارات الفقهية، ص 41 باختصار.
قال في البحر: ولا يكره تصوير الشجر، ونحوها من الجماد إجماعًا» (1).
وإذا جاز تصوير ما لا روح له، جاز لُبسُ الثوب الذي رُقمت عليه تلك الصورة التي لا روح فيها بالأَوْلى، لكن محل ذلك الثياب التي تبدو بها المرأة أمام زوجها، ومحارمها، والنساء، لا الجلباب الذي تستتر به فوق ثيابها، وتخرج به من منزلها، فهذا لا يحل لها، لأنه من الزينة المنهي عن إبدائها.
وأما حديث أبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ» ، قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ، فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ، عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَوَّلِ؟! فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَالَ: إِلَاّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ» (2).
وحديث عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ يَعُودُهُ، قَالَ: فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، فَدَعَا أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا، فَنَزَعَ نَمَطًا (3) مِنْ تَحْتِهِ، فَقَالَ لَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لِمَ
(1) نيل الأوطار، 2/ 105.
(2)
البخاري، كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصورة، برقم 5958، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، بَابُ تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه
…
، برقم 2106.
(3)
النَّمَط: - بفتحتين -، قال النووي في شرح صحيح مسلم، 14/ 86:«المراد بالنمط هنا: بساط لطيف له خَمَل» .
تَنْزِعُهُ قَالَ لِأَنَّ فِيهِ تَصَاوِيرَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مَا قَدْ عَلِمْتَ فَقَالَ سَهْلٌ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ قَالَ بَلَى وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِي» (1).
فقد تمسَّكَ المجيزون بهذا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إلا رقمًا في ثوب» فاحتجوا به على جواز ما له روح وما لا روح له.
ولا حجة لهم في هذين الحديثين وغيرهما على ما ذهبوا إليه، لأن الرَّقْمَ المذكور محمول على ما كان لغير ذي روح جمعًا بين الأدلة.
قال النووي رحمه الله: «إلا رقمًا في ثوب» : هذا يحتج به مَن يقول بإباحة ما كان رَقْمًا مطلقًا، وجوابنا وجواب الجمهور عنه: أنه محمول على رَقْمٍ على صورةِ الشجر وغيره مما ليس بحيوان، وقد قَدَّمْنا أنَّ هذا جائز عندنا» (2).
ونقل الحافظ ابن حجر عن النووي مفاد هذا الكلام، ثم أضاف فائدة أخرى فقال:«ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي، كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن» (3).
(1) أخرجه مالك، 5/ 1406، واللفظ له، وأحمد، 25/ 353، برقم 15979، والنسائي، كتاب الزينة، والتصاوير، برقم 5349، والترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في الصورة، برقم 1750، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، وابن حبان، 13/ 162، والبيهقي، 7/ 271، والطبراني في الكبير، 5/ 104، برقم 4731، وصححه لغيره محققو المسند، 25/ 353، وصححه الألباني في غاية المرام، ص 134.
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي، 14/ 85 - 86.
(3)
فتح الباري، 10/ 391.
وعن مجاهد قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لِي: أَتَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ إِلَاّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْبَابِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ (1) سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ، فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي الْبَيْتِ يُقْطَعُ، فَيَصِيرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ، وَمُرْ بِالسِّتْرِ فَلْيُقْطَعْ، فَلْيُجْعَلْ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مَنْبُوذَتَيْنِ تُوطَآنِ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَلْيُخْرَجْ» . فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا الْكَلْبُ لِحَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ كَانَ تَحْتَ نَضَدٍ لَهُمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ» (2).
قال الحافظ ابن حجر: «وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أن الصورة التي تمنع الملائكة من دخول المكان: التي تكون فيه باقيةً على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة أو غير ممتهنة، لكنها غُيِّرت من هيئتها إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها فلا امتناع (3).
(1) قال الفَتَّنيّ: «قِرامُ ستر: هو ستر رقيق، وقيل: صفيق من صوف ذي ألوان، وإضافته: كثوبِ قميص، وقيل: القرام: ستر رقيق وراء الستر الغليظ، ولذا أضافه» . اهـ مجمع بحار الأنوار، 4/ 257.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في الصور، برقم 4160، واللفظ له، والترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، برقم 2806، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، وابن حبان، 13/ 165، برقم 5854، والبيهقي،
7/ 270، وقال الأرناؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان، 13/ 165:«إسناده صحيح على شرط مسلم» ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3105.
قال أبو داود: والنَّضَدُ: شيء توضع عليه الثياب، شبه السرير.
(3)
فتح الباري، 10/ 392.
