الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 - وأخرج ابن جرير في تفسيره عن يعقوب، قال: حدثنا ابن عُلَية
، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} (1)، فَلَبسَها عندنا ابن عون، قال: وَلبسها عندنا محمد، قال محمد: ولَبِسها عندي عَبيدة، قال ابن عون بردائه فتقنع به، فغطّى أنفه وعينه اليسرى، وأخرج عينه اليمنى، وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبًا من حاجبه، أو على الحاجب» (2).
وإسناده في غاية الصحة (3).
(1) سورة الأحزاب، الآية:59.
(2)
تفسير ابن جرير، 20/ 325.
(3)
والقائلون بجواز كشف الوجه قالوا:
تظهر وجهها وكفيها.
وحَدُّ الوجه: من منبت شعر الرأس إلى أسفل الذقن طولًا، وما بين شحمتي الأذنين عرضًا.
وأظهر ما استدل به هذا الفريق على ما ذهب إليه، الأدلة الآتية:
1 -
قول اللَّه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور: 31].
فقد ذهب من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر. ومن التابعين: سعيد ابن جبير، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وأبو الشعثاء، وإبراهيم النخعي وغيرهم، إلى أن ما ظهر منها هو: الوجه والكفان.
وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية: ولا يبدين زينتهن إلا ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره، وهو الوجه والكفان [تفسير ابن جرير، 18/ 93 - 94، وتفسير ابن كثير،
3/ 283، وقد أخرج أثر ابن عباس مرفوعًا بسند جيد: ابن أبي حاتم، والبيهقي، وإسماعيل القاضي، كما في عون المعبود شرح سنن أبي داود، 11/ 162]. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري بعد استقصائه لما قيل في الآية: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُني بذلك الوجه والكفان، يدخل في ذلك - إذا كان كذلك -: الكحل والخاتم والسوار والخضاب» [تفسير ابن جرير، 18/ 94].
كما استدل هذا الفريق على ما ذهب إليه بالأحاديث الآتية:
2 -
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ» [صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 885].
فقد ذهب هذا الفريق إلى أنه لو لم تكن هذه المرأة كاشفة عن وجهها، لما استطاع الراوي أن يصفها بأنها سفعاء الخدين.
3 -
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ لِأَهَبَ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَعَّدَ النَّظَرَ إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ
…
[البخاري، كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، برقم 5126، واللفظ له، ومسلم، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد
…
، برقم 1425].
فقد ذهب هذا الفريق إلى أنه لو لم تكن هذه المرأة كاشفة عن وجهها لما صعَّد الرسول صلى الله عليه وسلم النظر إليها وصوَّبه، ولو لم يقصد أنه إذا رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها ما كان للمبالغة في تأملها فائدة [فتح الباري، 9/ 210].
4 -
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» [البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، برقم 1513، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما، أو للموت، برقم 1334]. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقد استدل هذا الفريق بهذا الحديث على أن سترَ وجهِ المرأة ليس فرضًا عليها؛ حيث لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الخثعمية بستره، بل اكتفى بتحويل وجه الفضل عنها.
قال ابن بطال: «في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة، ومقتضاه أنه إذا أُمنتِ الفتنة لم يمتنع ..
ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يُحوّلْ وجه الفضل حتى أَدْمَنَ النظر إليها لإعجابه بها، فخشي الفتنة عليه ..
وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو لزم ذلك جميع النساء لَأمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالاستتار ولما صَرَف وجه الفضل ..
وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضًا؛ لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء» [فتح الباري، 11/ 10].
5 -
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَاّ هَذَا وَهَذَا» . وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ». [سنن أبي داود، كتاب كتاب اللباس، باب فيما تبدي المرأة من زينتها، برقم 4106، والبيهقي، 8/ 163، وفي معرفة السنن له أيضاً: 3/ 144، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 2045، وقال الحافظ ابن حجر في الدراية، 1/ 123: وأخرجه ابن عديّ، وقال: رواه خالد مرة أخرى، فقال: عن أم سلمة، وعن قتادة مرفوعًا: «إن المرأة إذا حاضت لم يصلح أن يُرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل»، وهذا معضل، أخرجه أبو داود في المراسيل، وعزاه ابن كثير في تفسيره، 3/ 283، نحو هذا إلى أبي حاتم الرازي].
