الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لجرهد الأسلمي رضي الله عنه: «غطِّ فخذك، فإن الفخذ عورة» (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بين السرة والركبة عورة» (2).
فإذا تبين لك أن هذه المقاصد كلها تندرج تحت الأمر بغض البصر تبين لك فساد قول السفوريين، وجواب تساؤلهم:
ما معنى الأمر بغض البصر إذا لم تكن وجوه النساء مكشوفة؟
والعلم عند اللَّه سبحانه وتعالى.
الشبهة الحادية عشرة: ما جاء في حديث عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما
- قال: «أرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ (3) بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ، فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ
(1) أبو داود، كتاب الحمام، باب النهي عن التعري، برقم 4014، وبنحوه: أحمد، 25/ 274، برقم 15926، والبخاري معلقاً، كتاب الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ، قبل الرقم 371، وقال البخاري:«حديث أنس أسند، وحديث جَرْهَد أحوط، حتى نخرج من اختلافهم» ، وانظر: إرواء الغليل، 1/ 198.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط، 7/ 372، برقم 7761، والصغير، 2/ 205، والحاكم، 3/ 657، برقم 6418، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 9/ 170:«فيه أصرم بن حوشب، وهو متروك» ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، برقم 271.
(3)
أي أدار وجه الفضل عنها بيده الشريفة من خلف الفضل.
إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ:«نَعَمْ» (1).
وفي رواية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «
…
قَدْ لَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ: " رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا» (2).
قال الشيخ عبد القادر بن حبيب اللَّه السندي: «قلت: لا حجة في الحديث للذين يقولون بجواز كشف الوجه والكفين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الفضل بن عباس إنكارًا باتاً بأن لوى عنقه، وصرفه إلى
جهة أخرى، وكان في هذا الصنيع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنكار واضح؛ لأنه أنكر باليد (3).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله مشيرًا إلى هذا الحديث: «ويُقرِّب ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء، فجعل الأعرابي يعرضها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها،
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب قول اللَّه تعالى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً
…
}، برقم 6228، واللفظ له، ومسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 1218.
(2)
رواه أحمد، 2/ 6، برقم 562، والترمذي في الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، برقم 885، وقال:«حسن صحيح» ، وبنحوه أبو داود في المناسك: باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 1735.
(3)
رسالة الحجاب، ص 35.
وجعلتُ ألتفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (1).
ثم قال الحافظ: «فعلى قول الشابة: إن أبي، لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها» (2).
ثم قال الحافظ: روى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه: «هذا يوم مَن ملك فيه سمعه وبصره، ولسانه غفر له» (4)(5).
وقال الشيخ صالح بن فوزان أثناء رده على الدكتور يوسف القرضاوي: «وأما استدلال المؤلف على جواز نظر الرجل الأجنبي
(1) أبو يعلى، 12/ 97، برقم 6731، قال محققه حسين أسد:«إسناده صحيح» .
(2)
فتح الباري، 4/ 88.
(3)
فتح الباري، 4/ 70.
(4)
أخرجه أحمد، 5/ 164، برقم 3041، وابن خزيمة، 4/ 262، برقم 2832، وابن سعد في الطبقات، 4/ 54، وقال عنه محققو المسند، 5/ 165:«إسناده ضعيف» .
(5)
فتح الباري، 4/ 70.
إلى وجه المرأة بحديث الفضل بن العباس ونظره إلى الخثعمية وصرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها، فهذا من غرائب الاستدلال لأن الحديث يدل على خلاف ما يقول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك، بل صرف وجهه، وكيف يمنعه من شيء مباح! (1).
قال النووي رحمه الله عند ذكره لفوائد هذا الحديث: «منها تحريم النظر إلى الأجنبية، ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه» (2).
وقال العلامة ابن القيم: «وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزًا لأقره عليه» (3).
وقال الدكتور البوطي معلقًا على الحديث نفسه: «قالوا: فلولا أن وجهها عورة لا يجوز نظر الرجل الأجنبي إليه لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالفضل، أما المرأة ذاتها فقد كان عذرها في كشفه أنها كانت محرمة بالحج» (4).
وقال الشنقيطي رحمه الله بعد أن ذكر الحديث: «قالوا: فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأجيب عن ذلك أيضَا من وجهين:
الوجه الأول: الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث
(1) الإعلام، ص 69.
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 98.
(3)
روضة المحبين، ص 102.
(4)
إلى كل فتاة تؤمن باللَّه، ص 40.
التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه، وأقرها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة، وفي بعض روايات الحديث: أنها حسناء، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها».
إلى أن قال رحمه الله: «ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها، ومما يوضح هذا أن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما الذي روى عنه هذا الحديث لم يكن حاضراً وقت نظر أخيه إلى المرأة، ونظرها إليه لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قَدَّمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله (1)، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل، وهو لم يقل له: إنها كانت كاشفة عن وجهها، واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصداً لاحتمال أن يكون رأى وجهها وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها.
فإن قيل: قوله إنها وضيئة، وترتيِبه على ذلك بالفاء قوله:«فطفق الفضل ينظر إليها» ، وقوله:«وأعجبه حسنها» فيه الدلالة الظاهرة
(1) انظر مثلاً: صحيح البخاري، برقم 1678، ومسلم، برقم 1293، وغيرهما.
على أنه كان يرى وجهها وينظر إليه لإعجابه بحسنه.
