الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكنني أَسأل الرحمن مغفرة
وضَرْبةً ذات فَرْغٍ تقذف الزَّبدا
أو طعنةً بيدَيْ حرّان مُجْهِزة
بحربة تُنْفِذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مرُّوا على جَدَثي
أرشَدَه الله من غازٍ وقد رَشَدا
ثم إنَّ القوم تهيأوا للخروج، فأتى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فودّعه، ثم قال:
فثبّت الله ما أتاك حَسَن
تَثْبيتَ موسى ونصراً كالذي نُصرا
إنّي تفرستُ فيك الخير نافلةً
الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يُحرم نوافلَه
والوجهَ منه فقد أزرى به القدر
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيّعهم حتى إذا ودَّعهم وانصرف. قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
خَلَف السَّلامُ على امرىء ودْعتُهُ
في النَّخل خيرَ مُشَيِّع وخليل
تشجيع ابن رواحة الناس على الشهادة
ثم مضَوا حتى نزلوا «معاناً» من أرض الشام، فبلغ الناس أن هِرَقْل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لَخْم وجُذام والقَيْن وبَهْراء وَبَليّ مائة ألف منهم، عليهم رجل من بَليّ، ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على «مَعان» ليلتين ينظرون في أمرهم؛ وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمُدَّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجع الناسَ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وقال: يا قوم، - والله - إنَّ التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون: الشهادة.
وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلِقوا فإنَّما هي إِحدى الحُسْنَيَين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد - والله - صدق ابن رواحة.
فمضى الناس حتى إِذا كانوا بتُخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها «مَشارف» ، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها:«مُؤتةَ» ، فلتقى الناس عندها. فتعبَّى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرة يقال له قُطْبَة بن قَتادة رضي الله عنه، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عَباية بن مالك رضي الله عنه، ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله عنه براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر رضي الله عنه فقاتل القوم حتى قُتل، فكان جعفر أول المسلمين عَقَر في الإِسلام. كذا في البداية.
وأخرجه الطبراني عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما مثله، وفيه: ثم أخذها جعفر رضي الله عنه فقاتل به حتى إِذا ألحَمه القتال إقتحم عن فرس له «شقراء» فعقرها، فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عَقَر في الإِسلام. قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات إِلى عروة. انتهى. وأخرجه أبو نعيم في الحِلية عن عروة رضي الله عنه مختصراً.
أبيات ابن رواحة في مسيره في الشوق إلى الشهادة
وأخرج ابن إسحاق عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه في حِجْره، فخرج بي في سفره ذلك مُرْدِفي على حقيبة رَحْله، فوالله إنه ليسير ليلتئذٍ وهو يُنْشِد أبياته:
إذا أدنيتِني وحملت رَحْلي
مسيرة أربع بعد الحِساء
فشأنك أنعمٌ وخلاك ذمٌ
ولا أرجعْ إِلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني
بأرض الشام مستنهى الثواء
وردَّك كل ذي نَسَب قريب
إلى الرحمن منقطعَ الإِخاء
هنالك لا أُبالي طلع بَعْل
ولا نخل أسافلها رِواء
قال: فلما سمعتُهن منه بكيت، فخفقني بالدِّرة وقال: ما عليك يا لُكع أن يرزقني الله الشهادة؟ وترجع بين شعبتي الرَّحْل. كذا في البداية وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية، والطبراني من طريق ابن إسحاق عن زيد كما في المجمع.
أبيات ابن رواحة عند القتال
وأخرج ابن إسحاق عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: حدثني أبي
الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف - قال: فلما قتل جعفر رضي الله عنه أخذ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردّد ويقول:
أقسمت يا نفسُ لتنزِلنَّهْ
لتنزِلِنَّ أو لتُكْرِهِنَّهْ
إن أجلبَ الناس وشدُّوا الرَّنَّة
ما لي أراك تكرهين الجنَّة؟
قد طال ما قد كنتِ مطمئنة
هل أنت إلا نُطفة في شَنَّة
وقال أيضاً:
يا نفسُ إن لا تُقتلي تموتي
هذا حِمامُ الموت قد صُلِيتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتِ
إن تفعلي فعلهما هُدِيتِ
يريد صاحبيه زيداً وجعفراً رضي الله عنهما، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عمّ له بعَرْق من لحم، فقال: شُدّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت.k فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسة، ثم سمع الحَطْمة في ناحية الناس. فقال: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية؛ والطبراني: ورجاله ثقات. كما قال الهيثمي.