فهذا نص واضح - لو صحَّ الحديث - على جواز إظهار المرأة وجهها وكفيها، لكن لا يغفل عن قول القائلين بذلك يشترطون أن لا يكون عليها شيء من الزينة، ولا يحصل بذلك فتنة [انظر: حجاب المسلمة، للبرازي، ص 147].
ورد القائلون بتحريم سفور وجه المرأة، ووجوب تغطيته بما يأتي:
1 -
إن قول هذا الفريق بجواز كشف الوجه مشروط بأمن الفتنة، وحيث يغلب على الظن وجودها، فضلًا عن تحققها، فيحرم - حينئذ - كشفه. [انظر: أحكام القرآن للجصاص،
3/ 289، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين، 5/ 244، ومجمع الأنهر، 1/ 81، وأحكام القرآن لابن العربي، 3/ 1357، ومواهب الجليل، 1/ 499، وجواهر الإكليل، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= 1/ 186، والروض المربع، 1/ 140، وكشاف القناع، 1/ 309].
وقال الشيخ محمد علي السايس: «وينبغي أن يكون القول بهذا خاصًا بالحالات التي تؤمنُ فيها الفتنة، وفي الأوقات التي يكثر فيها الفساق في الأسواق والطرقات، فلا يجوز للمرأة أن تخرج سافرة عن وجهها، ولا أن تبدي شيئًا من زينتها» [تفسير آيات الأحكام، 3/ 162].
ويستأنس في هذا بما رواه ابن هشام، عن ابن إسحاق في سبب إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم ليهود بني قينقاع عن المدينة، مِن أنَّ امرأة من العرب قَدِمت بِجَلَبٍ [وهو ما يجلب إلى السوق ليباع من إبل وغنم، وغير ذلك] لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبَت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سَوْءَتُها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا. إلخ القصة. [السيرة النبوية لابن هشام، 3/ 51، وعنه ابن كثير في السيرة، 3/ 6، وفي إسناد هذه القصة بعض اللين، لكن يشهد لها أحاديث صحيحة في ستر النساء وجوههن، لا مجال للطعن فيها].
2 -
أما أثر ابن عباس الذي احتجوا به، فقد رواه الطبري، 18/ 119، والبيهقي، 2/ 182، و7/ 86، وإسناده ضعيف جدًا، بل منكر، ولا يُحتج بمثله.
قال الشيخ عبد القادر بن عبد اللَّه السندي: «قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مروان، قال: حدثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور: 31]، قال: الكحل والخاتم [أي موضعهما].
وإسناده ضعيف جدًا، بل هو منكر.
قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد اللَّه الضبي الكوفي الملائي الأعور، عن أنس وإبراهيم النخعي.
وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج اِلمزّي في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي: «روى عن سعيد بن جبير، وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد ابن جبير [تهذيب الكمال،
7/ 663]».
ثم قال الإمام الذهبي في ترجمته: «عن الثوري ووكيع بن الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضًا: زعموا أنه اختلط، وقال يحيى القطان: حدثني حفص بن غياث، قال: قلت لمسلم الملائي: عمن سمعتَ هذا؟ قال: عن إبراهيم، عن علقمة، قلنا: علقمة عمَّن؟ قال: عن عبد اللَّه، قلنا: عبد اللَّه عمن؟ قال: عن عائشة، وقال النسائي: متروك الحديث» [ميزان الاعتدال، 4/ 106].
وقال الإمام الحافظ البيهقي في السنن الكبرى، 2/ 225، و7/ 852:«أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا حفص بن غياث عن عبد اللَّه بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال: ما في الكفِّ والوجه» .
وقال الشيخ منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله: «{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها، رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخالفهما ابن مسعود» [كشاف القناع، 1/ 243].
وإسناده مظلم ضعيف، لضعف راويين هما:
أـ أحمد بن عبد الجبار العطاردي:
وقال الحافظ في التقريب: «ضعيف» [تقريب التهذيب، 1/ 19.
ب - وكذا يوجد في هذا الإسناد عند الإمام البيهقي: عبد اللَّه بن مسلم بن هرمز المكي، عن مجاهد وغيره، قال الحافظ الذهبي: ضعَّفهُ ابن معين، وقال: وكان يرفع أشياء. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن المديني: كان ضعيفًا (مرتين) عندنا. وقال أيضًا: ضعيف. وكذا ضعَّفهُ النسائي [ميزان الاعتدال، 2/ 503]. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [تقريب التهذيب، 1/ 450].