فالجواب: أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاماً لا ينفك أنها كانت كاشفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها وأقرها لما ذكرنا من أنواع الاحتمال، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة، وذلك لحسن قدِّها وقوامها، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط كما هو معلوم، ولذلك فسر ابن مسعود:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالملاءة فوق الثياب كما تقدم.
ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة
…
يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفَاً.
الوجه الثاني: أن المرأة محرمة، وإحرام المرأة في وجهها وكفيها، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليها (1)، وعليها ستره عن الرجال في الإحرام كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل ابن عباس رضي الله عنهما (2)، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من
(1) انظر: عارضة الأحوذي، 4/ 56، المسألتان الرابعة عشرة، والخامسة عشرة.
(2)
الذين شاهدوا قصة الفضل والخثعمية لم يذكروا حسن المرأة ووضاءتها، ولم يذكروا أنها كانت كاشفة عن وجهها - كما في حديث علي بن أبي طالب، وفيه قول العباس:«يا رسول اللَّه لمَ لويت عنق ابن عمك؟» ، وكذا حديث جابر في صحيح مسلم في الحج وفيه:«فلما دفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرت به ظُعُن يَجرين فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر» .
النظر إليها، وبذلك يُعْلم أنها محرمة لم ينظر إليها فكشفها عن وجهها إذًا لإحرامها لا لجواز السفور (1).
فإن قيل: كونها مع الحجاج مظنة أن يرى الرجال وجهها إن كانت سافرة لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال، فالجواب: أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء، فلا مانع عقلًا ولا شرعًا ولا عادة من كونها لم ينظر إليها أحد منهم، ولو نظر إليها لحُكي كما حُكيَ نظر الفضل إليها، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة كما ترى، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم.
وبالجملة فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب مع أن الوجه هو أصل الجمال، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشرية وداعٍ إلى الفتنة والوقوع فيما لا ينبغي، ألم تسمع
(1) وقد استدل ابن بطال بحديث الخثعمية على أن ستر وجه المرأة ليس بفرض، ثم قال:«لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة، ولو رآه الغرباء» ، غير أن الحافظ تعقبه بقوله:«وفي استدلاله بقصة الخثعمية لِما ادعاه نظر، لأنها كانت محرمة» فتح الباري، 11/ 12.
بعضهم يقول:
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة
…
ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم
أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك؟ ولقد صدق من قال:
وما عجب أن النساء ترجلت
…
ولكن تأنيث الرجال عجاب (1)
قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: «وأما قول ابن حزم: لو كان وجهها مغطى ما عرف ابنُ عباس أحسناءُ هي أم شوهاء، فجوابه أن يقال: إن عبد اللَّه بن عباس لم يشهد قصة الخثعمية (2)، ولم يَرَ وجهها، وإنما حدثه بحديثها أخوه الفضل بن عباس رضي الله عنهما،
ثم قال: وإن كان الفضل قد رأى وجهها فرؤيته له لا تدل على أنها كانت مستديمة لكشفه، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رآها سافرة بوجهها وأقرها على ذلك، وكثيرًا ما ينكشف وجه المتحجبة بغير قصد منها، إما بسبب اشتغال بشيء أو بسبب ريح شديدة أو لغير ذلك من الأسباب فيرى وجهها من كان حاضرَاً عندها، وهذا أولى ما حُملت عليه قصة الخثعمية، واللَّه أعلم (3).
(1) أضواء البيان، 6/ 599 - 602.
(2)
وقد أشار الحافظ في فتح الباري، 4/ 80 إلى احتمال شهود ابن عباس القصة، فقال:«ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره ابن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده» .
(3)
الصارم المشهور، ص 139 - 140.
وقال الشيخ أبو هشام الأنصاري رحمه الله: «هذا هو النص الذي كثيرًا ما يتوكأ عليه من يتصدى لشق ستور النساء من علماء هذا الزمان، يتوكأ عليه لإقامة الحجة على جواز السفور، مع أن هذا الاستدلال لا يتمشى على طريقة الفقهاء المحدثين، فهي واقعة حال لا عموم لها، يتطرق إليها من الاحتمالات ما لا يتركها كمصدر للدليل، فمعلوم أن كشفها عن وجهها كان لأجل الإحرام (1) لا لجواز السفور، ثم يحتمل أن تلك المرأة كانت راكبة فكانت تحتاج إلى كشف وجهها للتثبت على راحلتها والتمكن عن ظهرها وزمامها، أو التجأت إلى ذلك لازدحام الحجيج وإيابهم وذهابهم فكان ما انكشف منها من قبيل {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2)، أو تعمدت من كشف وجهها أن يراها النبي صلى الله عليه وسلم شابة وضيئة حسناء فلعله يميل إلى التزوج بها، أو كشفت وجهها لأنها علمت أنها بمأمن من نظر الرجال، ويستأنس لذلك أن الراوي ذكر نظر الفضل إليها، ولم يذكر نظر أحد غيره إليها، فلو نظر إليها أحد غيره، لحكى ذلك كما حكى نظر الفضل إليها، ولما صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لم يبق أحد ينظر إليها حتى تحتاج إلى ستر الوجه وتؤمر به، ويفهم من صرف نظر الفضل عنها أنه لا سبيل إلى ترك الأجانب ينظرون إلى الشابة وهي سافرة، وأن وجه المرأة هو مصدر الفتن ومزلة الأقدام، فمن شاء فليفتح بابها، ومن شاء فليغلق.
(1) انظر: فتح الباري، 4/ 67.
(2)
سورة النور، الآية:31.