الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الحجر للفساد
قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحجر على الحر العاقل البالغ السفيه وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا مفسدا يتلف ماله فيما لا غرض له فيه ولا مصلحة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي رحمه الله:
ــ
[البناية]
[باب الحجر للفساد]
[تعريف الحجر للفساد أو السفه]
م: (باب الحجر للفساد) ش: أي لأجل الفساد. ولما فرغ عن الحجر المتفق عليه شرع في بيان الحجر المختلف فيه، والمراد بالفساد السفه، وهو خفه تعتري الإنسان من غضب أو فرح فتحمله على العمل بخلاف موجب الشرع والعقل مع قيام العقل، وقد غلب في عرف الفقهاء على تبذير المال أو إتلافه على خلاف مقتضى العقل والشرع، يقال سفهت الريح الشجر إذا مالت به، ومسائل هذا الباب مبنية على قول الأصحاب، لا على قول أبي حنيفة رحمه الله لأنه لا يرى حجر الفساد والسفه.
م: (قال أبو حنيفة لا يحجر على الحر العاقل البالغ السفيه) ش: أي خفيف العقل، وهو غير المعتوه، فإن المعتوه ناقص العقل. وفي " المبسوط ": من عادة السفيه التبذير والإسراف في النفقة وأن يتصرف تصرفا لا لغرض أو عوض لا يعده العقلاء من أهل الديانة عوضا مثل دفع المال إلى المغنين واللعابين وشراء الحمار الطيارة بثمن غال والغبن في التجارات عند غير محمد.
وقال صاحب " المحيط الكبير ": في طريقة المولى الحجر على الحر العاقل البالغ السفيه المبذر لماله في الخير والشر غير جائز عند أبي حنيفة. قال أبو يوسف ومحمد: يجوز، ثم إنهما اختلفا فيما بينهما في السفيه إذا بلغ محجور أو مطلق، قال محمد يبلغ محجورا ولا يحتاج إلى حجر القاضي. وقال أبو يوسف: يبلغ مطلقا ويحتاج إلى حجر القاضي، فأجمعوا على أنه يمنع عنه المال إلى أن يبلغ خمسا وعشرين سنة، ثم اختلفوا بعد ذلك، قال أبو حنيفة لا يمنع عنه ماله بعد خمس وعشرين سنة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يمنع عنه ما دام السفه قائما.
م: (وتصرفه في ماله جائز وإن كان مبذرا) ش: بتشديد الذال المعجمة، وقاله م:(مفسدا) ش: تفسير لقوله مبذرا م: (يتلف ماله في ما لا غرض له فيه ولا مصلحة) ش: كالإلقاء في البحر أو الإحراق بالنار ونحو ذلك.
م: (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو قول الشافعي رحمه الله) ش: ومالك
يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه حقيقته، ولهذا منع عنه المال. ثم هو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده. ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه مخاطب عاقل، فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد،
ــ
[البناية]
وأحمد رحمهما الله م: (يحجر على السفيه ويمنع من التصرف في ماله) ش: كالبيع والشراء والإجازة ونحوهما مما يحتمل الفسخ، وأما التي لا يحتمله فلا يحجر فيه كالطلاق والعتاق والإقرار بالحدود والقصاص.
م: (لأنه مبذر) ش: أي لأن السفيه مبذر م: (ماله بصرفه لا على الوجه الذي يقتضيه العقل) ش: وكل من هو كذلك م: (فيحجر عليه نظرا له اعتبارا بالصبي) ش: حيث يحجر عليه م: (بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي احتمال التبذير وفي حقه) ش: أي وفي حق السفيه م: (حقيقته) ش: أي حقيقة التبذير م: (ولهذا منع عنه المال) ش: أي ولأجل وجود حقيقة التبذير فيه منع عنه أي عن السفيه المال بالنص بقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5](سورة النساء: الآية 5) .