قلت [القائل البرازي]: هذان إسنادان ساء حالهما إلى حَدٍّ بعيد لا يُحتجُّ بهما، ولا يُكتبان، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة، وبذلك يمكن أن يُقال: إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، ولو صحَّ الإسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء الحديث، فكيف في هذه الحال؟ وقد صحَّت الأسانيد إلى ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من الصحابة رضي الله عنهم بعكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، والبيهقي في سننه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره. زد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كما سوف يأتي مفصلًا من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب والستر.
وإليكم أولًا ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم:
عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، 18/ 119إذ قال رحمه الله:«حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: «{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور: 31] قال: الثياب» [وقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم من طريقه، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في: التلخيص].
قلت: إسناده في غاية الصحة.
وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره، 2/ 283.
* ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسنادًا آخر بقوله: «حدثنا محمد ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه مثله.
قلت: إسناده في غاية الصحة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ورواية ابن عباس رضي الله عنهما هذه قد اطلعتُ على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره، ورجالها كلهم ثقات، إلا أنها منقطعة؛ لأن فيها علي بن أبي طلحة المتوفى سنة 143 هـ، يَروِي عن ابن عباس رضي الله عنهما عنهما ولم يلقَه، والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي - وهو إمام كبير، ثقة، ثَبْتٌ، كما لا يخفى على أحد - وقد احتج بهذه الرواية - أعني: رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما - إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح [البخاري في الجامع الصحيح [فتح الباري، 8/ 207، و228، و265]، قال ذلك: الحافظُ في التهذيب [تهذيب التهذيب، 7/ 340].
وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال، 5/ 480 مشيرًا إلى رواية التفسير هذه في ترجمة علي بن أبي طلحة:«هو مرسل عن ابن عباس، وبينهما مجاهد» ، واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره [محاسن التأويل، 4/ 4909ي، والإمام القرطبي في تفسيره [14/ 243]، وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة، فكانت قوية ومحتجًا بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وآثار الصحابة والتابعين تؤيدها، فليعتمد عليها، ويستأنس بها» [عودة الحجاب، 3/ 266] نقلاً عن رسالة الحجاب في الكتاب والسنة، ص 21 - 26.
فقد ظهر من هذا التحقيق ضعف ونكارة ما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيره {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور: 31] بالكحل، والخاتم، أي موضعهما، وهو الوجه والكفان، سواء بسند الإمام ابن جرير الطبري، أو بسند الإمام البيهقي، هذا بالإضافة إلى الأسانيد الأخرى التي هي في درجتها من الضعف والنكارة.
كما ثبت في المقابل صحة أثر ابن مسعود الذي فسر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالثياب، لا الوجه والكفين؛ وكذا الرواية التي وردت برجال ثقات عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس نفسه التي تخالف روايته الضعيفة الأولى بل المنكرة التي لم يعد هناك مستند صحيح للاعتماد عليها بعد بيان ضعفها ونكارتها، فلزم المصير إلى روايته الأخرى التي لا تخرج عن رواية ابن مسعود ومن وافقه، رضي الله عنهم أجمعين.
3 -
وأما ما رواه جابر: «فقامت امرأة من سِطَةِ النساء، سفعاء الخدين»
…
فقد أجاب بعضهم بأن الحادثة وقعت قبل أن يفرض الحجاب، وبالتالي لا حجة فيها على جواز كشف الوجه، والدليل على ذلك: أن صلاة العيد شرعت في السنة الثانية من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الهجرة، وآية الحجاب من سورة الأحزاب نزلت - كما ذكر الحافظ ابن حجر - عن أبي عَبِيدة وطائفة في ذي القعدة سنة ثلاث، وعند آخرين: فيها سنة أربع، وصححه الدمياطي، وقيل: بل كان فيها سنة خمس [انظر: فتح الباري، 8/ 462].
ولو صحَّ أنها وقعت بعد أن فُرِض الحجاب، فلا ضير عليها في ذلك؛ لأنها في مجلس علم مع المعصوم صلى الله عليه وسلم، يضاف إلى ذلك أن الحافظ ابن حجر وآخرين قد ذكَروا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يَحرُمُ عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات لمحل العصمة، بخلاف غيره [انظر: فتح الباري، 9/ 210، وسبل السلام، 3/ 112، وفتح العلام، 2/ 90].
