الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن اللَّه تعالى نفى الجناح، وهو الإثم، عن القواعد، وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً؛ لعدم رغبة الرجال بهن؛ لكبر سنّهنّ، نفى اللَّه الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط أن لا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة، ومن المعلوم بالبداهة أنه ليس المراد بوضع الثياب أن يبقين عاريات، وإنما المراد وضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لا يستر ما يظهر غالباً: كالوجه والكفين، فالثياب المذكورة المرخَّص لهذه العجائز في وضعها هي: الثياب السابغة التي تستر جميع البدن، وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشوابّ اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم، ولو كان الحكم شاملاً للجميع في جواز وضع الثياب، ولبس درع ونحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة، ومن قوله تعالى:{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَة} دليل آخر على وجوب الحجاب على الشابة التي ترجو النكاح؛ لأن الغالب عليها إذا كشفت وجهها أنها تريد التبرج بالزينة، وإظهار جمالها، وتطلع الرجال لها، ومدحهم إياها، ونحو ذلك، ومن سوى هذه نادرة، والنادر لا حكم له» (1).
الدليل الثالث: قول اللَّه تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ
(1) رسالة الحجاب، ص 10 - 11.
النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «هذه آداب أمر اللَّه تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، فقال مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين اللَّه كما أمرهن، فإنهن لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال:{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} .
قال السُّدِّي وغيره: يعني بذلك: ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال؛ ولهذا قال: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: دَغَل، {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا}: قال ابن زيد: قولاً حسنًا جميلاً معروفًا في الخير.
ومعنى هذا: أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.
وقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي: الْزَمْنَ بيوتكن فلا
تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في
المسجد بشرطه، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه، وليخرجن وهن تَفِلات» (2)، وفي رواية: «وبيوتهن خير
(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 32 - 33.
(2)
تفسير القرآن العظيم، 11/ 150.
لهن» (1)» (2).
وعن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروْحَة ربها وهي في قَعْر بيتها» (3).
وعَنْ عَبْدِ اللَّه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا» (4).
وقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} قال مجاهد:
(1) أخرجه أحمد، 15/ 405، برقم 9645، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، 1/ 210، برقم 565، والبيهقي في السنن الكبرى، 3/ 134، برقم 5160، وابن خزيمة، 3/ 90، برقم 1679. والشافعي في مسنده، ص 171، ومعرفة السنن والآثار،
4/ 237، وعبد الرزاق، 3/ 151، برقم 5121، والدارمي، 1/ 98، برقم 1314، وابن الجارود (1/ 91، رقم 332).، وأما حديث زيد بن خالد: فأخرجه أحمد، 36/ 7، برقم 21674، وابن حبان، 5/ 589، برقم 2211، والبزار، 9/ 231، والطبراني، 5/ 248، برقم 5239، والجملة الأولى في الصحيحين: البخاري: كتاب الجمعة، باب حدثنا عبد اللَّه بن محمد، برقم 900، ومسلم، كتاب الأذان، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة، برقم 442. وصححه الشيخ الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 7/ 212، والإرواء، برقم 515، وصحيح أبي داود، برقم 574.
وأما الرواية الثانية: «وبيوتهن
…
»، فقد أخرجها أحمد، 9/ 340، برقم 5471، وابن خزيمة، 3/ 93، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد،
1/ 210، برقم 567، والمستدرك، 1/ 209، برقم 755، والبيهقي في السنن الكبرى،
3/ 131، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 103، برقم 576.
(2)
تفسير القرآن العظيم، 11/ 150.
(3)
الترمذي، برقم 1173، وابن خزيمة، 1685، وصححه الألباني في إرواء الغليل،، سبق تخريجه بنص:«المرأة عورة» .
(4)
أخرجه البزار، 5/ 426، برقم 2060، وابن خزيمة، 3/ 95، برقم 1690، وقال ابن كثير في تفسيره، 11/ 151:«وهذا إسناد جيد» ، وقد صحح العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 579، لفظ:«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» .
كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.
وقال قتادة: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} يقول: إذا خرجتن من بيوتكن -وكانت لهن مشية وتكسر وتغنُّج -فنهى اللَّه عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} والتبرج: أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج (1).
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: «معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن؟ والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ما تقدم في غير موضع، فأمر اللَّه تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى، فقال:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى}
…
وحقيقته [التبرج]: إظهار ما سَتْرُهُ أحْسَنُ
…
إلى أن قال: «وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من الِمشْيَةِ على تغنيج وتكسير، وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً، وذلك
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم، 11/ 152.
يشمل الأقوال كلها ويعمُّها، فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذّل وتستّر تام، واللَّه الموفق» (1).
وقال ابن العربي: «من التبرج أن تلبس المرأة ثوبًا رقيقًا يصفها، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «رُبَّ نساءٍ كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها» (2)، وإنما جعلهنَّ كاسياتٍ؛ لأن الثيابَ عليهن، وإنما وصفهنَّ بعاريات لأن الثوب إذا رقَّ يكشفهنَّ، وذلك حرام» (3).
وقال العلامة السعدي رحمه الله: «يقول تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} خطاب لهن كلهن {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الله، فإنكن بذلك، تَفُقْن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها؛ فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المُحرَّم، فقال:{فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويُطمِع {الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: مرض شهوة الزنا؛ فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح [فإن القلب الصحيح]
(1) الجامع لأحكام القرآن، 14/ 175 - 176.
(2)
نص الحديث في صحيح مسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» ، مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، برقم 2128.
(3)
أحكام القرآن، 3/ 1401.
ليس فيه شهوة لما حرم الله؛ فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه، ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض.
بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل، لها أحكام المقاصد؛ فإن الخضوع بالقول، واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِينَ لهم القول.
ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله:{وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} أي: غير غليظ، ولا جافٍ كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع.
وتأمل كيف قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} ولم يقل: «فلا تَلِنَّ بالقول» ، وذلك لأن المنهي عنه، القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع، هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا، ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم؛ فإن هذا، لا يطمع فيه خصمه؛ ولهذا مدح الله رسوله باللين، فقال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1)، وقال لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا
(1) سورة آل عمران، الآية:159.
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (1).
ودلّ قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} مع أمره بحفظ الفرج، وثنائه على الحافظين لفروجهم، والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد، إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض؛ فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض، وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال الله العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي: اقررن فيها؛ لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ، {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه.
ولما أمرهن بالتقوى عمومًا، وبجزئيات من التقوى، نص عليها [لحاجة] النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصًا الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما، ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة، الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة، الإحسان إلى العبيد.
(1) سورة طه، الآيتان: 33 - 34.
ثم أمرهن بالطاعة عمومًا، فقال:{وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يدخل في طاعة الله ورسوله، كل أمر، أمرَا به أمر إيجاب أو استحباب.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما نهاكُنَّ عنه، {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} أي: الأذى، والشر، والخبث، يا {أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} حتى تكونوا طاهرين مطهرين.
أي: فاحمدوا ربكم، واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها، وأنها محض مصلحتكم، لم يرد الله أن يجعل عليكم بذلك حرجًا ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم.
ولما أمرهن بالعمل، الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبين لهن طريقه، فقال:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} والمراد بآيات الله، القرآن والحكمة، أسراره، وسنة رسوله، وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السموات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر.
فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة الله على تلك الأعمال.
ومن معاني «اللطيف» الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر، بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق، ما لا
يدريه، ويريه من الأسباب، التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقا [له] إلى أعلى الدرجات، وأرفع المنازل» (1).
