الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن الجواز اللغوي لا يفسر لنا السر البلاغي. فتلك قاعدة نحوية عامة
والمقاصد البلاغية اعتبارات خاصة. فما هو السر البلاغي إذن؟
*
وجه لحذف ياء المتكلم مع " رب
":
ولعل السر أن كلمة " رب " لا تحتاج في نسبتها إلى المتكلم إلى تلك
العلامة اللفظية " الياء " فهو رب كل شيء سواء أضيف أو لم يضف.
وقد حرص القرآن الكريم على أن يستعمل هذه الكلمة محذوفاً منها ضمير المتكلم المضاف إليه في أغلب مواضعها.
هذا من حيث المعنى. . ووجه آخر من حيث اللفظ: لما كانت هذه الكلمة
" رب " تستعمل كثيراً في النداء روعي فيها وجه الخفة. بحذف ما تضاف
إليه إلا أن يكون ما تضاف إليه اسماً ظاهراً غير ضمير المتكلم.
فإن الإضافة لا تكمل إلا بذكر المضاف إليه كقوله تعالى:
(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) .
ولأن قوة القرينة مع الإضافة إلى ياء المتكلم ساعدت على أمر الحذف.
بخلاف غيره، ويكثر - كذلك - حذف المضاف إليه في القرآن الكريم.
بعد الظروف والغايات مثل: (للهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمن بَعْدُ) .
وبعد " كل " و" بعض " مثل: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) .
وقوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) .
وكذلك بعد " أي ". مثل قوله تعالى: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) .
وقد يُحذف في غير هذه المواضع كما جاء في بعض القراءات نحو قراءة مَن
قرأ: (فَلَا خَوْفٌ عَليْهمْ) . فيمن ضم ولم يُنون - أي فلا خوف شيء
عليهم، كما قرئ:(سًلَامٌ عَليْكُمْ) - أي سلام الله عليكم.
أو على إضمار " ال ".
وهذه المواضع مما يظهر فيها أمر الحذف والتقدير. وهو فضلاً عن كونه من
التوسع في اللغة فإن فيه فضيلة الإيجاز مع وفاء الدلالة.
* *
6 -
حذف الحال وحذف التمييز:
هاتان فضلتان الأصل فيهما عدم الحذف، لأن الفضلة ضعيفة لا تكاد تتصور
إذا حذفت. لكنا وجدنا في القرآن بعض المواضع التي اعتراهما فيهما الحذف.
لأن الدليل عليهما في تلك المواضع من القوة بحيث أجاز ذلك الحذف.
وقد تحدث ابن هشام في المغني عن حذف الحال، والتمييز.
وذكر بعض مواضع حذف الحال ولكنه لم يمثل لحذف التمييز في القرآن الكريم.
مع أن فى القرآن مواضع جاء فيها التمييز محذوفاً.
فمن أمثلة حذف التمييز في القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن أهل الكهف:
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) .
التمييز في هذه الآية محذوف تقديره: كم يوماً لبثتم؟
ودليل الحذف: كون السائل مستفهماً عن مدة لبثهم نائمين.
وإنما كان التقدير ب " اليوم " دون ظروف الزمان الأخرى لأن السؤال منصب عن مدة النوم. والنومة الواحدة
لا تتجاوز - في العادة - اليوم أو بعضه.
كما جاء التمييز محذوفاً في نفس السورة في قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) . والتقدير: ثلاثة فتيان أو أشخاص، والمعدود
معلوم الحقَيقة والجنس فلذلك سُوغَ حذف تمييزه.
ومثله قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) .
فقد نص المفسرون على أن التمييز محذوف تقديره: قطعة.
والذي دَلَّ على الحذف أن كُلا من " أسباطاً " و " أمماً " لا يجوز إعرابه تمييزاً لـ " اثنتى عشرة " لأمرين:
أولاً: أنهما جمع. وتمييز العدد المذكور لا يكون مفرداً منصوباً.
ثانياً: تأنيث جزئى العدد يدل على أن التمييز مؤنث. إذن فهو محذوف،
فإن كان في حذف التمييز ما يؤدى إلى لبس في المعنى وجب ذكره.
ومثاله من سورة الكهف أيضاً قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) .
" وذلك لأن العدد المذكور لم يدخل في حساب أحد منهم.
وعلمه إنما إلى الله وحده فكان لا بدَّ من ذكره. وكذلك كان.
ثم انظر إلى عَجُز الآية حينما عطف القرآن قوله: (وَازْدَادُوا تِسْعًا)
كيف عاد إلى حذف التمييز عندما سهل تصوره.
فلم يذكر تمييز التسعَ. لماذا؟
لأنه قد عُلِمَ من العطف على ما عُلِمَ تمييزه نصاً.
فكان ذكره شبيهاً بالزيادة التي لم تدع إليها حاجة في البيان.
وهذا فن عظيم من فنون التصرف في القول لم تجده على كماله إلا في القرآن
الكريم لأنه تنزيل حكيم.