وقال أيضًا: والذي وضح لنا بالأدلة القوية أَنَّ من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية، والنظر إليها [انظر: فتح الباري، 9/ 203، ونقله الشوكاني في نيل الأوطار، 6/ 189، طبع دار التراث، لكنه قال: والذي صحَّ لنا .. وانظر إن شئت الخصائص الكبرى، 2/ 247 248 للسيوطي، باب اختصاصه صلى الله عليه وسلم بإباحة النظر إلى الأجنبيات والخلوة بهن ..
ويُحتمل أن تكون عجوزًا لا تُخشى الفتنة من كشف وجهها؛ لكونها ممن لا يرجون نكاحًا؛ ولو فرضنا أنها كانت شابة، ففيها من سَفع خديها ما يرجح عدم رغبة الرجال فيها، مما يجعلها في حكم القواعد من النساء.
ويُحتمل - أيضًا - أن يكون جلبابها انحسر عن وجهها من غير قصد منها، فَروَى جابر ما رآه منها في تلك الحالة، يدل على ذلك أن سبعة من أجلاء الصحابة رَوَوا ذلك الحديث، ولم يَصِفْها واحد منهم بما وصفها به جابر رضي الله عنه، وهذا يؤكد أنه انفرد عن بقية الرواة بوصف وجهها، مما يقوي احتمال انحسار غطائه من غير قصد منها، ورؤيته إياه أثناء ذلك.
كما لم يذكر أيُّ راوٍ منهم كشفًا لوجهِ أيِّ امرأة ممن حضر تلك الخُطبة رغم كثرتهن؛ لهذا قال الإمام النووي رحمه الله عند شرحه لرواية عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما: «لا يَدري حينئذٍ من هي» ، معناه: لكثرة النساء، واشتمالهن ثيابهن لا يَدري من هي» [شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 172].
4 -
ويجاب عن حديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بما يلي:
أـ ليس في هذا الحديث حجة للقائلين بجواز كشف الوجه؛ لأنه لا يلزم من قول الراوي: «صعَّد النظر إليها» أنها كانت كاشفة الوجه. قال الحافظ ابن حجر: «فصعَّد النظر إليها وصوَّبه» وهو بتشديد العين من: «صعَّد» ، والواو من «صوَّب» . =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والمراد: أنه نظر أعلاها وأسفلها.
والتشديد: إما للمبالغة في التأمل، وإما للتكرير، وبالثاني جزم القرطبي في المفهم، قال: أي نظر أعلاها وأسفلها مرارًا.
ووقع في رواية الفضيل بن سليمان: «فخفَّض فيها البصر ورفَّعه» ، وهما بالتشديد أيضًا» [فتح الباري، 9/ 206].
فلما كان التصويب: النظر إلى أسفلها، لزم منه أن يكون قطعًا إلى مستور؛ لأن سُوقَ النساء الحرائر عورة بإجماع المسلمين، فكذلك «التصعيد» مثله، لابدَّ وأن يكون إلى مستور أيضًا استصحابًا للحال، خاصة وأن ستر الوجه كان عمل الأمة منذ نزول آيات الحجاب.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «
…
استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات، لئلا يراهن الرجال».
ونَقلَ أيضًا عن الغزالي أنه قال: «لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات» [فتح الباري، 9/ 337، ومثله في إرشاد الساري، 8/ 117 - - 118، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 8/ 62 - - 63، وانظر هذا النص في مصدره الأصلي: إحياء علوم الدين، 2/ 47].
فمن ادَّعى كشف وجه المرأة الواهبة نفسها أَعْوزَه هذا الادِّعاء إلى الدليل الناطق بذلك، ودونه خرط القتاد؛ أو يلزمه - حينئذ - القول بأن أسفلها كان مكشوفًا كأعلاها، ولا قائل به. ولمَّا كان الأمر على هذا، فكيف أجاز أولئك التفريقَ بين متلازمَين - أعني بهما: التصويب والتصعيد - مع أنهما في حديث واحد؟!!
