الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا البحث ليس في تقديم المسند إليه أو المسند، أو متعلقاتهما مما يعنى
به علماء البلاغة. وإنما هو تقديم معنى على معنى بغض النظر عن الألفاظ
الدالة عليه وتحت أي ضابط يقع.
لذلك فهو أقرب إلى طريقة ابن الأثير والعلة أو السر في التقديم هنا - كما
يراه أبو السعود - ليس من الأسرار التي أرجع إليها علماء البلاغه تقديم
ما يُقدم.
وهو ما موفق في هذا التوجيه. ويؤيده من النظم نفسه أن المعنى
الأولى " التحلية " مدلول عليه بالجملة الفعلية. التي تفيد التجدد والحدوث
وطول الكلام في العبارة نفسها.
أما المعنى الثاني: فقد دلَّ عليه بعبارة موجزة قوامها ثلاث كلمات:
" ولباسهم فيها حرير "، كما دَلَّ عليه بالجملة الاسمية التي تفيد الثبوت
والدوام. فكأن الله - سبحانه - في التحلية. أراد أن ينشِئ ويحدث معنى
جديداً فهى إذن تأسيس.
كذلك فقد عمد إلى ما هو حاصل معناه عند السامع " لباسهم " وجعله
موضوعاً لحكم " حرير " فأفاد الخبر بيان النوع وليس المعنى الأصلى الحاصل
على وجه الجملة!؟
فلله دَرُّ أبي السعود فقد كان ملهَماً وهو يقرر هذه الحقيقة.
ومع احترامنا لما يرى أبو السعود يمكن تخريج المسألة على الوجه الآتى:
*
توجيه آخر:
إن التقديم هنا سببه تقديم الأضعف على الأقوى.
وإذا جاز هذا فإن له فى القرآن نظائر وأشباهاً.
يقول الرازى في قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) .
" قدم حق اليتيم والسائل، لأنه غني، وهما محتاجَان.
وتقديم حق المحتاج أولى ".
ولنا أن نقول على طريقته في تقديم اليتيم على السائل: " قدم اليتيم على
السائل. لأن اليتيم أضعف من السائل. إذ هو لا يكون يتيماً إلا دون البلوغ
والرُشد. والسائل قد يكون بالغاً راشداً. فقدم ما هو مظنة الضعف وموضع
الرعاية والعطف على ما هو ليس بهذه الحالة.
ويتأكد المعنى وضوحاً إذا أخذنا بالرأي القائل إن المراد بالسائل هو سائل
العلم لا الطالب الصدقة.
ونظيره ما تقدم عند ابن الصائغ في تقديم الوصية على الدَّيْن.
ولعل من هذا النوع تقديم الإناث على المذكور في معرض الهبات: (يَهَبُ
لِمَن يَشَاءُ إنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكُورَ) .
لأن الأنثى أقل شأناً من الذكر في معرض الهبة. وكان العرب يرون هبتها
عاراً فقدمت الإناث على المذكور تنبيهاً لهم على خطأ تلك النظرة لإفادة أن
الإنثى والذكر سواء كلاهما هبة من الله.
وهذا التوجيه أراه أنسب مما ذهب إليه ابن الأثير آنفاً حيث جعله بلاء.
كما كانوا ينظرون إليه - فقدم ليلائم البلاء.
وقريب منه ما ذكره أبو السعود في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا. .)
حيث قدم حالة القاتلية على المقتولية، للإيذان بعدم الفرق
بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتال بذلاً للنفس.
والداعي إلى هذا التقديم أن الناس كانوا لا يساوون بين أن يَقتل المجاهد
العدو. وبين أن يُقتل هو. فالاستشهاد أعظم صور الجهاد.
فأراد الله أن يبيِّن لهم أن كلا العملين عظيم: القتل للعدو والقتل بيد
العدو.
وعلى هذا فإن القرآن قدم الأضعف على الأقوى إشعاراً بتساويهما فى
الفضل. . هذا على قراءة حفص حيث قدم المبني للمعلوم " فيَقتلون " على
المبني للمجهول " يُقتلون ".
أما على قراءة مَن عكس. فإن أبا السعود يرى تقديم الشهادة: رعاية
لكونها عريقه في الباب. وإيذاناً بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله.
بل بكونه أحب إليهم من السلامة.
*
2 -
تقديم قصة نوح على مصاحبها:
وقال في تقديم قصة نوح عليه السلام على غيره ممن ذكِرَ معه في قوله تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ)
قال: " وفي تقديم قصة نوح على سائر القصص ما لا يخفى وجهه.
وفى إيرادها إثر " قوله تعالى: (وَعَليْهَا وَعَلى الفُلكِ تُحْمَلونَ)
من حُسن الموقع ما لا يوصف.
فالتقديم هنا ذو غرضين:
1 -
مناسبة ما تقدم: حيث تقدم عليها الفلك والحمل عليه.
2 -
الإشارة إلى سبقه في الوجود ففي التعبير تقديم بحسب الترتيب الزمني.