الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
ملامح مشتركة بين الصور الثلاث:
هذه الصور الثلاث اشتركت في معنى عام لم تخل منه واحدة منها وهو تشبيه
الدنيا بماء أنزله الله من السماء. فأحيا الأرض بعد موتها. وأنبتت واخضرت
واكتملت صورة الأرض بالأشجار والزروع المختلفة الطعوم والألوان والحجوم فدبت على ظهرها الحياة مرحة نشيطة.
وحالف الحظ أقواماً فملكوا من حطامها وعروضها الكثير.
وسخروها لخدمتهم وتوصَّلوا إلى بعض من أسرارها
وقد بدت في أعينهم عروساً فاتنة. وظنوا أنهم قادرون على إخضاعها
لأغراضهم فركنوا إليها واثقين، وبينما هم كذلك جاءها أمر الله فدمرها تدميرا"
وأصبحت أثراً بعد عين كأن لم يكن لها وجود سابق.
والصور في المواضع الثلاثة من الصور المركبة شُبِّهت فيها الحياة الدنيا فى
زهوها وسرعة فنائها بصورة الزرع في نموه وازدهاره.
وصيرورته هشيماً جافاً وأعواداً متهشمة متكسرة لا يتعلق بها أمل.
ولا تغنى عن شيء؟
فجدير ألا يطمئن إليها عاقل ولا يغتر بها إنسان.
أو الوجه - كما يقول الزمخشري -:
" سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ".
وقد برزت في ثنايا التشبيهات الرئيسية صور بيانية تدور حول التشبيه
والمجاز والقصر.
ففى آية " يونس " وردت التعبيرات الآتية:
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) . .
وهذا مجاز طريقه الاستعارة التمثيلية.
قال صاحب الكشاف: " جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها.
وتزيَّنت بغيرها من ألوان الزين ".
ووردت عبارة: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) فـ " أتاها أمرنا " مجاز حكمي علاقته المفعولية والتقدير:
آتيناها أمرنا، وفي الإسناد إلى الأمر من المبالغة والفخامة ما فيه.
و" جعلناها حصيداً " تشبيه مؤكد محذوف الأداة أي كحصيد.
و" حصيد " بمعنى مفعول ووضع " فعيل " مكان " مفعول "
لا يشعر به من المبالغة في المعنى.
و" كأن لم تغن بالأمس ". تشبيه مرسل لذكر الأداة فحواه تنزيل وجود
الدنيا حيث كانت بمنزلة العدم لسرعة فنائها وذهاب أثرها.
كما اشتملت الفاصلة على تشبيه: (كَذَلِكَ نُفَصلُ الآيَاتِ) . .
أى مثل هذا التفصيل الواضح تفسيرنا لكل الآيات.
وآية " الكهف " اختصرت المسافة من أقصر طريق.
وقد وصفت الهشيم الذي شُبِّهت به الدنيا بأنه " تذروه الرياح "
لدقة أجزائه وجفافه.
وحقَّرت آية " الحديد " الدنيا ووصفتها عن طريق التشبيه المؤكد بأنها:
" لعب ولهو " وهما لا يجديان على صاحبهما غير الألم والحسرة.
ثم قصرت: " آثر الحياة الدنيا " عند الراكنين إليها بأنه " متاع الغرور "
قصر موصوف على صفة وطريقه النفي والإثبات.
وترى التئاماً ساحراً بين مطلع الآية وفاصلتها.
* *
2 -
وصف الأعمال المخالفة للتوجيه الإلهى:
من ذلك وصف الغيبة في قوله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) .
فقد شبَّه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتاً. وهذه صورة تعافها النفوس. .
وتنفر عنها الطباع.
قال الزمخشري: " تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من المغتاب على أفظع
وجه وأفحشه. وفيه مبالغات شتى: منها الاستفهام الذي معناه التقرير،
ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة.
ومنها إسناد الفعل إلى " أحدكم " والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها لأنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً.
ومنها أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً ".
وهذه اعتبارات دقيقة لحظها الزمخشري تُسجَّل له.
ولكن جعله الاستفهام للتقرير لا يرتاح إليه الفكر.
