الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
من أسرار الحذف
الحذف فن عظيم من فنون القول، ومسلك دقيق في التعبير وتأدية المعاني،
ترى به ترك الترك أفصح من الذكر. والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة. وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتَم بياناً إذا لم تبن.
وقد أشاد البيانيون كثيراً بفن الحذف. وأفصحوا عن ملامحه الجمالية فقعَّدوا
له القواعد ووضعوا الشروط وأظهروا المزايا.
وكان لظاهر الحذف في القرآن الكريم أكبر عون للبلاغيين على تعرف جهاته.
ورصد حالاته وكشف أسراره مقيساً عليه كل فن بليغ وأدب ممتع.
*
شروط الحذف:
كل حذف لا بدَّ فيه من شرط وسبب. .
أما الشرط فقد أجمعوا على أن الحذف لا يُصار إليه إلا إذا بقيت في الكلام
قرينة تدل على المحذوف. حتى لا يصبح البيان ضرباً من التعمية والغموض،
لأن شرط جودة الأسلوب الوضوح وحسن الدلالة.
وهذا الشرط ضرورى لا يُحمد إغفاله، لأن الحذف إذا لم يكن فيه ما يدل على المحذوف - ويعينه أحياناً -
جار على اللفظ والمعنى.
والألفاظ - كما قالوا - أوعية المعاني فلا بدَّ من
ملاحظتها مذكورة أو محذوفة دل عليها دليل (1) .
(1) لا يشترط البلاغيون عند حذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه أن يكون هناك دليل على الحذف لأن الفاعل عمدة لا بدَّ من ملاحظته وإن حذف. ولأنه قد أقيم مكانه عوض، فهم يكتفون فيه بتوفير الداعي إلى الحذف مثل
" قتل الخارجي " لأن الأهم قتله لا مَن قتله: المطول ص 69
وأما السبب فهو الأمر الذي يدعو المتكلم إلى ترجيح الحذف على الذِكر.
أو وجوبه. إذا كان أدل على فخامة المعنى. وسعة تصوره في بعض المواضع.
وفي هذا - أعنى الداعي إلى الحذف - يكمن السر الجمالى في التعبير
لكونه مظهراً من مظاهر مقتضى الحال. والتصرف في إلقاء الكلام. ومظاهر
الحذف في القرآن الكريم كثيرة جداً لكن البلاغيين اتجهت عنايتهم إلى حذف
المفعول به أكثر من غيره. لأن اللطائف فيه أكثر وأعجب.
ويمكن تصنيف الحذف في القرآن الكريم على الوجوه الآتية:
1 -
حدف حرف
2 -
حذف كلمة مفردة.
3 -
حذف جملة.
3-
حذف فقرة كاملة.
وأرى أن دراسة الحذف فيه على هذا المنهج أضبط من المنهج
الذي سار عليه ابن الأثير في " المثل السائر ".
حيث قسَّم الحذف إلى نوعين:
أولهما: حذف الجمل ويقع في أربع أنواع. . وستأتي طريقته.
ثانيتهما: حذف المفردات ويقع في أربعة عشر نوعاً.
وقد أورد في حذف المفردات بعض الحروف، والحرف لا يعد مفرداً.
وكان الأولى أن يبحثه تحت عنوان " حذف الأداة ". .
كما أنه أدخل ما هو أكثر من جملة في حذف الجملة.
وحذف الجملة في حذف المفردات، لذلك آثرت هذه الطريقة إذ يبدو
أنها أكثر ضبطاً.
أولاً - حذف الحرف:
وقد جاء حذف الحرف في القرآن الكريم في مواضع متعددة، ولمعرفة حذفه
فيه - فيما أرى - ضابطان، الأول: دلالة الحرف المحذوف على معنى مع بقاء
هذا المعنى بعد الحذف.
والثاني: اعتبار الحرف محذوفاً بالقياس على موضع
آخر مماثل ورد فيه الحرف دون حذف.
فمن النوع الأول: حذف حرف النداء " الياء " كثيراً في القرآن الكريم حيث لم يأت في القرآن أداة نداء سواه. ولأن العلماء صرحوا على أن أداة النداء إذا حذفت وجب أن يقدر المحذوف ياءً. لأنها أم الباب.
وقد التزم القرآن الكريم حذف أداة النداء " الياء " مع كلمة " رب " خاصة
فى كل موضع وردت فيه على هذا الوجه إلا في موضعين:
الآية (30) من سورة الفرقان. وهي قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) .
والآية (88) من سورة الزخرف، وهي قوله:
(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) .
وقد قصر الدكتور أحمد أحمد بدوي إذ يقول:
" وعلى كثرة ما نودى الرب في القرآن لم أعثر عليه مسبوقاً بحرف النداء إلا
فى تلك الآية الكريمة: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) .
" ويبدو أنه لم يتتبع مواضعها. وإلا لم يقع في هذا القصور حيث صرَّح
بسبقه في آية الزخرف فحسب ".
وقد اهتدى الدكتور بدوي إلى تعليل مقبول لسر حذف أداة النداء " الياء "
مع " رب " إذ يرى أن سر الحذف فيه للمبالغة في تصوير قُرب المنادَى
" رب " حيث إن معناه: المربي والسيد والمالك. وهو بهذه المعاني من شأنه أن يكون قريباً حاضراً لا يحتاج في ندائه إلى وسائط.
* *