ولمَّا كان مجيزو كشف الوجه يقولون بستر أسفلها، فإنه يلزمهم - أيضًا - القول بستر أعلاها - أي وجهها -، وبالتالي: لم يبقَ لهم في هذا الحديث حجة؛ لأن اللغة تشهد أن منطوقه ومفهومه خارجان عن دائرة النزاع.
ب - وعلى فرض أن هذه المرأة كانت كاشفة عن وجهها، فقد جاءت تعرض نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم للزواج منها، ولها - في هذه الحالة - أن تكشف وجهها ليتأمله، فيُفصحَ عن رغبته فيها، أو عزوفه عنها.
ج - ومن جهة أخرى، فإن ذلك خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأجنبيات، لمكان العصمة، بخلاف غيره [فتح الباري، 9/ 210، وسبل السلام،
3/ 112، وفتح العلام، 2/ 90.
د - على أن ابن العربي سلك مسلكًا آخر في الجواب - وإن استبعده الحافظ في الفتح - فقال: «يحتمل أنَّ ذلك قبل الحجاب، أو بعده، لكنها متلفِّعة» [فتح الباري، 9/ 210].
وكون ذلك بعد الحجاب وهي متلفعة أولى؛ لأنَّ تصويب النظر قد كان قطعًا على مستور، فكذلك التصعيد مثله، فلا يقتضي أنها مكشوفة الوجه.
بهذه الإجابات المتعددة يظهر أنه لا حجة لمجيزي كشف الوجه بهذا الحديث، ويبقى انتقاب النساء هو الأصل الذي استمرَّ عليه عمل المسلمات المؤمنات منذ القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير.
5 -
كما أجاب القائلون بلزوم ستر الوجه عن عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الخثعمية بستر وجهها، واكتفائه بتحويل وجه الفضل إلى الشق الآخر بأنها كانت محرمة، والمحرمة تكشف وجهها إلا عند خوف الفتنة.
وحين استدل ابن بطّال بهذا الحديث على «أن ستر المرأة وجهها ليس فرضًا؛ لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء» تعقَّبَهُ الحافظ ابن حجر بقوله: «قلت: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادَّعاه نظر؛ لأنها كانت محرمة» [فتح الباري، 11/ 10].
غير أن الشيخ ناصرًا الألباني ردَّ على ابن حجر قوله هذا بما لا يغني فقال: «قلت: كلا، فإنه لا دليل على أنها كانت محرمة، بل الظاهر خلافه، فقد قدمنا عن الحافظ نفسه أن سؤال الخثعمية للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بعد رمي جمرة العقبة، أي بعد التحلل، فكأنَّ الحافظ نسي ما كان حققه هو بنفسه رحمه الله.
ثم هب أنها كانت مُحْرِمَة؛ فإن ذلك لا يخدج في استدلال ابن بطال المذكور البتة؛ ذلك لأن المحرمة تشترك مع غير المحرمة في جواز ستر وجهها بالسدل عليه
…
» [حجاب المرأة المسلمة، ص 29].
ويجاب على هذا الكلام الذي أورده الألباني من نواحٍ عدة:
أـ أما قوله: «لا دليل على أنها كانت محرمة؛ بل الظاهر خلافه» فإنه لا يصح، لمصادمته عدة أحاديث تثبت أن المرأة كانت محرمة، منها: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - ما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه «
…
فلما دفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مَرَّت به ظُعُنٌ تجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن
…
» الحديثَ [مسلم، برقم 1218].
- وما رواه النسائي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم غداةَ جمع
…
» الحديثَ [النسائي، برقم 2635].
وتؤيد روايةَ النسائي هذه: «غداةَ جمع» روايتا ابنِ ماجه، برقم 3024، والحميدي،
1/ 235] ولفظهما: «
…
غداةَ النحر .. » الحديثَ.
- ومما يؤكد أن سؤالها وقع وهي مُحْرِمة، إخبار الفضل نفسه أن نظره إلى المرأة الخثعمية كان أثناء المسير من جَمْعٍ - أي المزدلفة - إلى مِنى.
فقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس عن أخيه الفضل، قال: «كنت رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من جَمْع إلى مِنى؛ فبينما هو يسير إذ عَرَض له أعرابي مُردفًا ابنةً له جميلة، فكان يسايره، قال: فكنتُ أنظر إليها
…
» الحديث، برقم 1791.
وفي لفظ آخر لأحمد، برقم 1805، عن الفضل بن عباس قال:«كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم حين أفاض من المزدلفة، وأعرابي يسايره، وَرِدْفُهُ ابنةٌ له حسناء، قال الفضل: فجعلتُ أنظر إليها، فتناول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوجهي يصرفني عنها، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» .
فإذا ضممنا روايات الحديث المتقدمة بعضها إلى بعض في هذه الواقعة الواحدة، أفادت:
- أَنَّ سؤال الخثعمية كان غَداةَ جمع، كما في حديث ابن عباس المتقدم عند النسائي.
- وأن الفضل بن العباس كان ينظر إليها عندما كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عباس الآخر عند النسائي.
- وأن نظر الفضل إلى تلك المرأة كان بيقين عند الدفع من جَمْع - أي المزدلفة - كما في حديث جابر عند مسلم.
- وأن ذلك النظر كان - بالتحديد - أثناء المسير من المزدلفة إلى مِنى، كما في حديث ابن عباس عن أخيه الفضل من رواية الإمام أحمد.
فقد دلَّت هذه الروايات على أنَّ سؤال الخثعمية، ونظر الفضل إليها كانا بيقين عند المسير من المزدلفة إلى مِنى، مما يدل دَلالة قاطعة على أنهما كانا قبل الرمي، أي قبل التحلل من الإحرام. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فلما ثبت من هذه الدلائل أنها كانت مُحْرِمَة بيقين، ظهر منها أن كشف وجهها، وعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بستره، إنما كان بسبب إحرامها.
ب - وأما قوله: «
…
فقد قدَّمنا عن الحافظ نفسه أن سؤال الخثعمية للنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بعد رمي جمرة العقبة، أي بعد التحلل .. » فهي من محاولات الألباني لإثبات أنها لم تكن مُحْرمة، والذي يرجع إلى كلام الحافظ ابن حجر يجد أنه لم يجزم بذلك، بل حكاه على سبيل الاحتمال في الجزء الرابع في كتاب جزاء الصيد من فتح الباري حيث قال:«ويُحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة» [فتح الباري، 4/ 67].
لكنه عَدَلَ عن هذا الاحتمال بما جَزَم به في الجزء الحادي عشر في: «كتاب الاستئذان» من فتح الباري، 11/ 10: أنها كانت مُحْرِمَة كما تقدم.
ج - وأما قوله: « .. ثم هَبْ أنها كانت مُحْرِمَة، فإن ذلك لا يخدج في استدلال ابن بطال المذكور البتة، ذلك لأن المُحْرِمَة تشترك مع غير المحرمة في جواز ستر وجهها بالسَّدل عليه
…
» فإنه غير مُسلَّم به، لثبوت الأدلة المتعددة على وجوب الستر لغير المحرمة، كما تقدم ذكرها.
وبهذا الإيضاح تتداعى كافة الشبهات التي يتعلق بها مجيزو كشف الوجه استنادًا على هذا الحديث الذي لا ينهض حجة لدعواهم.
أما الذين يُصِرُّون على أن سؤال الخثعمية إنما وقع بعد رمي جمرة العقبة أي بعد التحلل، ولا تقنعهم كافة الحجج بأن إحرامها كان سببًا في كشف وجهها، فنقول لهم: لو سلَّمنا لكم - جدلًا - بما تقولون، فلا ضير عليها في ذلك؛ لأن أباها كان يعرضها على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها.
ومما يدل على ذلك، ما رواه الفضل بن عباس رضي الله عنهما، قال:«كنتُ رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجاءَ أن يتزوجها، وجعلتُ ألتفتُ إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عنقه فيَلْويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة» [رواه أبو يعلى، برقم 6731، بإسناد قوي، كما في: فتح الباري، 4/ 68، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 4/ 277:«رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح» .
وبهذا البيان يتضح لكل منصف أنه لا حجة بهذا الحديث للقائلين بكشف الوجه، سواء كانت المرأة الخثعمية الكاشفة عن وجهها مُحْرِمَة أم لا؛ لأنها إذا كانت مُحْرِمَة فكشفها عن وجهها بسبب إحرامها، وإن كانت حلالًا فكشفُ وجهها لعرضِ أبيها إياها على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجاءَ أن يتزوجها.
