الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعالى أراد اقتصاص هذه القصة بأوجز لفظ وأبلغه فجاء بها كما ترى مرتبة
الألفاظ والجمل حسبما وقع ".
فمن هذا النص تعلم أن ابن أبى الإصبع قد سلك الآية في موضعها اللائق
بها من البلاغة والإيجاز وحسن النسق.
ويعدها مباشرة يقول: " فإن قيل لفظة: " القوم " زائدة تمنع الآية من أن
توصف بالمساواة لأنها إذا طرحت استقل الكلام بدونها بحيث يقال:
" وقيل بعداً للظالمين ". قلت: لا يستغني الكلام عنها ".
ثم أخذ في بيان أصالة لفظة " القوم " في موضعها هنا فوُفقَ أيما توفيق.
والذي نأخذه عليه اضطرابه في نسبة الآية إلى المساواة مرة، والإيجاز مرة
أخرى، وكونها من الإيجاز أمر لا يحتاج إلى دليل.
ثم أخذ يبرر هذا الخلط والاضطراب فقال:
" واعلم أن البلاغة قسمان - كما قيل - البلاغة إيجاز من غير اختلال وإطناب من غير إملال.
والمساواة معتبرة فى القسمين معاً ".
*
والسؤال الآن:
كيف تكون المساواة معتبرة من قسمى الإيجاز والإطناب. .
وعلى أي أساس يمكن فهم هذا التقسيم وبين الأقسام الثلاثة حواجز وضوابط لا تسمح بالتداخل بينها؟
إن في ما يقول ابن أبى الإصبع خروجاً عن إجماع العلماء.
ثم تورط أكثر وأكثر عندما راح يطبق فكرته الغريبة هذه على نصوص القرآن.
وهذا يظهر مما يأتي:
قال. " فما جاء من قسم الإيجاز وهو موصوف بالمساواة! قوله تعالى:
(وَلكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ) .
فإن معنى هذه الجملة جاء في قوله
تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) .
ثم قال: " لكن الأول إيجاز والثاني إطناب. . وكلاهما موصوف
بالمساواة ".
وفضلاً عن هذا الخلط والاضطراب فإننا نرى في كلامه ضعفاً حيث يرى أن
معنى الآية الثانية متفق مع معنى الآية الأولى - وظاهر أن معنى الآية الأولى
بيان أن " القصاص من القاتل " يُضعف رغبة الناس في الاعتداء بالقتل،
فتحفظ الحياة بصون الدماء.
ومعنى الآية الثانية هو تشريع يبيح لولي القتول المطالبة بالاقتصاص من
القاتل مع الاقتصار في الدعوى على الجرم الحقيقي لا يتعداه إلى سواه.
فهل بعد هذا يقال: إن معنى الآية الأولى جاء في الآية الثانية؟
وعلى أى أساس أيضاً يدعى الاتحاد بين معنى الآيتين؟!
* * *
4 -
الإرداف:
وهو مفرع كذلك عن ائتلاف اللفظ مع المعنى. وعرفوه فقالوا: أن يريد
المتكلم معنى فلا يُعبِّر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ الإشارة الدال على
المعاني الكثيرة. بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى
الخاص قرب الردف من الرديف.
ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: (وَقُضِيَ الأمْرُ) ، وحقيقة
ذلك: وهلك مَن قضى الله بهلاكه. ونجا مَن قضى بنجاته.
وإنما عدل عن هذه الحقيقة إلى لفظ الإرادف لما فيه من الإيجاز والتنبيه على
أن هلاك الهالك ونجاة الناجى كان بأمر آمر مطاع، وقضاء مَن لا يُرد قضاؤه، والأمر يستلزم آمراً وقضاؤه يدل على قُدرة الآمر به، وطاعة الأمور تدل على قدرة الآمر وقهره وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضان على طاعة الآمر ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص ".
ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) .
قال: " فإن هذا الكلام عُدلَ فيه عن المعنى الخاص في موضعين توخياً
للمناسبة والتسجيع لأن المعنى الخاص في الموضعين أن يقال: لأخذناه أخذاً
شديداً وأهلكناه.
لكن هذه العبارة خالية من المناسبة لما تقدَّم هذين الموضعين وما تأخر عنهما.
ولما كانت المناسبة والتسجيع أمراً مطلوباً عدل عن اللفظ
الخاص الذي لا يعطى ذلك إلى لفظ يعطيه مع جزالة فيه ".
وأقول: إن المواضع التي ذكرها شواهد للإرداف لا تخرج عن الاعتبارات
الآتية:
1 -
إيجاز القصر. . وذلك في قوله تعالى: (وَقُضِىَ الأمْرُ) وقد جرى
هذا التعبير مجرى الحكمة لإجازة لفظه ووفرة معناه.
2 -
الكناية عن الصفة. . وذلك في قوله تعالى: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) ،
وقوله تعالى: (ثُمَّ لقَطعْنَا منْهُ الوَتينَ) لأن الأولى كناية عنَ العفة.
والثانية كناية عن الهلاك.
والوتين: نياط القلب إذا قُطِعَ مات صاحبه.