وقال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: «نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، وهن من خيرِ النساء، وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال، وهو تليين القول وترقيقه؛ لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا، ويظن أنهن يوافقنه على ذلك، وأمر بلزومهن البيوت، ونهاهن عن تبرج الجاهلية، وهو إظهار الزينة والمحاسن: كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق، ونحو ذلك من الزينة؛ لما في ذلك من الفساد العظيم، والفتنة الكبيرة، وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا.
وإذا كان الله سبحانه يحذّر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن، وإيمانهن، وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى بالتحذير، والإنكار، والخوف عليهن من أسباب الفتنة عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن، ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية:{وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ؛ فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن» (2).
وقال الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله: «في هذه الآية
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 779 - 780.
(2)
الحجاب والسفور، ص 3 - 4، ومجموع فتاوى ابن باز،.
الكريمة دلالات كبرى كلها تؤكد حكم الحجاب، وتقرره، وهي على النحو الآتي:
1 -
منع المؤمنة من ترقيق قولها وتلينه إذا تكلمت مع أجنبي عنها ليس محرمًا لها.
2 -
تقدير وجود مرض الشهوة في قلوب بعض المؤمنين، وهو علة نهي المرأة عن ترقيق قولها إذا قالت.
3 -
وجود تحديد العبارة والتكلم على قدر الحاجة، بحيث لا تزيد المرأة إذا تكلمت مع أجنبي في كلامها ما ليس بضروري للإفهام، فلا يجوز منها إطناب ولا استطراد، بَل يجب أن تكون كلماتها على قدر حاجتها في خطابها.
4 -
لزوم المرأة المسلمة بيتها وهو مقر عملها الطبيعي، فلا تخرج إلا لحاجة ماسه إذ البيت هو محل تربية أولادها، وخدمة زوجها، وعبادة ربها بالصلاة، والزكاة، وذكر الله وما والاه.
5 -
تحريم التبرج، وهو خروج المرأة المسلمة من بيتها كاشفة من وجهها، مظهرة لمحاسنها غير خجلة ولا محتشمة حيية.
إن هذه الدلالات الخمس من هذه الآية في خطاب أمهات المؤمنين رضي عنهن اللَّه كل واحدة منها دالة بفحواها على فرضية الحجاب، وتَحتُّمِه على المرأة المسلمة، غير أن المبطلين لم يروا ذلك، فقالوا في هذه الآية والتي قبلها: «إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم -
وهي خاصة بهن، ولا تعلق لها بغيرهن من نساء المؤمنين وبناتهم»، وهو قول مضحك عجيب. . . وهاتان الآيتان مثلهما مثل إقسام الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لو أشرك لحبط عمله، وكان من الخاسرين في آية الزمر، مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم لا يتأتى منه الشرك، ولا غيره من الذنوب، ولكن الكلام من باب «إياك أعني، واسمعي يا جارة» ، وعليه فإذا كان الرسول على جلالته لو أشرك لحبط عمله، وخسر فغيره من باب أولى، كما أن الحجاب لو فرض على نساء النبي وهن أمهات المؤمنين كان على غيرهن من باب أولى. ويبدو أنه لما كان الحجاب مخالفاً لما كان عليه العرب في جاهليتهم، ولم يشرع تدريجاً، وشيئًا فشيئاً حتى بالقوة، إذ لا يمكن فيه التدريج، فلما شرع دفعة واحدة كان أمراً عظيماً، فبدأ الله تعالى فيه بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يقال- وما أكثر من يقول يومئذ، والمدينة مليئة بالنفاق والمنافقين-: انظروا كيف ألزم نساء الناس البيوت والحجاب، وترك نساءه وبناته غاديات رائحات ينعمن بالحياة. . . إلى آخر ما يقول ذوو القلوب المرضى في كل زمان ومكان، فلما فرضه على نساء رسوله صلى الله عليه وسلم لم يبق مجال لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَرْغَبَ بنفسها عن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، فترى السفور لها، ولا تراه لأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته، وهذا يعرف عند علماء الأصول بالقياس الجلي، ومن باب أولى كتحريم ضرب الأبوين قياساً على تحريم التأفيف في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا