الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
مقارنة بين المنهجين:
عرضنا - في إيجاز - نظريتين في التقديم، إحداهما نظرية البلاغيين،
والثانية نظرية ابن الصائغ. ونخلص الآن إلى الموازنة بينهما.
أولاً - نظرية البلاغيين تشمل كل أنواع الكلام سواء أكان قرآناً أو حديثاً.
أو شعراً، أو نثراً. فهى تنظر في جميع الأساليب بلا خلاف.
أما نظرية ابن الصائغ فإنها خاصة بالتنزيل الحكيم، ولم يُمثل لها من غير
آياته.
وبهذا فإن نظرية البلاغيين أهم وأجدى لشمولها وعدم اختصاصها بنوع معيَّن
من القول.
ثانياً - يؤخذ على ابن الصائغ عدة أمور:
(أ) إهماله أسباباً هامة لم يتعرض لها، وهي التقديم الذي يفيد الاختصاص
وهذه وظيفه هامة جداً خاصة في دراسة التقديم في القرآن الكريم الذي قصر
همه عليه. وهذا قصور ظاهر.
(ب) أنه لم يلتزم الدقة في وضع القواعد، والتمثيل لها. وقد رأينا خلطه
فى التمثيل للنوعين الأولين اللذين هما التبرك والتعظيم.
كما أننا لم نجاره فى ما ذكر من أمثلة عليه باعتبار وجه السر فيها والتمسنا وجهاً آخر للتقديم غير ما ذكره هو.
(ب) ورأينا خطأه حين زعم أن الإنس يُقدم على الجن في القرآن في كل
موضع ذكِر فيه لأن الإنس أشرف من الجن.
وقد أثبتنا اثني عشر موضعاً جاء فيها الجن مقدماً على الإنس على خلاف ما ذكر هو.
كما أننا التمسنا وجهاً للتقديم فيها على غير ما ذهب إليه هو.
ومثل ذلك الخطأ الذي وقع فيه أنه زعم أن السمع يُقدم على البصر في القرآن وأن سر التقديم هو التشريف.
وقد أثبتنا مواضع لم يتنبه إليها هو قُدم فيها البصر على السمع.
وقد خرجنا تلك الأمثلة على غير الوجه الذي ادعاه.
وقد سبقنا أحد الباحثين إلى شيء من ذلك أشرنا إليه في موضعه.
ثالثاً: أنه كما أهمل التقديم المفيد للاختصاص حصر بحثه في نوع معيَّن هو
الأسماء والصفات المرتبطة ارتباطاً عطفياً. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى
تقديم المسند إليه، أو المسند، أو المفعول به، أو متعلقات الفعل مما عنى به
البلاغيون عناية فائقة.
وحتى عندما يذكر مثالاً على ما يراه من قاعدة فإنه يكتفى بعرض المثال دون
تحليل، اللهم إلا فيما ندر كتوجيه تقديم الأنعام على ضمير المخاطبين، وقد
وُفِقَ فيه، وكتوجيه تقديم الوصية على الدَّيْن، وقد وُفِقَ فيه كذلك.
رابعاً: أن نظريته تعتمد على قواعد عامه تفتح باباً من الخلاف معه عند
التطبيق - كما رأينا - أما البلاغيون فقد بنوا نظرتهم على أسس وقواعد فنية
يقل أو ينعدم الخلاف معهم فيها عند التطبيق.
خامساً: أنه بحسب طبيعة منهجه - فاته الكثير من مظاهر التقديم فى
القرآن كتقديم السمع على العلم. وقد خلا منهجه من الإشارة إليه مع كثرة
ما سرد من أمثله في باب التشريف بالذات.
سادساً: ويؤخذ عليهما معاً - البلاغيين وابن الصائغ - أنهم يجعلون مراعاة
الفواصل سبباً في التقديم، وهذا اعتبار لفظي فحسب لا يليق أن نفهم على
أساسه روائع التعبير في القرآن الكريم وحسب ابن الصائغ أنه مجتهد،
والمجتهد لا يخلو من الأجر - إن حسنت النية - أخطأ أو أصاب، ويين الأجرين فرق ما بين الصواب والخطأ.
سابعاً: ويؤخذ على البلاغيين أنهم أهملوا كثيراً من مظاهر الأسلوب فلم
يتعرضوا لها تعرضاً كافياً، ولم يدخل شيء منها في حسابهم.
مثل تقديم الوصية على الدَّيْن لأنه ليس بمسند إليه ولا مسند، ولا مفعول به، ولا ظرفاً. .
ومثل تقديم السمع على البصر - مما عنى به ابن الصائغ - فلكل من النظريتين مزايا وعيوب، ونحن في الكشف عن أسرار التقديم في القرآن الكريم محتاجون إلى النظريتين معاً. وإلى غير هاتين النظريتين، من كل ما يعيننا على فهم التقديم في القرآن الكريم.
هذا ما يمكن أن يقال عن نظريتى البلاغيين، وابن الصائغ.
ولنعرض الآن - فى إيجاز أيضاً - كلا من نظرية ابن الأثير، ونظرية المفسربن في التقديم.
* * *
ثالثاً: منهج ابن الأثير في التقديم
يقسم ابن الأثير التقديم إلى قسمين:
الأول، وسماه: ما يختص بدلالة الألفاظ على المعاني.
ولو أخر المقدم، أو قدم المؤخر لتغير المعنى.
الثاني، وسماه: ما يختص بدرجة التقديم في الذكر. لاختصاصه بما يوجب
له ذلك.
والأول عنده نوعان:
أ - ما يكون التقديم فيه هو الأبلغ، كتقدم المفعول به على الفعل، وتقديم
الخبر على المبتدأ، وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل.
وقد مثل لها بأمثلة مصنوعة، وهذا النوع يفيد عنده الاختصاص مرة، ومراعاة نظم الكلام مرة أخرى. وهو بهذا يرد على الزمخشري والبيانيين، حيث يجعلون التقديم في هذا النوع - بكل صوره، ومعهم الحق - مفيداً للاختصاص:
ومراعاة نظم الكلام عنده أبلغ من الاختصاص وأوكد منه.