الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث عشر: استئذان الأطفال والمماليك في ثلاثة أوقات:
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أي: في وقت القيلولة؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} ؛ لأنه وقت النوم، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال
(1) سورة النور، الآيات: 58 - 60.
ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله، أو نحو ذلك من الأعمال؛ ولهذا قال:{ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم؛ ولأنهم طَوَّافُونَ عليكم، أي: في الخدمة وغير ذلك، ويغتفر في الطوَّافين ما لا يغتفر في غيرهم؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة:«إنها ليست بنجَس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (1).
ولما كانت هذه الآية محكمة، ولم تنسخ بشيء، وكان عمل الناس بها قليلاً جدًا، أنكر عبد اللَّه بن عباس ذلك على الناس، كما قال ابن أبي حاتم:
حَدَّثنا أبو زُرْعَة، حَدَّثنا يحيى بن عبد اللَّه بن بُكَيْر، حَدَّثني عبد اللَّه بن لَهِيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جُبَيْر قال: قال
(1) الموطأ برواية محمد بن الحسن، 1/ 160، ومسند الشافعي، ص 3، ومسند الإمام أحمد، 37/ 211، برقم 22528، وسنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة،
1/ 28، برقم 75، وسنن الترمذي، أبواب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الهرة، 1/ 153، برقم 92، وسنن النسائي، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة، 1/ 55، برقم 68، وسنن ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، 1/ 131، برقم 367، والدارقطني، 1/ 70، برقم 22، ومصنف عبد الرزاق، 1/ 100، برقم 352، والبيهقي، 1/ 245، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 131، برقم 68.
ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} (1) إلى آخر الآية، والآية التي في سورة النساء:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} (2)، والآية التي في الحجرات:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3).
وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات، فلم يعملوا بهن:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى آخر الآية.
وقال أبو داود: حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان، عن عبيد اللَّه بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر الناس - آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء، عن ابن عباس يأمر به (4).
وقال الثوري، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي:{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، قال: لم تنسخ. قلت: فإن
(1) سورة النور، الآية:58.
(2)
سورة النساء، الآية:8.
(3)
سورة الحجرات، الآية:13.
(4)
سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب الاستئذان في العورات الثلاث، 4/ 514، برقم 5191، والبيهقي، 7/ 97، وصححه الألباني موقوفاً على ابن عباس في صحيح أبي داود.
الناس لا يعملون بها. فقال: اللَّه المستعان.
وقال ابن أبي حاتم (1): حَدَّثنا الربيع بن سليمان، حَدَّثنا ابن وهب، أخبرنا سليمان بن بلال، عن عمرو بن أبي عَمرو، عن عكرمة عن ابن عباس؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر اللَّه بها في القرآن، فقال ابن عباس: إن اللَّه ستِّير يحب الستر، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حِجال في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره، وهو على أهله، فأمرهم اللَّه أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى اللَّه. ثم جاء اللَّه بعد بالستور، فبسط اللَّه عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحِجَال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه أبو داود، عن القَعْنَبِيّ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ، عن عمرو بن أبي عَمْرو به.
وقال السُّدِّي: كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم، يحبون أن يُوَاقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم اللَّه أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن.
وقال مقاتل بن حَيَّان: بلغنا - واللَّه أعلم - أن رجلاً من الأنصار
(1) تفسير ابن أبي حاتم، 8/ 2632، وأخرجه البيهقي أيضاً، 7/ 97.
وامرأته أسماء بنت مُرْثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجعل الناس يدخلون بغير إذن، فقالت أسماء: يا رسول اللَّه، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد، غلامهما بغير إذن! فأنزل اللَّه في ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} ، ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ، قوله:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ثم قال تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، إذا بلغوا الحلم، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث
…
كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه (1).
(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ببعض التصرف، 10/ 269 - 272.