عقر جعفر فرسه وما قال من الأشعار عند القتل
وأخرج ابن إسحاق عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف - وكان في تلك الغزوة «غزوة مؤتة» قال: والله لكأنِّي أنظر إلى جعفر رضي الله عنه حين اقتحم عن فرس له «شقراء» ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ وهو يقول:
يا حبَّذا الجنّة واقترابُها
طيبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابها
كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليَّ إِذ لاقيتها ضِرابُها
يوم القيامة تشجيع زيد بن الخطاب وأصحابه على الثبات واستشهاده رضي الله عنه
أخرج الحاكم عن عمر بن عبد الرحمن - من ولد زيد بن الخطاب - عن أبيه رضي الله عنه قال: كان زيد بن الخطاب يحمل راية المسلمين يوم اليمامة، وقد انكشف المسلمون حتى ظهرت خيفة على الرجال، فجعل زيد بن الخطاب يقول: أما الرحال فلا رحال، وأما الرجال فلا رجال؛ ثم جعل يصيح بأعلى صوته: اللهمَّ إني أعتذر إليك من فرار أصحابي، وأبرأ إليك مما جاء به مُسَيلِمة ومُحَكَّم
بن الطُّفَيل، وجعل يشدّ بالراية يتقدم بها في نحر العدوّ، ثم ضارب بسيفه حتى قتل رحمة الله عليه، ووقعت الراية فأخذها سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، فقال المسلمون: يا سالم إنا نخاف أن نُؤتى من قِبَلك فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قِبَلي وقُتل زيد بن الخطاب سنة إثنتي عشر من الهجرة. وأخرجه ابن سعد عن عبد الرحمن رضي الله عنه مثله.
حفر ثابت وسالم حفرة للثبات في المعركة واستشهادهما
وأخرج الطبراني عن إبنة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه فذكرت الحديث، وفيه: فلما استنفر أبو بكر رضي الله عنه المسلمين إِلى قتال أهل الردة: اليمامة ومسيلمة الكذاب، سار ثابت بن قيس رضي الله عنه فيمن سار، فلما لَقُوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين - ثلاث مرّات. فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيه، فقاتلا حتى قتلا. قال الهيثمي: وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح. والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابية فإنها قالت؛ سمعت أبي. انتهى. وأخرجه ابن عبد البرّ في الإستيعاب - نحوه. وأخرجه البغوي أيضاً بهذا الإِسناد، كما في الإِصابة.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن ثابت بن قيس بن شمّاس رضي الله عنه قال: لمَّ انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر لنفسه حفرة وقام فيها، ومعه راية
المهاجرين يومئذٍ، فقاتل حتى قتل رحمه الله يوم اليمامة شهيداً سنة إثنتي عشرة؛ وذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
نداء عبّاد بن بشر للأنصار في المعركة وقت الشهادة
وأخرج أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت عبَّاد بن بِشر رضي الله عنه يقول: يا أبا سعيد، رأيت الليلة كأن السماء قد فُرِجَت لي، ثم أطْبقت عليّ؛ فهي - إن شاء الله - الشهادة. قال: قلت: خيراً - والله - رأيت. قال: فأَنْظُر إليه يوم اليمامة وإِنه ليصيح بالأنصار: أحطِموا جفون السيوف، وتميَّزوا من الناس، وجعل يقول: أخْلِصونا، أخلصونا، فأخلصوا أربع مائةِ رجل من الأنصار ما يخالطهم أحد، يقدمهم عبَّاد بن بشر، وأبو دُجانة، والبراء بن مالك رضي الله عنهم حتى انتهوا إِلى باب الحديقة، فقاتلوا أشدَّ القتال؛ وقُتل عباد بن بشر رحمه الله، فرأيت بوجهه ضرباً كثيراً ما عرفه إِلا بعلامة كانت في جسده.
نداء أبي عقيل للأنصار في المعركة وقت الشهادة
وأخرج أيضاً عن جعفر بن عبد الله بن أسلم الهمْداني رضي الله عنه قال: لما كان يوم اليمامة كان أول الناس جرح أبو عقيل الأُنَيْفي رضي الله عنه؛ رُمِيَ بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشَطَبَ في غير مقتل، فأُخرج السهمُ - ووهن له شقه الأيسر - لِمَا كان فيه، وهذا أول النهار، وجُرّ إِلى الرَّحْل - فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم - وأبو عقيل واهن من جرحه - سمع مَعْنَ بن
عدي رضي الله عنه يصيح بالأنصار: الله الله والكرّةَ على عدوّكم، وأعنق مَعْن يَقْدَم القوم، وذلك حني صاحت الأنصار: أَخلصونا، أخلصونا، فأخلَصوا رجلاً رجلاً يُمَيَّزون. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فنهض أبو عَقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عَقِيل، ما فيك قتال؟ قال: قد نوَّه المنادي باسمي. قال ابن عمر: فقلت؛ إنما يقول: يا للأَنصار، لا يعني الجَرْحى قال أبو عَقِيل: أنا رجل من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْواً قال ابن عمر: فتحزمَّ أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرداً، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرّة كيوم حُنَين، فاجتمعوا رحمهم الله جميعاً يقدمُون المسلمين دُرْبة دون عدوْهم حتى أقحموا عدوَّهم الحديفة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم.
قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خَلَصت إلى مقتل، وقُتل عدوّ الله مسيلمة. قال ابن عمر فوقعتُ على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: أبا عقيل، فقال: لبيك - بلسان ملتاث - لِمَن الدَّبْرة؟ قال: قلت: أبشر، ورفعت صوتي: قد قُتل عدوّ الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات - يرحمه الله -. قال ابن عمر: فأخبرت عمر بعد أن قدمت خبره كلَّه. فقال: رحمه الله، ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإِنْ كان ما علمت من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديمَ إِسلام.
إستشهاد ثابت بن قيس
وأخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: لما انكشف الناس يوم