الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
رغبة بعض الصحابة بزيادة رزق عمر ورفضه ذلك
وأخرج الطبري عن سالم بن عبد الله قال: لما ولي عمر رضي الله عنه قعد على رزق أبي بكر رضي الله عنه الذي كانوا فرضوا له، فكان بذلك فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم. فقال الزبير؛ لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه، فقال علي؛ وددنا قَبل ذلك، فانطلقوا بنا، فقال عثمان: إنّه عمر فهلُّموا فلنستبرىء ما عنده من وراء، نأتي حفصة فنسأله ونستكتمها. فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمِّي له أحداً إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها.
فلقيت عمر في ذلك فعرفت الغضب في وجهه، وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك، فقال: لو علمت من هم لسؤت وجوههم، أنت بيني وبينهم، أنشدك بالله: ما أفضل ما أقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك من الملبس؟ قالت؛ ثوبين مُمَشَّقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع. قال: فأيُّ الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبزة شعير فصببنا عليها وهي حارة أسفل عُكَّة لنا، فجعلناها هشَّة دسمة، فأكل منها وتطعَّم منها إستطابة لها. قال: فأيُّ مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء لنا ثخين كنا نربِّعه في الصيف فنجعله تحتنا، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثَّرنا بنصفه. قال: يا حفصة، فأبلغيهم عني أن رسول الله قَدَّر فوضع الفُضول مواضعها وتبلغ بالتزجية، وإني قدرت فوالله وضعنَّ الفُضول مواضعها لأتبلغنَّ بالتزجية، وإنما مثلي ومثل صاحبيَّ كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ ثم اتَّبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتَّبعه الثالث فإن لزم
طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. وأخرجه أيضاً ابن عساكر عن سالم بن عبد الله فذكر نحوه، كما في منتخب الكنز.
حديث الحسن البصري في ذكر زهد عمر في جامع البصرة
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري قال: أتيت مجلساً في جامع البصرة، فإذا أنا بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون زهد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وما فتح الله عليهما من الإِسلام وحسن سيرتهما، فدنَوت من القوم، فإذا فيهم الأحنف بن قيس التميمي رضي الله عنه (جالس) معهم، فسمعته يقول: أخرَجنا عمر بن الخطاب في سرية إلى العراق ففتح الله علينا العراق وبلد فارس، فأصبنا فيها من بياض فارس، وخراسان، فجعلناه معنا واكتسينا منها. فلما قدمنا على عمر أعرض عنا بوجهه وجعل لا يكلمنا، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتينا إبنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو جالس في المسجد، فشكونا إليه ما نزل بنا من الجفاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فقال عبد الله: إن أمير المؤمنين رأى عليكم لباساً لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه ولا الخليفة من بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأتينا منازلنا فنزعنا ما كان علينا وأتيناه في البِزة التي كان يعهدنا فيها، فقام يسلم علينا على رجل رجل، ويعانق منَّا رجلاً رجلاً؛ حتى كأنه لم يرنا قبل ذلك، فقدَّمنا إليه الغنائم فقسمها بيننا بالسوية، فعُرض عليه في الغنائم سلال من أنواع الخبيص من أصفر وأحمر، فذاقه عمر فوجده طيبَ الطعم طيبَ الريح، فأقبل علينا بوجهه وقال: والله يا معشر المهاجرين والأنصار ليقتلن منكم الابن أباه والأخ أخاه على هذا الطعام ثم أمر به فحُمل إلى أولاد من قُتلوا بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.