والأولى حمل الاستفهام على الإنكار كقوله تعالى:
(أكَفرْتُم بَعْدَ إيمَانكُمْ) . . وذلك لأن الاستفهام التقريرى يكون مدخوله
مثبتاً كقوله تعالى: َ (ألمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ) .
ومدخول الاستفهام في آية الغيبة منفى: فكيف للزمخشري أن يجعل
الاستفهام معه للتقرير؟
ومنها أيضاً قوله تعالى محذراً من نقض الأيمان والعهود:
(وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) .
خاطب الله العرب بما هو مألوف لهم. من ذلك الصورة المشبَّه بها في الآية
الكريمة، و " نقض الغزل " يؤدى إلى إفساده حيث يُراد الانتفاع به، ولا يحب أحد أن يبطل عملاً بدأه أو أكمله خاصة إن كان هذا العمل موضع أمل.
والتي تنقض غزلها خرقاء لا عقل لها ولا رشاد. . هي كمن يحرث في البحر
يكد ويتعب فيما لا يعود عليه بنفع.
والنقض في جميع استعمالاته يدور حول الإفساد والإبطال.
قال الراغب: " النقض انتشار العقد من البناء. والحبل والعقد وهو ضد
الإبرام. ومن نقض الحبل والعقد استعير نقض العهد. . ".
لذلك وقع التحذير بهذه الصورة لتكون أوقع في النفس. وأحرى بالالتزام.
ومنه التحذير من الإنفاق على غير الصفات المطلوبة.
قال سبحانه: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) .
جاءت هذه الآية بعد ثناء على المنفقين في سبيل الله، ولا ينفقون إلا عن
إيمان به ورضا نفس وحب فيه، فكان فيها ترغيب لهم فيما استحقوا
عليه الثناء.
أما هذه الآية فجاءت مُحذرة من مخالفة الأصول الشرعية في الإنفاق.
قال الزمخشري: " وهذا مثل للذى يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغى بها وجه
الله. فإذا كان يوم القيامة وجدها محبَطة فيتحسر حسرة مَن كانت له جنة من
أبهى الجنان وأجمعها للثمار فبلغه الكبَر. وله ذُرية ضعفاء - والجنة معاشهم -
فهلكت بالصاعقة ".
وإذا كانت هذه الآية مسوقة لتنفير الناس من الإنفاق على غير وجه الشرع
فقد حفلت الصورة الأدبية فيها بعبارات أدت المعنى على وجه حكيم.
فالرجل صاحب الجنة المذكورة التي فيها النخيل والأعناب. والأنهار تجرى
من تحتها وله فيها من كل ثمر نصيب، ذلك الرجل قد حلت به الشيخوخة
فأضعفته فهو غير قادر على الكسب مما سواها. وله أولاد ضعاف في حاجة
إلى ثمارها. أصابها إعصار مدمر فيه نار فاحترقت في غمضة عين.
فلو كان هو شاباً لهان الخَطب. ولو كان أولاده أقوياء لهان الخَطب. ولكن
كيف وهو وأولاده بتلك الصفة.
ومما يزيد من الحسرة: أن الواقعة كانت مفاجئة فلم تكن هناك فرصة
للاحتياط، والاحتراق أعقب الإصابة فلم تكن هناك فرصة للإنقاذ.
(فَأصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) وهل تنكير الإعصار والنار إلا
لإرادة التهويل من شأنها.
ومثل هذه الآية التحذير من أكل الربا في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) .
فصورة الإنسان الذي يتخبطه الشيطان من المس صورة بغيضة إلى النفس.
فمَنْ أراد أن يكون كذلك لا يتورع أن يأكل الربا!
وهل يرضى عاقل هذا المصير لنفسه؟
ومنه التحذير من أذى الأبرياء كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) .
* *
3 -
التخويف من أهوال الحشر:
للتشبيه في القرآن الكريم دور هام في الحديث عن يوم القيامة، وحديث
القرآن عن يوم القيامة على أنواع:
أولاً - إمكان وقوعه:
أى أنه ليس كما يقول المنكرون أنه مستحيل الوقوع، وفي هذا الجانب
وردت النصوص الآتية:
قال سبحانه: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) .
وقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) .
وقال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) .
وقال: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) .
وَقال: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) .
وقال: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) .