الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لعل الصواب في ذلك مع ابن أبى الإصبع. لأن ما ذكره أبو هلال قد عدَّه
العلماء من فن التوشيح. وعرفوه بـ: " أن يأتي المتكلم، باسم مثنى في حشو العجز ثم يأتي تلوه باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى يكون الأخيرة منهما قافية بيته، أو سجعة كلامه. . ".
والتوشيع معروف أنه أحد فروع الإطناب الذي هو من مباحث المعاني.
وهذا يقوى وجهة نظر ابن أبى الإصبع.
*
*
سبب الخلط:
ولعل السر في هذا الخلط راجع للأسباب الآتية:
1 -
كثرة الكاتبين في الفن البديعي.
2 -
مرونة الفن البديعى نفسه.
3 -
دقة علله وتداخل جهاته.
ولنعرض - الآن - نماذج من صور البديع في القرآن الكريم ثم نعقب ذلك
بفصل نتبين فيه منزلة البديع عامة، وبلاغة البديع في القرآن خاصة.
على أننا في ذكرنا لتلك النماذج سنجعل الأساس في ضبطها ما ذكره
ابن أبى الإصبع في كتابه " بديع القرآن " لأنه حرص على التمثيل لكل فن من
فنونه بنصوص قرآنية.
أما غيره فإن التمثيل بالقرآن ليس بلازم عندهم وهذا
لا يمنع من ذكر آراء الآخرين إذا تطلب ذلك غرض هام.
1 -
الطباق:
لم يعرفه ابن أبى الإصبع بل اكتفى بتقسيمه فقال: " الطباق على ضربين:
حقيقي ومجازي. . وكل من الضربين على قسمين: لفظي ومعنوي، فما كان
بألفاظ الحقيقة أبقوا عليه اسم الطباق. وما كان كله بألفاظ المجاز أو بعضه
سموه تكافؤاً بشرط أن تكون الأضداد لموصوف واحد. فإن كان الضدان
أو الأضداد لموصوفين والألفاظ حقيقية فهو الطباق إن كان الكلام جامعاً بين
ضدين فذين، وإن كانت الأضداد أربعة فصاعداً كان ذلك مقابلة. . فالفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين:
أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا بالجمع بين ضدين فذين فقط، والمقابلة
لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة.
" والوجه الثاني: المقابلة تكون بالأضداد وبغير الأضداد ".
والعلماء - ما عدا قدامة بن جعفر - على أن الطباق هو الجمع بين الشيء
وضده، وابن الأثير يُصوب رأى قدامة هذا،
ويرى أن المعنى اللغوي للكلمة ينصره.
ومثل ابن أبى الإصبع للتكافؤ بقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) .
ومن شواهد التكافؤ قوله تعالى: (أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ) .
أى ضالاً فهديناه. .
وعلى هذا فلا بدَّ أن يكون في الكلام المتضمن التكافؤ استعارة، فإن لم
تكن فيه استعارة فلا تكافؤ.
أما الطباق الحقيقي فهو على ثلاثة أقسام: طباق سلب.
وطباق إيجاب. وطباق ترديد.
ومثل للأول بقوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) .
وقوله عز وجل: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) .
ومثل للثانى بقوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) .
ثم علق على هذه الآيات فقال: " فانظر إلى فضل هذا الطباق، كيف جمع إلى
الطباق البليغ التسجيع الفصيح لمجىء المناسبة التامة بين فواصل الآي ".
قال: ومما جاءت المطابقة فيه على انفرادها من هذا القسم قوله تعالى:
(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) . .
أى ما تنقص وما تزيد.
ومن هذا القسم قوله تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) .
فجمع سبحانه للمؤمنين في هذا الوصف بين الفعل والترك. .
وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي.
والقسم الثالث - طباق الترديد - قسَّمه أيضاً إلى قسمين: طباق سلب،
وطباق إيجاب.
وعرفه فقال: " أن يرد آخر الكلام الطابق على أوله، فإن لم يكن مطابقاً
فهو رد الأعجاز على الصدر ".
ومثل للموجب بقوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) .
وقد جمعت هذه الآية بين المقابلة وبين طباق السلب المعنوي.
فالمقابلة بين الكراهية والحب، والخير والشر، والطباق بين ثبوت العلم لله، ونفيه عن البَشر.
ولم يمثل لطباق الترديد السلبى، وقد صرح بأن للطباق نوعاً غير ما تقدم
يجتمع فيه الطباق والتكافؤ. ومثل له بقوله تعالى:
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) .
فهمود الأرض واهتزازها ضدان، لأن الهمود سكون خاص، والاهتزاز ههنا
حركة خاصة، وهما مجازان، والربو والإنبات ضدان، وهما حقيقتان، فالأول تكافؤ والثاني طباق.
أما أبو هلال فقد ساق للطباق الآيات الآتية:
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) . .
وهو من طباق الترديد الموجب
(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . . أي من الكفر إلى الإيمان
وهو منَ التكافؤ - حسب ما ذكَره ابن أبى الإصبع.
وقوله تعالى: (بَاطِنُهُ فِيهِ الرحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ) . .
وهذه مقابلة بين الباطن والظاهر، والرحمة والعذاب.
وقوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) . .
وقد جمعت هذه الآية العكس والتبديل إلى الطباق،
وقوله تعالى: (لا يَخْلقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ) .
وقوله تعالى: (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) .
وهو من طباق السلب الحقيقي المعنوي.
وقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
ثم ذكر قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) .
فقال: " وقد تنازع الناس هذا المعنى.
قال ابن مطير: " تَضْحَكُ الأرْضُ مِنْ بُكَاءِ السَّمَاءِ ".
وقال آخر: " ضَحِكَ المزْن بِهَا ثُمَّ بَكَى ".
وقال آخر:
فَلهُ ابْتِسَامٌ فِى لوَامِع بَرْقِهِ. . . وَلهُ بُكاً مِنْ وَدْقِهِ المتَسِّربِ
وقال آخر:
لَاتَعْجَبِى يَا سَلمُ مِنْ رَجُلٍ. . . ضَحِكَ المشِيبُ بِرَأسِهِ فَبَكَى
ثم علق عليها فقال: " فلم يقرب أحد لفظ القرآن في اختصاره وصفائه
ورونقه وبهائه وطلاوته ومائه وكذلك جميع ما في القرآن من الطباق ".
وهذه لمحة نقدية بارعة لم نعثر على مثلها عند ابن أبى الإصبع.
وإن كان هو مولعاً بتحليل الأسلوب القرآني.