الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
شروط الطباق:
ويضع ابن سنان شرطاً لاستعمال الطباق، لم يخالفه فيه أحد قال:
" وهذا الباب يجرى مجرى المجانس، ولا يستحسن منه إلا ما قَل ووقع غير مقصود ولا متكلف. . فأما إذا كان مَعْنيا الكلمتين غير متناسبيين لا على جهة التضاد ولا التقارب فإن ذلك يقبح ".
فحُسن الطباق إذن يتوقف على ثلاثة أمور:
1 -
عدم الإسراف فيه.
2 -
تناسب المعاني بالتضاد.
3 -
تناسب المعاني بالتقارب.
وكذلك يرى عبد القاهر الجرجاني:
" وأما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع فلا شُبهة أن الحُسن والقبح لا يعترض الكلام بهما إلا من جهة المعاني خاصة، من غير أن يكون في ذلك للألفاظ نصيب، أو يكون لها في التحسين
أو خلاف التحسين تصعيد أو تصويب ".
وعملاً بهذه القواعد حكموا بحسن كثير من النصوص، كما عابوا كثيراً
منها.
*
2 -
التورية:
التورية نمط من التعبير فيه خلابة وله أسر، ومادة " ورى " تدور في اللغة حول الاختفاء والستر.
يقال: واريت كذا - إذا سترته. قال تعالى:
(قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا) .
وتوارى: استقر، قال:(حَتى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ) .
وروى أن النبي عليه السلام كان إذا أراد غزواً أورى بغيره، والورى - قال
الخليل -: " الورى الأنام الذين على وجه الأرض في الوقت، ليس مَن
مضى ولا مَن يتناسل بعدهم فكأنهم الذين يسترون الأرض بأشخاصهم ".
والتورية في اصطلاح البلاغيين عرَّفها ابن أبى الإصبع فقال:
" أن تكون الكلمة تحتمل معنيين، ويستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله "
وقد صرَّح قبل بأنها تسمى التوجيه، وهذا التعريف فيه طول.
وأجود منه ما ذكره الخطيب: " أن يطلق لفظ له معنيان. قريب وبعيد،
ويراد به البعيد منهما ".
وأجود منهما ما نراه في بحوث المحدَثين: " التورية: أن يذكر لفظ له
معنيان: بعيد مراد، وقريب غير مراد ".
والفرق بينها ويين التوجيه أن المعنيين في التوجيه في نحو قول الشاعر فى
أعور: " ليْتَ عَيْنَيهِ سَواء ".
إن تصور المعنيين في التوجيه يأتي بدرجة واحدة لا قُرب ولا بعد في أحدهما.
أما التورية. . فأحد المعنيين قريب، والآخر بعيد. فليسا سواء في التصور،
والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي ظاهرة لأن المعنى القريب غير
المراد، يستر البعيد ويخفيه.
وقد قسَّم الخطيب - وتابعه آخرون - التورية إلى: مجردة ومرشحة.
والمجردة هي التي لا تجامع شيئاً مما يلائم المورى به - يعني المعنى القريب -
الذي يشبه المعنى الحقيقي لتبادره إلى الفهم.
ومثله من القرآن الكريم: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) .
فـ " استوى " له معنيان، قريب هو الاستقرار، وهو غير مراد، ولم يقرن
بما يلائمه.
ومعناه البعيد المراد هو الاستيلاء، والقرينة استحالة الاستقرار الحسي فى
جانب الله.
والمرشحة هي التي قرنت بما يلائم المورى به ومثاله من القرآن الكريم:
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) .
فقد أراد ب " الأيدي " المعنى البعيد الذي هو القدرة، وقد قرن بها ما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة المخصوصة، وهو " بنيناها " لأن البناء يكون باليد، والذي يبدو أن الآية من قبيل الاستعارة التمثيلية وإذ معناها يرجع إليها عند التحقيق.
وعلى القول المشهور بأنها تورية فإن القرينة هي استحالة الجارحة في حق الله
سبحانه.
وللتورية - كما يرى السكاكي - دور كبير في توجيه متشابهات القرآن
كقوله تعالى: (أنِ اصْنَع الفُلكَ بِأعْيُنِنَا) .
وقوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) .
وقوله تعالى: (وَلقَدْ خَلقْنَا الإنسَانَ وَنَعْلمُ مَا تُوَسْوسُ به نَفْسُهُ وَنَحْنُ أقْرَبُ إليْه مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)
وقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) .
فما في هذه الآيات، وما أشبهها، من إثبات العين أو الوجه، أو القُرب
والمكان، كلها محمولة على التورية، بأن يراد من الأعين: الرعاية والحفظ،
ومن الوجه: الذات التي لا يعلمها إلا هو، والقُرب: قُرب العلم لا قُرب المكان والملاصقة.
ومن العندية: العندية المعنوية لا عندية المكان.
وقد ذكر ابن أبى الإصبع ثلاثة مواضع أخرى كانت التورية فيها في معانٍ ليست وصفاً لله، وهى قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام:(إنكَ لفِى ضلَالكَ القدَيِمِ)
لأن الضلال يُحمل على ضد الهدى ويحتمل الحب، فاستعملوه مريدين به ضد الهدى مورين به عن الحب ليعلم أن المراد ما أهملوا، لا استعملوا.
وقوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) . .
فالبدن يُطلق على الجسد، وعلى الدرع، وقد استَعمله بمعنى الجسم وأهمل
معنى الدرع ومراده ما أهمل، لأن نجاة فرعون - أي خروجه من البحر بعد
الغرق - بدرعه، أعجب من خروجه مجرداً،
ثم قال: " ومن التورية اللطيفة قوله تعالى بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود
والنصارى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) .
ولما كان الخطاب لموسى عليه السلام من جانب الطور الغربي توجهت اليهود
إليه وتوجهت النصارى إلى الشرق، وكانت قبلة الإسلام وسطاً بين القبلتين قال سبحانه وتعالى:(وكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خياراً، وظاهر
اللفظ يوهم التوسط مع ما يَعضده من توسط قبْلة المسلمين، صدق على لفظ
" وسط " هنا أن يسمى تعالى به، لاحتماله المعنيين. ولما كان المراد - والله
أعلم - أحد المعنيين الذي هو الخيار دون الآخر، صلحت أن تكون من أمثلة هذا الباب.
وأياً كان. . فإن التورية في القرآن الكريم لها وظيفة هامة. وهي قريبة من
المجاز، بل كثيراً ما يُراد المعنى المجازي فيها كإرادة القُدرة من اليد، وهذا
ظاهرٌ فيها.
وقد سبق عن السكاكي أن متشابهات القرآن من قبيل التورية.
فهى فيه إذن ذات دور هام لم تُجتلب لتأدية معنى إضافى، أو تحسين عرضى، فعدها من البديع فيه تسامح، وأجدر بها أن تلحق بأقسام البيان إنصافاً ووصفاً لكل فن فى موضعه، وإلى هذا ذهب العصام في " الأطول "
حيث قال في تعريفها:
" فالمختصر الواضح أن يقال: هوأن يطلق اللفظ على غير ما وضع له بقرينة
خفية مما يتعلق بإيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوع الدلالة ".
ثم قال: " فهو داخل في أصل البلاغة فكيف عُدَّ من البديع "؟.
*
3 -
المشاكلة:
عرفها الخطيب. وغيره، فقال: " ذكر الشىء بلفظ غيره لوقوعه فى
صحبته، تحقيقاً أو تقديراً ".
ومثَّل لها من القرآن بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) . . فأطلق النفس على ذات الله.
وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيئَةٍ سَيئَة مِثْلهَا) . فسمى الجزاء سيئة.
أما وقوعه تقديراً فقد مثل له بقوله تعالى: (صبْغَة اللهِ وَمَنْ أحْسَنُ
مِنَ اللهِ صِبْغَةً) . . أي تطهير الله.
وفي الواقع فإن أسلوب المشاكلة كثير في القرآن الكريم مثل قوله تعالى:
(فَمَن اعْتَدَى عَليْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَليْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَليْكُمْ) .
وقوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الماكِرِينَ) .
وقوله تعالى: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أُيْدِيهِمْ) .
وقوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) .
وقوله تعالى: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) .
وقوله تعالى: (إن تَسْخَرُواْ مِنا فَإنا نَسْخَرُ مِنكُمْ) .
هذه بعض النصوص التي وردت على أسلوب المشاكلة
من القرآن الكريم وهى ذات ملامح بلاغية آسرة.
ولنأخذ لذلك أمثلة:
فى قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيًئَةٍ سَيًئَةٌ مَثْلهَا) .
على طريق المجاز المرسل الذي علاقته السببية،
لأنه مسبب عن السيئة وهذا تعبير اقتضاه الحال
لأن فاعل السوء قمين بأن يُساء إليه، فإطلاق السيئة على الجزاء أوقع لإقلاعه عن عمل السيئات وألم على نفسه، لأن النفس ترهب أن تُعامَل بالسوء.
وكذلك قوله تعالى: (فَاعْتَدُواْ عَليْه) .
وقوله تعالى: (فَإنا نَسْخَرُ منكُمْ) . . سمى الجزاء كذلك اعتداءً وسخرية
ليكون أوقع في نفس المعتدي فيكَف عن الاعتداء، وفي نفس الساخر ليُقلع
عما هو فيه.
أما في نحو قوله تعالى: (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ) . . أي جازاهم على
مكرهم - فإن العدول إلى لفظ " المكر " في جانب الله لتربية الرهبة في نفوس
الماكرين لأن الويل كله لمن مكر الله عليه.