5 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«اسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «ادْخُلْ» . فَقَالَ: كَيْفَ أَدْخُلُ وَفِي بَيْتِكَ سِتْرٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَإِمَّا أَنْ تُقْطَعَ رُؤُوسُهَا، أَوْ تُجْعَلَ بِسَاطًا يُوطَأُ، فَإِنَّا مَعْشَرَ الْمَلَائِكَةِ لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ» (1).
قال الخطابي: «وفيه دليل على أنَّ الصورة إذا غُيِّرَت بأن يُقطعَ رأسها، أو تُحَلَّ أوصالها حتى تتغير هيئتها عما كانت، لم يكن بها بعد ذلك بأس» (2).
لهذا كله اعتبر الحافظ الذهبي أن عموم أحاديث النهي عن الصور يشمل كذلك ما كانت منقوشة في سقف، أو جدار، أو منسوجة في ثوب أو مكان، قال رحمه الله:«وأما الصور: فهي كل مصوَّر من ذوات الأرواح، سواء كانت لها أشخاص منتصبة، أو كانت منقوشة في سقف أو جدار، أو موضوعة في نَمَط، أو منسوجة في ثوب أو مكان، فإن قضية العموم تأتي عليه فليُجتَنب، وباللَّه التوفيق» (3).
وقال ابن العربي: «حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت
(1) النسائي، كتاب الزينة، ذكر أشد الناس عذاباً، برقم 5365، وفي السنن الكبرى له أيضاً، كتاب الزينة، التصاوير، برقم 9708، وشرح معاني الآثار للطحاوي، 4/ 287، وصححه الألباني في صحيح آداب الزفاف، 108 - 109، وفي غاية المرام، ص 111.
(2)
معالم السنن، 6/ 82.
(3)
الكبائر، ص 182، طبعة دار الكتاب العربي، عام 1400هـ- 1980م.
ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال:
الأول: يجوز مطلقًا على ظاهر قوله: «إلا رقمًا في ثوب» .
الثاني: المنع مطلقًا حتى الرَّقْم (1).
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة، قائمة الشكل، حَرُم، وإن قطعت الرأس، أو تفرقت الأجزاء، جاز، قال: وهذا هو الأصح (2).
الرابع (3): إن كان مما يُمتهن جاز، وإن كان معلقا لم يجز» (4).
وبهذا الاستعراض السابق لأقوال أهل العلم، نخلُصُ إلى حرمة اتخاذ ما فيه صورة ذي روح، سواء كان ثوبًا، أو سترًا، أو نحوه، فإن كانت الصورة مقطوعة الرأس، أو مفرقة الأجزاء، أو ممتهنة، بأن كانت في بساط يُوطأ، أو مخدة يُجلس عليها، ونحوها مما يمتهن،
(1) لإطلاق الأحاديث الواردة في النهي عن اتخاذ ما فيه صورة.
(2)
لكثرة أدلته الصحيحة، ولجمْعِهِ بينها، ولكونه مذهب الجمهور. ومما يدل عليه:
- ما جاء في الصحيحين وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها قالت: «قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق اللَّه، قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين» ، وقد تقدم تخريجه. وفي رواية أخرى للبخاري، برقم 2479:«فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكَانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا» .
- وجاء أيضًا في سنن النسائي: « .. فإما أن تُقطع رؤوسها، أو تجعل بساطًا يوطأ .. » ، وتقدم آنفًا مع تخريجه.
(3)
ويمكن إدراجه تحت القول الثالث؛ لدلالة حديث النسائي السابق عليهما.
(4)
فتح الباري، 10/ 391.
فليس ذلك بحرام.
قال النووي: «هذا تلخيص مذهبنا - يعني الشافعية - في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم» (1).
وهو مذهب الحنابلة - أيضًا - في الصحيح عندهم، كما سبق بيانه.
أما إذا كانت الصورة لغير ذي روح، كالأشجار، والأنهار، والأبنية، والبحار، ونحوها، فإن تصويرها، واتخاذ ما صُوِّرت فيه من ثوب، وغيره جائز بالاتفاق.
لكنَّ محل جواز صورة ما لا روح له في ثوب المرأة مقيَّدٌ بما إذا لم يكن جلبابها الذي تخرج به، فإن كانت الصورة فيه لم يجز لها الخروج به؛ لكونه من الزينة المنهي عن إبدائها لغير زوج، أو محرم، أو امرأة.
وهنا ينتهي القول في الشروط الواجب توافرها في الحجاب، ليكون حجابًا إسلاميًا يرضى اللَّه عز وجل عنه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم (2).
(1) شرح صحيح مسلم للنووي، 14/ 81 - 82.
(2)
انظر: حجاب المسلمة للبرازي، ص 141 - 372، وعودة الحجاب للمقدم، 3/ 145 - 160 بتصرف.