6 -
كما أجاب هذا الفريق عن حديث أسماء الذي رَوَتهُ عائشة: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يَصلُحْ أَنْ يُرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» ، بأنه ضعيف لا يُحتج به، للأمور الآتية:
(أ) الإرسال: فقد قال أبو داود، رقم الحديث 4106، بعد روايته للحديث:«هذا مرسل، خالد بن دُرَيْك لم يُدرِكْ عائشة» .
ونقل الحافظ الزيلعي، نصب الراية، 1/ 299، عن أبي داود مثله، ثم قال:«قال ابن القطان: «ومع هذا فخالد مجهول الحال» .
(ب) وفي سند الحديث سعيد بن بشير، وهو ضعيف عند نقاد الحديث، فقد قال يعقوب بن سفيان: سألتُ أبا مسهر عنه فقال: «لم يكنْ في جندنا أحفظ منه، وهو ضعيف منكر الحديث» ..
وقال سعيد بن عبد العزيز: كان حاطبَ ليل، وقال الميموني:«رأيت أبا عبد اللَّه يُضَعِّفُ أمره» ، وقال الدوريُّ وغيره عن ابن معين:«ليس بشيء» ، وقال عثمان الدارميُّ وغيره عن ابن معين:«ضعيف» .
وقال عليُّ بن المديني: «كان ضعيفًا» ، وقال محمد بن عبد اللَّه بن نمير:«منكر الحديث، ليس بشيء، ليس بقويِّ الحديث، يروي عن قتادة المنكرات» ، وقال البخاري:«يتكلمون في حفظه وهو محتمل» ، وقال النسائي:«ضعيف» .
وقال الحاكم أبو أحمد: «ليس بالقويِّ عندهم» ، وقال ابن عديّ:«له عند أهل دمشق تصانيف، ولا أرى بما يرويه بأسًا، ولعله يَهَمُ في الشيء بعض الشيء ويغلط، والغالب على حديثه الاستقامة، والغالب عليه الصدق» ، وقال السَّاجي:«حَدَّثَ عن قتادة بمناكير» ، وقال الآجُرِّيُّ عن أبي داود:«ضعيف» ، وقال ابن حبان:«كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يَروي عن قتادة ما لا يُتابعَ عليه، وعن عمرو بن دينار ما لا يُعرفُ من حديثه» [انظر: تهذيب التهذيب، 4/ 10].
فأنت ترى أن أئمة النُّقاد وجمهورهم اتَّفقوا على ضعفه وجرحه ومنهم: ابن معين، وابن المديني، وغيرهما، وحسبك بهما حجة في هذا المجال.
وابن مَعين: هو إمام الجرح والتعديل، روَى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأحمد بن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حنبل، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وأبو زرعة الدمشقي، وخلائق آخرون، وقد قال الإمام أحمد:«كان يحيى بن معين أَعلمَنا بالرجال» ، وقال عبد الخالق بن منصور:«قلتُ لابن الرومي: سمعت بعض أصحاب الحديث يُحدِّث بأحاديث يحيى بن معين، ويقول: حدَّثني مَن لم تطلع الشمس على أكبر منه، فقال: وما يُعَجِّب؟ سمعت ابن المديني يقول: «ما رأيت في الناس مثله» ، وقال العِجلي:«ما خلق اللَّه تعالى أحدًا كان أعرف بالحديث من يحيى بن معين» . [انظر: تهذيب التهذيب، 11/ 280 - - 288].
- - وأما ابن المديني: فهو شيخ البخاري، وقد أقرّ له بالعلم والتمكن البالغ، وقال فيه:«ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، وكان أعلم أهل عصره، وقال النسائي: كأنَّ اللَّه عز وجل خلق عَلِيَّ بنَ المديني لهذا الشأن» . [انظر: تهذيب التهذيب،
7/ 351، و352].
أما توثيقُ ابنِ عَدِيٍّ لسعيد بن بشير بعض التوثيق، فلا يُلتَفتُ إليه في مقابل جرح جمهور جهابذة النقد له، فالحديث - عدا عن إرساله - ضعيف لا يسوغ الاستدلال به في هذا المقام.
