الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - قوله عز وجل: «{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: لا يُظهرْنَ شيئاً من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه. وقال ابن مسعود [رضي الله عنه]: كالرداء والثياب، يعني: على ما كان يتعاناه نساء العرب، من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب، فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود: الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم
…
» (1).
وهذا هو الصواب الذي دلت عليه الأدلة، واختاره المحققون (2).
(1) تفسير القرآن العظيم، 10/ 217.
(2)
والقول الآخر في معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «
…
وقال الأعمش، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: وجهها وكفيها والخاتم. ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم نحوُ ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال أبو إسحاق السَّبيعي، عن أبي الأحْوَص، عن عبد اللَّه قال في قوله:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} : الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، [وزينة يراها الأجانب، وهي] الظاهر من الثياب.
وقال الزهري: [لا يبدين] لهؤلاء الذين سَمَّى اللَّه ممن لا تحلّ له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم.
وقال مالك، عن الزهري:{إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الخاتم والخلخال.
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه [برقم 4104]:
حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد، عن سعيد بن بَشِير، عن قتادة، عن خالد بن دُرَيك، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال:«يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا» ، وأشار إلى وجهه وكفيه، لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هذا مرسل؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة، واللَّه أعلم. [تفسير القرآن العظيم، 10/ 217 - 218].
ولكن حقق العلماء رحمهم اللَّه تعالى الآثار المنسوبة إلى ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره: «إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا: بالوجه والكفين» ، وقوله الآخر: بأن ذلك الكحل والخاتم، فبيَّنوا بأنها جاءت بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها، ويسقط الاستدلال بها، كما بيَّنوا صحة الآثار المسندة إلى ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيره:«إلا ما ظهر منها» بأن ذلك ظاهر الثياب، والرداء.
قال فضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب اللَّه السندي المدرس بمعهد الحرم المكي الشريف أثناء نقده لأثر: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» . [وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن
عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره [18/ 119]، والبيهقي في السنن الكبرى [2/ 182 - 183، 7/ 86]، قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان، قال: ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ} قال: الكحل والخاتم. قلت: إسناده ضعيف جدًّا، بل هو منكر، قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد اللَّه الضبي الكوفي الملائي الأعور عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي [تهذيب الكمال، 7/ 663] في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي: روى عن سعيد بن جبير- وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير.
ثم قال الإمام الذهبي في ترجمته: «عن الثوري ووكيع بن الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضَاً: زعموا أنه اختلط، وقال يحيى القطان: حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي: عمن سمعت هذا؟ قال- عن إبراهيم عن علقمة، قلنا: علقمة عمن؟ قال: عن عبد اللَّه، قلنا: عبد اللَّه عمن؟ قال: عن عائشة-، وقال النسائي: متروك الحديث» [ميزان الاعتدال، 4/ 106] اهـ، "وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد، كما لا يخفى على أهل هذا الفن الشريف.
وقال الإمام الحافظ البيهقي في السنن الكبرى: «أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا حفص بن غياث عن عبد اللَّه بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال: ما في الكف والوجه. [السنن الكبرى، 2/ 225،
7/ 852، وقال الشيخ منصور بن إدريس البهوتي رحمه الله:«ولا يبدين زينتها إلا ما ظهر منها» قال ابن عباس وعائشة: وجهها وكفيها، رواه البيهقي، وفيه ضعف، وخلفهما ابن مسعود» اهـ، من كشاف القناع، 1/ 243].
قلت: إسناده مظلم ضعيف؛ لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال الإمام الذهبي: أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي: رأيتهم مجمعين على ضعفه، ولا أرى له حديثاً منكراً، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي: كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قِمَطْرًا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة 272 هـ[ميزان الاعتدال، 1/ 112 - 113]. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [تقريب التهذيب، 1/ 19].
وكذا يوجد في هذا الإِسناد- عند الإمام البيهقي- عبد اللَّه بن مسلم بن هرمز المكي عن مجاهد وغيره، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين،. وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال ابن المديني: كان ضعيفاً (مرتين) عندنا، وقال أيضا: ضعيف، وكذا ضعفه النسائي [ميزان الاعتدال، 2/ 503]، وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [تقريب التهذيب، 1/ 450].
قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد، لا يحتج بهما ولا يكتبان، وهنا أسانيد أخرى لا تقل درجتها في الضعف والنكارة، وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، ولو صح الإِسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث، فكيف في هذه الحال؟ وقد صحت الأسانيد إلى ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من الصحابة رضي الله عنهم عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، والبيهقي في سننه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره، وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مفصلاً من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب والستر. وإليكم أولاً ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله: حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال: الثياب [تفسير الطبري، 18/ 119، وقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم، وقال:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي في التلخيص.
قلت: إسناده في غاية الصحة، وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره [2/ 283].
ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسناداً آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه مثله - قلت: إسناده في غاية الصحة.
وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان وكحل العينين، ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن» الآية.
