الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما آية، المعارج " فإن حمل اليوم فيها على يوم القيامة رأى تؤيده القرائن
ويكفي أن ننظر إلى الآيات التي جاءت آيتنا في سياقها ليتأكد لنا ذلك
التأييد.
قال سبحانه: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) .
فهذه الظواهر لا تكون إلا يوم القيامة. وهذا يُرجح أن يكون المقصود هنا
يوم القيامة. ما لم نعتبر إرجاع الضمائر على العذاب الوارد في قوله تعالى:
(سَألَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِع) لأن كُلا من العذاب، واليوم المذكور فى
قوله: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) . صالح لإرجاع
الضمير عليه في قوله تعالَى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) .
أى يرون العذاب أو اليوم الطويل.
وأياً كان اليوم المذكور في هذه الآيات الثلاث فإن التشبيه قد أفاد طوله غير
المعهود لأنه يوم تحدث فيه من الأعمال أو الأهوال ما لا يحدث مثله إلا فى
الزمن المشبَّه به. والله أعلم.
* *
*
أهوال القيامة:
وتحدث القرآن - كذلك عن طريق التشبيه عن الأهوال الجسام التي تقع يوم
القيامة والظواهر التي ليس للناس بها عهد.
وفى هذا الجانب وردت النصوص الآتية:
(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) .
وقال: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) .
وقال: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) .
وقال: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) .
وقال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) .
فهذه أهوال وظواهر غير معهودة تحدث يوم القيامة ساقها القرآن عن طريق
التشبيه.
ففى آية " الكهف " شبَّه بعثهم وعرضهم على الله بهيئتهم وحالهم عند
النشأة الأولى: (كَمَا خَلقْنَاكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ) ، ووجه الشبه هنا أنهم مجردون
من كل حَول وقوة، لا مال لهم ولا ولد، حفاة عراة إلا مَن اكتسى بلباس
التقوى، ولا يبعد أن يدخل في وجه الشبه اعتبار الجمع كما في قوله تعالى:
(ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) .
والزمخشري يُرجح أن وجه الشبه كونهم حفاة عراة، لا يملكون من حطام
الدنيا شيئاً.
وفى آية " الحج " جاء تمثيلهم بالسكارى. وقد مهَّد لهذا التشبيه بأهوال
تسلم مَن شاهدها إلى ما يشبه السُّكر من الذهول والهذيان وفقد الإدراك.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) .
و (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) كناية عن صفة هي الفزع من شدة
الهول وانشغال كل امَرئ بما كسب: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) .
وآية " المعارج " أبانت الأطوار التي ستئول إليها السماء إذ تكون كالمهل
وهو دردى الزيت كما سبق.
أما الجبال فستكون مثل الصوف المصبوغ التفرق. إذا طيرته الريح.
وجاء تشبيهم في " القمر " بالجراد المنتشر في الكثرة والانتشار، كما جاء
تشبيهم في " القارعة " بالفراش المبثوث، ووجه الشبه الكثرة والضعف
والتموج والاضطراب.
وقال في " المعارج ": (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِراعاً كَأنهُمْ إلى
نُصُبٍ يُوفضُونَ) ، الإيفاض: السرعة. والنُصب، كل ما نُصِبَ وعُبِدَ
من دون اللَه. وهذا التشبيه مقصود به الكافرون.
ففى التشبيه بإيفاضهم إلى النُصب تهكم بهم. وتوبيخ لهم.
كأنهم يسرعون نحو أصنامهم التي كانوا يعبدونها لتنجيهم مما هو واقع.
وجاء في " الرحمن ": (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) .
" وردة ": أي حمراء. و " الدهان ": الزيت.
هذه معان جد رائعة عرفناها في القرآن الكريم عن طريق التشبيه في أسلوب
جزل واضح، والآن ننتقل إلى مجموعة أخرى وهي:
1 -
في مجال القدرة الإلهية:
وفي هذا المجال وردت النصوص الآتية: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) .
شبه الموج بالجبال في الضخامة والامتداد الشامخ.
ومع هذا فإن السفينة - سفينة نوح - ظلت تمخر الماء في سلام.
وتشبيه " الموج " بالجبال ضرورة بيانية لأن المقام يقتضي إبراز نعمة الله وكيف نجى المؤمنين وسط الطوفان وتلاطم الأمواج.
ومن ذلك تشبيه السفن نفسها بالجبال في قوله تعالى: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) .
والوجه - هنا ليس مجرد الضخامة - بل هو ملاحظة الاستقرار مع كونها
تجرى في البحر. لا تضطرب ولا تميد ميداً يؤدى بها إلى الهلاك.
وآثر هنا " الأعلام " مكان " الجبال " لأن العَلم هو الجبل الطويل لا مطلق جبل.
ولا شك أن السفن أضخم وأكثر شموخاً من الموج.