ثم إنَّ عمر قام منصرفاً فمشى وراءه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فقالوا: ما ترون يا معشر المهاجرين والأنصار إلى زهد هذا الرجل وإلى حِلْيته؟ لقد تقاصرت إِلينا أنفسنا مذ فتح الله على يديه ديار كسرى وقيصر، وطرفي المشرق والمغرب، ووفود العرب والعجم يأتونه فيَرون عليه هذه الجبَّة وقد رقعها إثنتي عشرة رقعة، فلو سأَلتم معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم الكبراء من أهل المواقف والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار - يغير هذه الجبة بثوب ليِّن يُهاب فيه منظره، ويُغدَى عليه بجفنة من الطعام، ويُراح عليه بجفنة يأكله ومن حضره من المهاجرين والأنصار. فقال القوم بأجمعهم: ليس لهذا القول إلا علي بن أبي طالب فإنه أجرأ الناس عليه وصهره على إبنته، أو إبنته حفصة فإنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُوجب لها لموضعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموا علياً، فقال عليٌّ: لست بفاعل ذلك، ولكن عليكم بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه.
قال الأحنف بن قيس: فسألوا عائشة وحفصة رضي الله عنهما وكانتا مجتمعتين. فقالت عائشة: إني سائلة أمير المؤمنين ذلك، وقالت حفصة: ما أراه يفعل وسيبِينُ لك ذلك. فدخلتا على أمير المؤمنين فقرَّبهما وأدناهما، فقالت عائشة: يا أمير المؤمنين، أتأذن أكلمك؟ قال: تكلَّمي يا أمَّ المؤمنين. قالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى لسبيله إلى جنته ورضوانه لم يُرد الدنيا ولم تُرده، وكذلك مضى أبو بكر رضي الله عنه على إثره لسبيله بعد إحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَتَل المكذبين، وأدحض حجة المبطلين بعد عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وإِرضاء رب البرية، فقبضه الله إلى رحمته ورضوانه وألحقه بنبيه صلى الله عليه وسلم بالرفيع الأعلى لم يرد الدنيا ولم ترده. وقد فتح الله على يديك كنز كسرى وقيصر وديارهما، وحُمل إليك أموالهما ودانت لك أطراف
المشرق والمغرب ونرجو من الله المزيد وفي الإِسلام التأييد، ورسل العجم يأتونك ووفود العرب يردون عليك وعليك هذه الجبة قد رقعتها إثنتي عشرة رقعة فلو غيَّرتها بثوب لين يُهاب فيه منظرك، ويُغدى عليك بجفنة من الطعام ويُراح عليك بجفنة تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار.
فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديداً، ثم قال: سألتك بالله هل تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شبع من خبز برَ عشر أيام أو خمسة أو ثلاثة، أو جمع بين عشاء وغداء حتى لحق بالله؟ فقالت: لا، فأقبل على عائشة فقال: هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرِّب إليه طعام على مائدة في ارتفاع شبر من الأرض، كان يأمر بالطعام فيوضع على الأرض ويأمر بالمائدة فتُرفع؟ قالتا: اللهمَّ نعم. فقال لهما: أنتما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين ولكما على المؤمنين حق وعليَّ خاصة؛ ولكن أتيتما ترغِّباني في الدنيا وإِنِّي لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة من الصوف فربما حك جلده من خشونتها، أتعلمان ذلك؟ قالتا اللهمَّ نعم، فقال: هل تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقد على عباءة على طاقة واحدة وكان مِسْحاً في بيتك يا عائشة، تكون بالنهار بساطاً وبالليل فراشاً، فندخل عليه فنرى أثر الحصير على جنبه؟ ألا يا حفصة أنت حدثتيني أنك ثنيت له ذا ليلة فوجد لينها فرقد فلم يستيقظ إلا بأذان بلال، فقال لك:«يا حفصة ماذا صنعت؟ أَثَنيت المهاد ليلتي حتى ذهب بي النوم إلى الصباح؟ ما لي وللدنيا وما لي شغلتموني بلين الفراش» يا حفصة أما تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مغفوراً له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، أمسى جائعاً، ورقد ساجداً، ولم يزل راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً في آناء الليل والنهار إِلى أن قبضه الله برحمته ورضوانه لا أكل عمر طيباً، ولبس ليِّناً، فله أُسوة بصاحبيه، ولا جمع بين أُدْمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل