الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى بالتوبة، فقال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة، ثم علق على ذلك الفلاح، فقال:{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه اللَّه، ظاهراً وباطناً، إلى: ما يحبه ظاهراً وباطناً، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة؛ لأن اللَّه خاطب المؤمنين جميعاً، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ} أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة» (1).
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء، فلا يحضن، ولا يلدن، واحدتهنّ قاعد {الَّلاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة، فلا يطمعن في الأزواج {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} يقول: فليس عليهنّ حرج، ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ، يعني جلابيبهنّ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 662 - 663.
(2)
سورة النور، الآية:60.
من الرجال، وغير المحارم من الغرباء غير متبرجات بزينة» (1).
وقال رحمه الله في قوله سبحانه: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} : «يقول: ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ، إذا لم يردن بوضع ذلك عنهنَّ أن يبدين ما عليهنَّ من الزينة للرجال. والتبرّج: هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره.
وقوله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ، فيلبسنها، خير لهنّ من أن يضعنها» (2).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} ، قال سعيد بن جُبَيْر، ومُقَاتل بن حَيَّان، وقتادة، والضحاك: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض، ويئسن من الولد، {اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًاً} ، أي: لم يبق لهن تَشوُّف إلى التزويج، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي: ليس عليهن من الحرج في التستر، كما على غيرهن من النساء.
قال أبو داود: حَدَّثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (3)، فنسخ، واستثنى
(1) جامع البيان، 19/ 216.
(2)
جامع البيان، 19/ 218.
(3)
سورة النور، الآية:31.
من ذلك {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} الآية (1).
قال ابن مسعود في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قال: الجلباب، أوالرداء، وكذلك رُوي عن ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وقتادة، والزهري، والأوزاعي، وغيرهم.
وقال أبو صالح: تضع الجلباب، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جُبَيْر وغيره، في قراءة عبد اللَّه بن مسعود:(أن يضعن من ثيابهن)، وهو الجلباب من فوق الخمار، فلا بأس أن يضعن عند قريب أو غيره، بعد أن يكون عليها خمار صَفيق.
وقال سعيد بن جبير: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب، ليرى ما عليهن من الزينة
…
وقوله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي: وترك وضعهن لثيابهن - وإن كان جائزًا -خير وأفضل لهن، واللَّه سميع عليم» (2).
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
(1) انظر: سنن أبي داود، كتاب اللباس، باب في قوله تعالى:{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} 2/ 461، برقم 4111، والسنن الكبرى للبيهقي، 7/ 93، والأحاديث المختارة للضياء المقدسي، 12/ 300. وحسّنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 2443.
(2)
تفسير القرآن العظيم، 10/ 272 - 273 بتصرف.
وقال العلامة الشنقيطي: «ومن الأدلّة القرآنيّة الدالَّة على الحجاب، قوله تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا بيَّن في هذه الآية الكريمة أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحًا،
(1) تيسير الكريم الرحمن، ص 672.
أي: لا يطمعن في النكاح لكبر السن، وعدم حاجة الرجال إليهنّ، يُرخّص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهنّ، بشرط كونهن غير متبّرجات بزينة، ثمّ إنه جلَّ وعلا مع هذا كله قال:{وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} ، أي: يستعففن عن وضع الثياب خير لهن، أي: واستعفافهن عن وضع ثيابهن، مع كبر سنهنّ وانقطاع طمعهن في التزويج، وكونهن غير متبرّجات بزينة، خير لهن.
وأظهر الأقوال في قوله: {أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} ، أنه وضع ما يكون فوق الخمار، والقميص من الجلابيب، التي تكون فوق الخمار والثياب.
فقوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} ، دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال، ولها طمع في النكاح، لا يُرخّص لها في وضع شىء من ثيابها، ولا الإخلال بشىء من التستّر بحضرة الأجانب (1).
وقال الإمام العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله: «يخبر سبحانه أن القواعد من النساء - وهن: العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً - لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن، إذا كنّ غير متبرجات بزينة؛ فَعُلِمَ بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها، وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناحاً في
(1) أضواء البيان، 6/ 591 - 592.
ذلك، ولو كانت عجوزاً؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة (1)؛
ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة، ولو كانت عجوزاً، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟! ولا شك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشدّ، والفتنة بها أكبر، وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح؛ وما ذاك - واللَّه أعلم- إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة طمعاً في الأزواج، فنُهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها؛ صيانة لها ولغيرها من الفتنة.
ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن، إن لم يتبرجن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب - ولو من العجائز- وأنه خير لهن من وضع الثياب، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خير للشابات من باب أولى، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة» (2). (3).
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ
(1) وقالوا في هذا المعنى:
لكل ساقطة في الحي لاقطة
…
وكل كاسدة يوماً لها سوق
وهو بيت مشهور في كتب أهل العلم، ولم أجد من نسبه لشاعر معين، انظر: الاخيار للحصني الحنفي، 3/ 301، وإعانة الطالبين للدمياطي، 3/ 259، واللباب في قواعد الإعراب، ص 8، وغيرها.
(2)
رسالة في الحجاب والسفور، ص 6 - 8.
(3)
وانظر: عودة الحجاب، 3/ 299 - 300.