الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد، ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية هي الزينة الباطنة التي لا يجوز إبدؤها إلاّ لأناس مخصوصين، سواء كانت من صنع اللَّه تعالى، كالوجه، أم من صنع الآدميين، كثياب الجمال الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى، والاستثناء في الثانية فائدة معلومة» (1).
3 - قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
.
وهذا يتضمن أمر النساء بتغطية وجوههن ورقابهن، وبيان ذلك أن المرأة إذا كانت مأمورة بسدل الخمار من رأسها على جيبها لتستر صدرها، فهي مأمورة ضمنًا بستر ما بين الرأس والصدر، وهما الوجه والرقبة، وإنما لم يُذكر هاهنا واللَّه أعلم؛ للعلم بأن سدل الخمار إلى أن يضرب على الجيب لا بد أن يغطيهما.
والاختمار لغة على تغطية الوجه، قال بعضهم في وصف امرأة بالجمال وهي مخمرة وجهها:
قل للمليحة في الخمار المذهب
…
أفسدت نسك أخي التّقَى المذهب
نور الخمار ونور خدِّك تحته
…
عجباً لوجهك كيف لم يتلهَّبَ (2)
(1) رسالة الحجاب، ص 8.
(2)
ذكره في يتيمة الدهر، ونسبه لأبي علي التنوخي، 2/ 406، برواية:(المترهب) بدلاً من (المذهب) في البيت الأول، وذكره وبمثله رواه في وفيات الأعيان، 4/ 160.
قال الألباني رحمه الله: «فقد وصفها - يعني المليحة - بأن خمارها كان على وجهها أيضاً» اهـ (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الخُمُر التي تغطّي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان» (2).
قَالَ الإمام الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ، «بَابُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ،
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رحمه الله قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا» (3).
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ:«أَنَّ عَائِشَةَ رحمه الله كَانَتْ تَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي، فَاخْتَمَرْنَ بِهَا» (4).
وَقَالَ الحافظ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ:
(1) حجاب المرأة المسلمة، هامش ص 33.
(2)
حجاب المرأة ولباسها في الصلاة، ص 33، ومجموع فتاويه، 22/ 76.
(3)
البخاري، كتاب التفسير، باب:«وليضربن بخمرهن على جيوبهن» ، برقم 4758.
(4)
البخاري، كتاب التفسير، باب:«وليضربن بخمرهن على جيوبهن» ، برقم 4759.
«قَوْلُهُ: «فَاخْتَمَرْنَ» : أَيْ غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا، وَتَرْمِيهِ مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْعَاتِقِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ التَّقَنُّعُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُسْدِلُ الْمَرْأَةُ خِمَارَهَا مِنْ وَرَائِهَا، وَتَكْشِفُ مَا قُدَّامَهَا، فَأُمِرْنَ بِالِاسْتِتَارِ» (1).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: «وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النِّسَاءَ الصَّحَابِيَّاتِ الْمَذْكُورَاتِ فِيهِ فَهِمْنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، يَقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَأَنَّهُنَّ شَقَقْنَ أُزُرَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ، أَيْ: سَتَرْنَ وُجُوهَهُنَّ بِهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الْمُقْتَضِي سِتْرَ وُجُوهِهِنَّ، وَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْمُنْصِفُ: أَنَّ احْتِجَابَ الْمَرْأَةِ عَنِ الرِّجَالِ وَسِتْرَهَا وَجْهَهَا عَنْهُمْ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُفَسِّرَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَثْنَتْ عَائِشَةُ رحمه الله عَلَى تِلْكَ النِّسَاءِ بِمُسَارَعَتِهِنَّ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ مَا فَهِمْنَ سَتْرَ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، إِلَّا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَهُنَّ يَسْأَلْنَهُ عَنْ كُلِّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِنَّ فِي دِينِهِنَّ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2)، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرْنَهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: «وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خَيْثَمٍ، عَنْ صَفِيَّةَ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَلَفْظُهُ:«ذَكَرْنَا عِنْدَ عَائِشَةَ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَلَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فَانْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أُنْزِلَ فِيهَا، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مُعْتَجِرَاتٍ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانُ» (1).
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: «وَمَعْنَى مُعْتَجَرَاتٍ: مُخْتَمِرَاتٍ، كَمَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا، [الاعتجار: هو لفّ الخمار على الرأس، وردُّ طرفه على الوجه، ولا يعمل منه شيئ تحت الذقن] (2)، فَتَرَى عَائِشَةُ رحمه الله مَعَ عِلْمِهَا، وَفَهْمِهَا، وَتُقَاهَا أَثْنَتْ عَلَيْهِنَّ هَذَا الثَّنَاءَ الْعَظِيمَ، وَصَرَّحَتْ بِأَنَّهَا مَا رَأَتْ أَشَدَّ مِنْهُنَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فَهْمَهُنَّ لُزُومَ سَتْرِ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} مِنْ تَصْدِيقِهِنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَإِيمَانِهِنَّ بِتَنْزِيلِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ احْتِجَابَ النِّسَاءِ عَنِ الرِّجَالِ، وَسِتْرَهُنَّ وُجُوهَهُنَّ تَصْدِيقٌ
(1) فتح الباري، لابن حجر، 8/ 490، وتفسير ابن أبي حاتم، 8/ 2575، برقم 14405، وانظر: سنن أبي داود، برقم 4100، و4101. وقال الألباني في جلباب المرأة المسلمة، ص 80 «في سنده الزنجي بن خالد، واسمه مسلم، وفيه ضعف، لكنه قد توبع عند ابن مردويه».
(2)
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، 3/ 158.