الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا السبب الآخر لم يذكره أبو السعود صراحة بل اكتفى بكونه ظاهراً
لا يخفى. . ولا يمكن أن يكون مراده غير ما ذكرناه.
*
3 -
تقديم المحصنات على مصاحبها:
" وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) .
يرى أبو السعود أن في تقديم المحصنات الغافلات على المؤمنات.
وهي ثلاثة أوصاف لموصوف واحد.
إيذاناً بأن المراد الوصف المنبئ عما ذكر من صفتى الإحصان والغفلة.
وليس المراد المعنى المؤسس المصحح لإطلاق الاسم في الجملة
- كما هو المتبادر على تقدير التقديم.
والخلاصة - عنده - أن ترتيب هذه الصفات الثلاث كما جاء في الآية مفيد
بأنهن مؤمنات بكل ما يجب الإيمان به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيماناً
حقيقياً تفصيلياً.
*
رأي لنا في المسألة:
هذا ما ذكره أبو السعود. ويمكن توجيه التقديم على وجه آخر.
وهو أن الكلام مسوق للتشنيع على الرامين، وتفظيع أمرهم بدليل قوله تعالى في عجز الآية:(لعِنُواْ فِى الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَلهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .
وإذا كان الأمر كذلك فإن تقديم " المحصنات " وإليةَ الفعل " يرمون "
وإيقاعه عليها مباشرة يساعد على إبراز ذلك المعنى الذي هو التشنيع على
الرامين وتفظيع حالهم لأن " الإحصان " ينافى مدلول الرمى إذ هو - أى
الإحصان - نص في العفة الثابتة لهن.
ويناسب ذلك عطف " الغافلات " على " المحصنات " إذ المراد من الغفلة
نفى أن يكون لهن أدنى شعور بما يُنسب إليهن لأنهن لم يأتينه من أصله.
وذلك بخلاف ما لو قدم " المؤمنات " لفات ذلك المعنى.
لأن المؤمنة قد تخطئ.
فكأن القرآن يقول: إنهم يرمون مَن شأنه ألا يُرمى لوجوده في الواقع على
خلاف ما يدَّعون.
*
4 -
توسط "الظرف ":
ومن روائع ما ذكره العلامة أبو السعود توجيهه لتوسط بين " لولا " وفعلها
فى قوله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) .
قال أبو السعود: " وتوسيط الظرف بين " لولا " وفعلها لتخصيص
التحضيض بأول زمان سماعهم وقصر التوييخ على تأخير الإتيان بالمحضض عليه إلى ذلك الأوان، والتردد فيه. ليفيد أن عدم الإتيان به رأساً في غاية ما
يكون من القباحة والشناعة ".
وهذا فهم صادق لكلام الله الجزل، نرى فيه أبا السعود لم يكتف بإرجاع
التوسط الظرفى إلى سبب واحد، بل أرجعه إلى ثلاثة أسباب. . وهو صائب الرأي فى هذا وهو ينحو هذا النحى العذب في تحليله البياني لكتاب الله الكريم.
ونختم جولتنا معه بهذا الموضع:
*
5 -
تقديم المجرورات في " الشرح ":
قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) .
يقول أبو السعود: " وزيادة الجار والمجرور مع توسطه بين الفعل ومفعوله،
للإيذان بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه.
مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه، وتشويقاً له إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن ".
ويرى الإمام النيسابورى أن الجار والمجرور مقحم في هذه المواضع وفائدته
الإجمال ثم التفصيل. فهو يتفق مع أبى السعود في تقديره زائداً.
ويختلف معه في التوجيه.
والقول بالزيادة في القرآن أمر ليس مقبولاً عند التحقيق.
فكل ما جاء فى النظم الكريم له معنى دال عليه يزول بزواله.
لذلك فقد تصدى للرد على هذه الفرية - عموماً - عالم ملهم هو المغفور له محمد عبد الله دراز ونفى بالدليل المقنع أن يكون في القرآن زائد.
وفي موضوعنا هذا لم ترض صاحبة التفسير البياني ما قال به أبو السعود والنيسابورى وهي ترى في الجار والمجرور فى المواضع الثلاثة ضرورة بيانية اقتضاها المقام ولكنها لم تبين وجه تلك الضرورة.
وأنا مع الرافضين للقول بالزيادة في القرآن في هذه المواضع، وفي كل موضع
يذهب فيه هذا المذهب.
والذي أراه في الجار والمجرور في المواضع الثلاثة
المذكورة أنها واردة لتأكيد المعنى المفهوم من الجملة.
لذلك حرص القرآن الكريم على أن يذكر في كل موضع من المواضع الثلاثة
الجار والمجرور المناسب للمعنى.
ففى الموضع الأول كان: (ألمْ نَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ) .
فالشرح خير.
فناسبه " لك " وقدم اهتماماً به.
وفي الموضع الثاني كان: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) وقدم: " عنك "
لنفس المعنى الذي قدم من أجله " لك " في الآية السابقة.
وفى الثالث كان: (وَرَفَعْنَا لكَ ذكْرَكَ) فالرفع للذكر خير وشرف ولذلك
عاد " لك " مرة أخرى، لأنه مشعر بالنفع.
فلا زيادة ولا إقحام. . ولو تلا تالٍ هذه الآيات محذوفاً منها الجار والمجرور
لظهر الفرق من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى.
فيما عليه النص الكريم وفيما عليه غيره بعد الحذف.
ويقول أبو السعود في الموضع الثاني: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) وتقديمه
على المفعول الصريح مع أن حقه التأخير عنه. لما مَرَّ مراراً من القصد إلى
تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر، ولما أن في وصفه نوع طول. فتأخير الجار والمجرور عنه مخل لتجاوب أطراف النظم.
ويذهب الشيخ محمد عبده مذهب أبى السعود في توجيهات هذه الآيات
فيقول: " والإتيان بالجار والمجرور - " لك " و " عنك " - وتقديمه على
المفعول في الآيات الثلاث لزيادة التقرير والإسراع بالتبشير ".
*
6 -
سر تقديم المجرورات على " رجال " في آية النور:
ومما يفيد التقديم فيه أكثر من غرض قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) َ.
قال أبو السعود: " رجال ": فاعل " يسبح ". وتأخيره عن الظروف لما مَرَّ
مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
ولأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن النظم ".
وهذا التوجيه على قراءة مَنْ بنى الفعل للفاعل.
وقد فات أبا السعود أن فى الآية ثلاثة ظروف متجاورة لم يشر إلى سر ترتيبها، وهي:" له فيها بالغدو ".
والذي يبدو أمام الباحث أن تقديم " له " على تالييه: " فيها بالغدو " لأن
الضمير المجرور وهو " الهاء " عائد على اسم الجلالة. فقدم إذن تعظيماً له.
أما تقديم " فيها " فلأن الضمير المجرور، عائد على " المساجد " أو " البيوت "
وقد تقدم ذكرها في الكلام فكان تقديمها أولى من تقديم " بالغدو ".
هذه مُثل من تفسير أبى السعود، عالج فيها التقديم بمنهج حر واسع النظرة
وتفسيره حافل بمثل هذه الصور وهو - كما رأينا - مولع بتقصى الأسرار التى يفيدها التقديم فتراه يثبت لك في الموضع الواحد سراً أو سرين أو ثلاثة. وهذه طريقة جديرة بالتقدير لفهم أسرار الكتاب الكريم وفهم مقومات الجمال الفني فيه.
* *
ثانياً: من كشاف الزمخشري
لا فرق بين نظرة الزمخشري ونظرة أبى السعود في التقديم. فهما جميعاً
ينهلان من معين واحد. وأبرز ما يمتاز به منهجهما هو الحرية. وعمق النظرة.
وإن كان العلامة أبو السعود أرسخ قدماً من الزمخشري في هذا المجال.
وقد سبق لنا أن وقفنا على شيء من توجيه الزمخشري للتقديم في قوله تعالى:
(وَلكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) .
ونذكر من كشافه نموذجاً آخر لمعالجته للتقديم في قوله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)