ثم قال رضي الله عنه: «والزينة التي تبديها لهؤلاء: قرطاها، وقلادتها، وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها، فإنها لا تبديه إلا لزوجها» [الدر المنثور، 5/ 42]، قلت: رواية ابن عباس رضي الله عنهما هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره، ورجالها كلهم ثقات، إلا أنها منقطعة؛ لأن فيها علي بن أبي طلحة المتوفى سنة 143 هـ، يروي عن ابن عباس رضي الله عنهما - ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي - وهو إمام كبير ثقة ثبت، كما لا يخفى على أحد - وقد احتج بهذه الرواية - أعني رواية على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما - البخاري في الجامع الصحيح [انظر مثلاً: فتح الباري، 8/ 207، 228، 265]؛ إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة، وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح - قال ذلك الحافظ في التهذيب [تهذيب التهذيب، 7/ 340].
وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال مشيراً إلى رواية التفسير هذه «في ترجمة علي بن أبي طلحة: هو مرسل عن ابن عباس، وبينهما مجاهد» [تهذيب الكمال، 5/ 480]، واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره [محاسن التأويل، 4/ 4909]، والإمام القرطبي في تفسيره [الجامع لأحكام القرآن، 4/ 243]، وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة، فكانت قوية ومُحتجّاً بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وأثار الصحابة والتابعين تؤيدها، فليعتمد عليها ويستأنس بها». اهـ[الحجاب في الكتاب والسنة للسندي، ص 21 - 26].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: «
…
والْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ خَارِجًا عَنْ أَصْلٍ خِلْقَتِهَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا; كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّهَا ظَاهِرُ الثِّيَابِ; لِأَنَّ الثِّيَابَ زِينَةٌ لَهَا خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ، كَمَا تَرَى، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا، وَأَحْوَطُهَا، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الرِّيبَةِ وَأَسْبَابِ الْفِتْنَةِ
…
» (1). (2).
(1) أضواء البيان، 6/ 197.
(2)
وقد نقل الشنقيطي رحمه الله أقوال العلماء في تفسير قول اللَّه تعالى: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، ثم بعد أن ذكر هذه الأقوال والآثار عنهم قال: وَقَدْ رَأَيْتَ فِي هَذِهِ النُّقُولِ الْمَذْكُورَةِ عَنِ السَّلَفِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ; كَمَا ذَكَرْنَا:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ خَارِجًا عَنْ أَصْلٍ خِلْقَتِهَا، وَلَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا ; كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّهَا ظَاهِرُ الثِّيَابِ ; لِأَنَّ الثِّيَابَ زِينَةٌ لَهَا خَارِجَةٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ بِحُكْمِ الِاضْطِرَارِ، كَمَا تَرَى.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا وَأَحْوَطُهَا، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الرِّيبَةِ وَأَسْبَابِ الْفِتْنَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ: مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا أَيْضًا، لَكِنَّ النَّظَرَ إِلَى تِلْكَ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ كَالْخِضَابِ وَالْكُحْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَةَ الْمَوْضِعِ الْمُلَابِسِ لَهُ مِنَ الْبَدَنِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ بَعْضُ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا ; كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا ظَهَرَ مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّنَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَقَدَّمْنَا أَيْضًا فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ إِرَادَةَ مَعْنًى مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ، مَعَ تَكَرُّرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَوْنُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ فِي الْغَالِبِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِدَلَالَةِ غَلَبَةِ إِرَادَتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَذَكَرْنَا لَهُ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ فِي التَّرْجَمَةِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ لِلَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَمَثَّلْنَا لَهُمَا بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ كِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا، فَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي مَعْنَى: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ مَثَلًا، تُوجَدُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ أَنَّ الزِّينَةَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، هِيَ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا: كَالْحُلِيِّ، وَالْحُلَلِ. فَتَفْسِيرُ الزِّينَةِ بِبَعْضِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: الْوَجْهُ، وَالْكَفَّانِ خِلَافُ ظَاهِرِ مَعْنَى لَفْظِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا نَوْعُ الْبَيَانِ الثَّانِي الْمَذْكُورِ، فَإِيضَاحُهُ: أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مُرَادًا بِهِ الزِّينَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ أَصْلِ الْمُزَيَّنِ بِهَا، وَلَا يُرَادُ بِهَا بَعْضُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُزَيَّنِ بِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف، الآية: 31]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف، الآية: 32]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف، الآية: 7]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} [القصص، الآية: 60]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات، الآية: 6]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل، الْآيَةَ: 8]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص، الْآيَةَ: 79]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف، الآية: 46]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد، الْآيَةَ: 20]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه، الآية: 59]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ مُوسَى:{وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} [طه، الآية: 87]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور، الآية: 31]، فَلَفْظُ الزِّينَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا يُرَادُ بِهِ مَا يُزَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ، كَمَا تَرَى، وَكَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي لَفْظِ الزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، الَّذِي غَلَبَتْ إِرَادَتُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ; كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى
…
وَإِذَا عَطَلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِل
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَفْسِيرَ الزِّينَةِ فِي الْآيَةِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فِيهِ نَظَرٌ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَسَّرُوهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زِينَةٌ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ كَظَاهِرِ الثِّيَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ زِينَةٌ يَسْتَلْزِمُ النظر إِلَيْهَا رُؤْيَةَ مَوْضِعِهَا مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ ; كَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عِنْدِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّ الزِّينَةَ الظَّاهِرَةَ هِيَ مَا لَا يَسْتَلْزِمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ هُوَ أَحْوَطُ الْأَقْوَالِ، وَأَبْعَدُهَا عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ، وَأَطْهَرُهَا لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ الْمَرْأَةِ هُوَ أَصْلُ جَمَالِهَا وَرُؤْيَتَهُ مِنْ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الِافْتِتَانِ بِهَا ; كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَالْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْكَرِيمِ، هُوَ تَمَامُ الْمُحَافَظَةِ، وَالِابْتِعَادُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي» [أضواء البيان، 6/ 197 - 200 بتصرف].