والذين ضعَّفوا سعيد بن بشير - وهم جمهور النَّقَدة - قد بيَّنوا سبب الجرح، فصار قولُهم المقدَّمَ فضلًا عن أنهم الجمهور، وقد قال السيوطي في شرح التقريب:«إذا اجتمع فيه - أي الراوي - جرحٌ مفسَّر، وتعديل، فالجرح مقدَّمٌ ولو زاد عدد المُعَدِّل، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين، ونقله الخطيب عن جمهور العلماء؛ لأنَّ مع الجارح زيادةَ علم لم يطَّلعْ عليها المعدِّل، ولأنه مصدِّقٌ للمعدِّل فيما أخبر به عن ظاهر حاله، إلا أنه يخبر عن أمرٍ باطن خفي عنه» [تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، 1/ 309].
(ج) وفي حديث عائشة السابق عنعنة بعض المدلسين، مثل: الوليد بن مسلم، وقَتادة بن دِعامة السَّدوسي، وليس في روايتهما تصريح بالسماع.
والصحيح في المدلِّس - كما قال ابن الصلاح - التفصيل: فإن صَرَّحَ بالسماع قُبل، وإن لم يُصرّح بالسماع فحُكمُهُ حكمُ المرسل.
قال الزين: وإلى هذا ذهب الأكثرون» [انظر: تنقيح الأنظار المطبوع مع توضيح الأفكار، 1/ 352 - - 353.
* أما الوليد بن مُسْلم، فقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمته:«ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية» [تقريب التهذيب، 2/ 236. أما «تدليس التسوية»: فهو أن يسقط الراوي من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= سنده غير شيخه لكونه ضعيفًا، أو صغيرًا، ويأتي بلفظ محتمل أنه عن الثقة الثاني تحسينًا للحديث، وهو شرّ أقسامه».
وقال الذهبي - أيضًا - في ترجمته: «الإمام الحافظ، عالم أهل دمشق، ولد سنة تسع عشرة ومائة؛ صنَّف التصانيف والتواريخ، وعُنيَ بهذا الشأن أتمَّ عناية، قال أحمد بن حنبل: ما رأيتُ في الشاميين أعقلَ منه، وقال ابن جوصاء: لم نزل نسمع أنه مَن كتبَ مصنفات الوليد صَلَحَ أن يلي القضاء، وهي سبعون كتابًا.
وقال أبو مُسْهِر وغيره: كان الوليد مُدَلِّسًا، وربما دلَّس عن الكذابين.
وبعد أن نقل الذهبي أقوالًا أخرى في توثيقه والثناء عليه، قال:«لا نزاعَ في حفظه وعلمه، وإنما الرجل مُدَلس، فلا يُحتجُّ به إلا إذا صَرَّح بالسماع» [انظر: تذكرة الحفاظ، 1/ 302 - - 304، وانظر - - إن شئت - - أيضًا ميزان الاعتدال، 4/ 347 - - 348، وتهذيب التهذيب، 11/ 151 - - 155.
وقال أيضًا: «إذا قال الوليد: عن ابن جريج، أو عن الأوزاعي فليس بمعتمد؛ لأنه يُدَلِّسُ عن كذابين، فإذا قال: حَدَّثنا، فهو حجة» [ميزان الاعتدال، 4/ 348، وانظر: توضيح الأفكار، 1/ 354].
* وأما قتَادة بن دِعامة السَّدوسي: فقد قال ابن حِبَّان في ترجمته: «
…
كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، وكان من حفاظ أهل زمانه، جالَسَ سعيد بن المسيّب أيامًا، فقال له سعيد: قم يا أعمى، فقد نَزَفْتَني
…
مات بواسط على قَدَرٍ فيه سنة سبع عشرة ومائة، وهو ابن ست وخمسين سنة، وكان مُدَلِّسًا». [انظر: الثقات لابن حبان، 5/ 321].
وترجم له الحافظ صلاح الدين العلائي في: جامع التحصيل في أحكام المراسيل، ص 312، ووصفه بأنه:«أحد المشهورين بالتدليس» .
وقال الحافظ الذهبي في ترجمته: «حافظ ثقة ثبت، لكنه مدلس، ورُميَ بالقَدَر، قاله: يحيى بن معين؛ ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح لاسيَّما إذا قال: حَدَّثنا» [ميزان الاعتدال،
3/ 385].
وترجم له الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، 8/ 355 ترجمة طويلة، ثم قال:«وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، حجة في الحديث، وكان يقول بشيء من القَدَر، وقال هَمَّام: «لم يكن قتادة يلحن» ثم ذكر قولَ ابنِ حِبَّان السابق ذكره. =