وهذا ملحظ دقيق لاستعمال أحد المترادفين فيما هو به أولى.
لم يُعرف ذلك على دقته وروعته في غير القرآن.
وكما شبَّه الموج بالجبال شبَّه بالظلل. وهي القطع من السحاب فقال:
(وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .
وفي تشبيه الموج بـ " الظلل " التي هي سحاب ملحظ دقيق وجدة ظاهرة،
وليس فيه تشبيه الشيء بنفسه وإن كان كل منهما ماء، لأن وجه الشبه الضخامة.
وأوثر لفظ " الظلل " على " السُحُب " لأنه يشعر بأن الموج ارتفع فوق ظهر
الماء حتى صار له ظل. وهذا أنسب من حيث المقام.
وجاء تشبيه الجبل بالسحابة في قوله تعالى: (وَإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ
كَأنَّهُ ظلة) .
وهذا مثل من قُدرة الله لما صدَّ بنو إسرائيل عن العمل بما شرعه الله لهم قلع
جبل " الطور " ورفعه فوق رءوسهم كأنه سحابة. مظلة وهددهم إذا لم يمتثلوا أمره بأن يسقط عليهم الجبل.
ووجه الشبه الارتفاع والإظلال، والغرض بيان قُدرة الله وتهديد بنى إسرائيل
- ليتعظ مَن عداهم.
وجاء في مبدأ خلق الإنسان قوله تعالى: (خَلقَ الإنسَانَ مِن صَلصَال
كَالفَخَّارِ) .
" الصلصال ": الطين اليابس الذي له صلصة، و " الفخار ": الخزف،
ووجه الشبه الجفاف واليبوسة.
وأصل الصلصلة تردد الصوت من الشيء اليابس، والغرض من هذا
التشبيه تذكير الإنسان بمبدأ خلقه وكيف أن قُدرة الله قد أخرجته من هذا المبدأ
إلى ما هو عليه إنساناً سوياً. وذلك أدعى للشكر. فهو مسوق للتوييخ على
إخلالهم بمواجب شكر النِعَم.
وجاء في تشبيه السرعة: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .
وقد جاء هذا التشبيه في أسلوب قصرى محكم البناء.
ويهدف إلى تحقيق غرضين: السرعة الفائقة. واليُسر.
وقد أوفى التشبيه بالغرضين أيما وفاء. وأين منه قول الشاعر:
ظَللنَا عِنْدَ بَابِ أبِى نَعِيمٍ. . . بِيَوْمٍ مِثْلِ سَالِفَةِ الذُّبابِ
وأين منه قول الآخر:
ويوْم كَظِلِّ الرُمْح قَصَّرَ طولهُ. . . دَمُ الزًقِّ عَنا واصْطِكَاكُ المزاهِرِ
قوة وجزالة في التشبيه القرآني. وعفة ألفاظ. لا نجد لها مماثلاً فيما سواه.
مع أن التشبيه القرآني - هنا - وفي كل موضع مختص، بالتفوق والدقة فى
تصوير المعاني وتقريبها للفهم.
* *
2 -
باقة من زهور:
تقدمت الإشارة إلى هذا في صدر هذا الفصل. ونستعرض فيه أنماطاً من
التشبيه والتمثيل لا تخضع لغرض واحد. وإن أمكن توزيعها على بعض الفروع السابقة.
من ذلك قوله تعالى في تشبيه اليهود: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) .
أراد الله أن يصف اليهود بترك العمل بما علموا. فاختار لهم هذا المثل:
" حمار " يحمل أسفار العلم ونفائس المعارف. فهو يحملها على ظهره
ويصطك بها جنباه ويعانى من تعبها والكد في معاناة السير بها دون أن يعى
شيئاً مما حوته.
فقد نزَّل علمهم بها - أي بالتوراة - منزلة الجهل بما فيها من حيث أنهم لم
يعملوا بمقتضاها. فلم يكن لهم مثل أقرب من مثل الحمار الذي تلك صفته.
فالتركيب ظاهر في جهة المشبَّه به. لأنه ليس المراد تشبيههم بالحمار مجرد
حمار، بل الحمار على الهيئة المخصوصة.
وكذلك المشبه مركب أيضاً. لأن المراد تشبيه اليهود بتلك الهيئة المخصوصة
لامجرد يهود.
والوجه شقاء كل باستصحاب ما يتضمن النفع العظيم.
والفوائد الشريفة من غير أن يحصل على شيء مع معاناة الكد والمتاعب في حمله.
وقد سار هذا التمثيل مثلاً على أفواه المتأدبين والبلغاء.
وقال سبحانه في شأن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) .
قال الزمخشري في توجيه هذا التشبيه:
" شُبهوا في استنادهم - وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير - بـ " الخُشُب المسندة "، ولأن الخُشُب إذا انتُفِعَ به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام غير منتفَع به أُسند إلى الحائط فشُبهوا به في عدم الانتفاع ".