الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
وقفة تأمل:
هذه نصوص برزت فيها التشبيهات السلبية حسبما اتفقنا من قبل على هذه
التسمية.
وما هو حقيق بالملاحظة والتسجيل أن هذا النوع من التشبيه ذو خصائص مميزة يحسن بنا أن ننظر فيها.
أولاً: أنها صيغت على أسلوب التشبيه وليس بين الطرفين أدنى صلة.
والأداة إما مذكورة فيها - وهذا هو الغالب - وإما مقدرة - وهذا قليل - وقد ينصب النفي فيها على فعل فيه معنى التشابه مثل: (هَلْ يَسْتَوى الأعْمَى
والبَصِيرُ أمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُلمَاتُ والنُّورُ) ؟.
ثانياً: أن هذه التشبيهات تكون حين يجرى القرآن الكريم مقارنة بين معنيين
ضدين أو كالضدين. وهذا الأسلوب غير معثور عليه خارج القرآن إلا نادراً.
وهو مع نُدرته ليس على طريقة هذه النصوص القرآنية. لما فيها من جدة
وجزالة. ومن النادر لهم قول داود الأنطاكى:
فَقُلْ لِمَنْ يَرْغَبُ فِى أسْمَرٍ. . . مَا الفضةُ البَيْضَاءُ مثْلُ النحَاسِ
وقال المتنبي: َ
مَا الَّذِي عِنْدَهُ تُدارُ المنَايَا. . . كَالَّذِي عِنْدَهُ تُدارُ الشمُولُ
ومن شواهد النحاة:
تَعَلمْ فَليْسَ المرْءُ يُولدُ عَالِماً. . . وَليْسَ أخُو عِلمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
وأثر الاقتباس من القرآن ظاهر في البيت الأخير.
أما قول الأنطاكي السابق فمعناه: بارد لا عاطفة فيه.
وقريب منه بيت المتنبي.
ثالثاً: أن في كل أسلوب تشبيهى من هذا النوع استفهاماً إنكارياً هو سر
السلب فيه. . . وقد تخلو بعض هذه المواضع من ذلك الاستفهام الإنكارى لفظاً ويستفاد السلب حينئذ من أمر خارج عن الأسلوب ويكون الأمر المفيد للسلب:
إما الشرع وحده كنفي التشبيه بين البيع والربا، أو الشرع والعقل كنفى التشبيه بين من يَخلق ومن لا يَخلق، أو العادة والواقع كنفي التشبيه بين الذكر والأنثى.
رابعاً: إن أداة التشبيه في بعضها قد حُذفِت مع حذف المشبَّه به ولم يبق من
أطراف التشبيه الأربعة إلا المشبه. لأن الوجه - محذوف. كذلك.
وهذا ورد في أربعة مواضع:
موضع في " الرعد " في قوله تعالى:
(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) .
وموضعان في " الزمر " أحدهما: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. .) .
وثانيهما: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) .
والرابع في " فاطر " في قوله تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) .
ومع هذا الحذف لثلاثة من أركان التشبيه. لم يسم الباقى بعد الحذف
استعارة. . والبيانيون يطلقون على ما كان شأنه كذلك: استعارة بالكناية.
لكنهم لم يقولوا هذا فيها، أي في هذه الأساليب، بل أبقوا التعبير على
أصله من التشبيه.
والمانع من جعل هذه الأساليب استعارة مكنية أمران:
أحدهما: أن المحذوف - هنا - منوى التقدير وملاحظ وجوده لقوة الدليل
عليه. ولا بدَّ من تقديره لأنه جواب استفهام مذكور أو مقدَّر. ففى الكلام - إذن - إيجاز بالحذف.
ثانيهما: أن حمله على الاستعارة المكنية غير صالح لأن فيها لا بدَّ من
وجود رمز ينوب مناب المشبَّه به.
وليس في هذه الأساليب وجود لذلك الرمز.
وهذا لون من التشبيه لم نجده إلا في القرآن الكريم.
فهو خاصة من خصائصه لا جدال فيها.
ففى الآية التاسعة من الزمر: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ)
يقول الزمخشري: " من: مبتدأ خبره محذوف. تقديره أفمن هو قانت كغيره.
وإنما حذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: معناه أمنْ هو قانت أفضل أو مَن
هو كافر ".
وقال في الآية الثانية والعشرين منها. وهي: (أفَمن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ
للإسْلَام فَهُوَ عَلى نُورٍ مَن ربهِ فَوَيْلٌ لِلقَاسيَة قُلُوبُهُم) :
" أفمن عرف اللَهَ أنه من أهل اللطف فلطف به حتى شرح صدرَه للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له ".
وقال في آية فاطر وهي: (أفَمَن زُينَ لهُ سُوءُ عَمَلِه فَرَآهُ حَسَناً. .) :
" يعني أفمن زُيَنَ له سوء عمله من الفريقين كمن لم يزيَّن لَه. . ".
وقد حذا أبو السعود والإمام النسفي حذو الزمخشري مع الاختلاف
فى الصياغة بداهة.