الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
عض الأنامل وعض الأيدي:
وكذلك إذا أجرينا ذلك بين كنايتين متشابهتين. . وليكونا قوله تعالى:
(وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) .
وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) .
كلتا العبارتين تدل على الألم والحسرة فهما - إذن - كنايتان عن صفة وقد
تفاوتتا في تصوير المعنى. لأن عض الأنامل دون عض الأيدي، وذلك التفاوت راجع إلى تفاوت المقامين.
فالمنافقون يتحسرون عندما يرون قوة المسلمين وظفرهم وتتابُع انتصارهم، وهم على ما هم عليه من النفاق لاحول لهم ولا قوة، وهذا خطأ يمكن إصلاحه بأن يؤمنوا ويتبعوا الهدى.
أما الظالم فحسرته أشد وألمه أوقع، لأنه يكون في وقت لم تبق فيه فرصة
لمستتيب ولا نفع لنادم.
ولهذا يمكن فهم المبالغة في الكناية الثانية بالعض على الأيدي دون الأنامل
فكل من العبارتين وقع موقعه من غير ما قصور أو فضول، وهذه سمة أيضاً
من سمات الإعجاز البياني في القرآن.
*
*
منهج فريد:
خامساً: للمجاز في القرآن الكريم منهج لم يُعرف لسواه، فهو فضلاً عما
تقدم - نراه في بعض الصور يعمد إلى وصف له صلة بأمرين، وهذا الوصف من حيث صلته بالأمرين قائم بأحدهما وواقع على الآخر.
وقيامه بأحدهما يكون عن
طريق الحقيقة، ويكون عن طريق المجاز. .
أما وقوعه على الآخر فعلي طريق الحقيقة.
وهذا الوصف - هنا - هو العمى، فالكافر - وهو أحد الأمرين - يوصف به، على طريق المعنى اللغوي بأن يكون أعمى حقيقة، وليس هذا بمراد لنا هنا، ويوصف به على طريق المجاز بأن يشبه جهله بالعمى، وهذا هو المراد لنا، وكثيراً ما شبه القرآن الكافرين بالعمى، واستعار ذلك لهم.
أما الأمر الثاني - الذي له صلة بهذا الوصف من حيث وقوعه عليه - فهو
البينات التي جاء بها الرسل، فهى يُعمى عنها، ولا تعمى هي.
إذا تقرر ذلك. .
فإن في القرآن موضعين وصف فيهما الأمر الثاني بالعمى مجازاً،
أحدهما قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) .
وثانيهما: قوله تعالى: َ (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) .
فقد أسند العمى إلى الأنباء في الأولى على أنها فاعل له، وأوقع عليها فى
الثانية. . وكل هذا إنما هو من قبيل المجاز.
فالأنباء لا تعمى وإنما العمى يحجب رؤيتها عمن قام به، والبينات أو الرحمة
لا تعمى وإنما يعمى عنها ما من شأنه أن يراها،
إذن فلماذا سلك القرآن هذا المسلك؟
إن حقيقة الموضعين أن يقال: خفيت عليكم الأنباء، وخفيت عليكم البينة
أو الرحمة، فلماذا إذن شُبِّه خفاؤهما بالعمى؟
وإنما العمى صفتهم لا صفة الأنباء ولا البيِّنة ولا الرحمة؟