وقال الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله: «قال سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: مَا (ظَهَرَ مِنْهَا) يعني بذلك: ما ظهر من اللباس؛ فإن ذلك معفوٌّ عنه، ومراده بذلك رضي الله عنه: الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة.
وأما ما يُروَى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسَّر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين، فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب اللَّه عليهن ستر الجميع، كما سبق في
الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها.
ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك: ما رواه علي بن أبي طلحة عنه أنه قال: «أمر اللَّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة» ، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق (1)،
وهو الحق الذي لا ريب فيه.
(1) سبق أن ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيره: «ما ظهر منها» بأنه ضعيف، ولكن على افتراض صحة نسبته إليه فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى: «والسلف تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين، فقال ابن مسعود: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي ما في الوجه واليدين مثل الكحل والخاتم.
قال: وحقيقة الأمر أن اللَّه جعل الزينة زينتين، زينةً ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوَّز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل اللَّه عز وجل آية الحجاب بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} حجب النساء عن الرجال، وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع أنسَا أن ينظر.
ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين، وإلا فهي مما ملكت يمينه، فحجبها.
فلما أمر اللَّه أن لا يُسئلن إلا من وراء حجاب، وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن؛ والجلباب هو المُلاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة: الإزار، هو الإزار الكبير الذي، يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عَبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب «فكن النساء ينتقبن» ، وفي الصحيح «إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين» [البخاري، برقم 1838]، فإذا كنَّ مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهر للأجانب، فما بقي يَحِلُّ للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة: فابن مسعود ذكر آخر الأمرين؛ وابن عباس ذكر أول الأمرين» [حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" ص: 13 - 17، مجموع الفتاوى لابن تيمية
(22/ 110)]، ويتضح من هذا أن شيخ الإسلام يذهب إلى وقوع النسخ في مراحل تشريع الحجاب قال رحمه الله:«وعكس ذلك الوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلا الثياب» اهـ، وقال أيضَاً رحمه الله:«وأما وجهها ويداها وقدماها فهي إنما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب لم تُنه عن أَبدائه للنساء ولا لذوي المحارم» اهـ. [من مجموع الفتاوى، (22/ 117 - 118)] ..
وقال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: «وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر «إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا» بالوجه والكفين، فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب، وأما بعد ذلك فقد أوجب اللَّه عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها، ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عنه أنه قال: أمر اللَّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق وهو الحق الذي لا ريب فيه، ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة، وقد تقدم قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ولم يستثن شيئاً وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك» [رسالة الحجاب والسفور، ص 19].
وهذا الجمع أولى لما ورد عن ابن عباس أيضًا من قوله: تدني الجلباب إلى وجهها، ولا تضرب به. قال روح في حديثه: قلت: وما (لا تضرب به)؟ فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار لي ما على خدها من الجلباب قال:«تعطفه وتضرب به على وجهها كما هو مسدول على وجهها» . رواه أبو داود في كتاب المسائل، [ص 110، وصححه الألباني في الرد المفحم، ص 50].
وأما ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة رحمه الله: أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال:«يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» ، وأشار إلى وجهه وكفيه. فهو حديث ضعيف الإسناد، لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من رواية خالد بن دريك عن عائشة، وهو لم يسمع منها، فهو منقطع؛ ولهذا قال أبو داود بعد روايته لهذا الحديث: هذا مرسل، خالد لم يدرك عائشة .. ولأن في إسناده سعيد بن بشير، وهو ضعيف لا يحتج بروايته .. وفيه علة أخرى ثالثة وهي: عنعنة قتادة عن خالد بن دريك، وهو مدلس.
ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، ولم يستثن شيئاً، وهي آية محكمة، فوجب الأخذ بها، والتعويل عليها، وحمل ما سواها عليها، والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين» (1).
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «إن اللَّه تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها، وهي التي لا بد أن تظهر كظاهر الثياب، ولذلك قال:(إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، لم يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم،
(1) حكم الحجاب والسفور، ص 8 - 10.