م: (ثم هو) ش: أي منع المال م: (لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده) ش: بأن يبيع ماله بالغبن الفاحش فيؤدي ذلك إلى إتلاف ماله، قيل: هذا الذي ذكره في الدليل إنما يصح على قولهما، وأما على قول الشافعي، فلا يصح، لأن حجر السفيه عنه بطريق الزجر والعقوبة عليه والفائدة تظهر فيما إذا كان السفيه مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق، فعنده يحجر عليه زجرا وعقوبة ولا يحجر عليه عندهما.
قلت: لا نسلم أن الشافعي يرى ذلك بطريق الزجر والعقوبة فقط، بل يراه بهذه الطريقة وبطريقة ما قالا أيضا، فإن عنده يجوز الحجر بما جاز أو به، وفي الفسخ أيضا وهما لا يريانه بالفسق، فحينئذ ما ذكره من الدليل يصح على قولهما، وعلى قوله أيضا فيما اتفق معهما فيه، فافهم.
م: (ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه) ش: أي أن السفيه م: (مخاطب عاقل) ش: وفي هذا الوصف إشارة إلى أهلية التصرف، لأن التكليف يقتضي التمكن من الاستيفاء جريا على موجب التكليف، والاستيفاء إنما يكون بالوصول إلى الأموال وذلك بالتمليك والتملك وبالعقل يثبت أهلية التمييز والشرع جعل الرشيد بسبيل من التصرفات تمليكا وتملكا لهذا المعنى، وأنه موجود في حق السفيه لأنه مكلف عاقل كالرشيد م:(فلا يحجر عليه اعتبارا بالرشيد) .
وهذا لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير، فلا يحتمل الأعلى لدفع الأدنى، حتى لو كان الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل والمفتي الماجن
ــ
[البناية]
ش: فإن قيل: ينتقض هذا بالعبد فإنه مخاطب عاقل ويحجر عليه.
قلت: إنما قال إنه مخاطب، وهو مطلق، والمطلق يتصرف إلى الكامل، والبعد ليس بكامل في كونه مخاطبا لسقوط الخطابات المالية كالزكاة، وصدقة الفطر، والأضحية والكفارات المالية، وبعض الخطابات الغير مالية كالحج، والجمعة، والعيدين، والشهادات وشطر الحدود وغيرها. ولو قال لأنه مخاطب عاقل حر سقط الاعتراض.
م: (وهذا) ش: أي عدم الحجر م: (لأن في سلب ولايته إهدار آدميته وإلحاقه بالبهائم) ش: باعتبار قوله في التصرفات م: (وهو) ش: أي الحجر عليه م: (أشد ضررا من التبذير فلا يحتمل الأعلى) ش: الذي هو الحجر م: (لدفع الأدنى) ش: الذي هو التبذير م: (حتى لو كان في الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل) ش: وهو الذي يعالج الناس من الكتب من غير مراجعة على المشايخ ولا وقوف على غوامض الكليات، ولا معرفة بطباع الأدوية ولا تشخيص الأمراض العارضة كأبناء هذا الزمان الذين يتولون وظائف الحكمة ورياستها بواسطة المال وإعانة الظلمة.
م: (والمفتي الماجن) ش: وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: والمفتي الجاهل وهما متقاربان، لأن ضررهما عام، وهو من مجن الشيء مجن مجونا إذا صلب وغلظ، وقولهم رجل ماجن كأنه أخذ من غلظ الوجه وقلة الحياء، وليس بعربي محض، قاله ابن دريد.
والمفتي الماجن الذي يعلم الناس الحيل الباطلة، مثل أن يعلم المرأة حتى ترتد فتبين من زوجها، ويعلم الرجل أنه يرتد فتسقط عنه الزكاة ثم يسلم ولا يبالي أن يحرم حلالا أو يحلل حراما يفسد على الناس دينهم، ولقد شاهدت بالديار المصرية طائفة قد تحلوا بحلية الفقهاء واستولوا على مناصب الأجل من العلماء بمخالطتهم الظلمة وأرباب الدولة ومشاركتهم إياهم فيما هم فيه من الفساد، وأعطوا لهم بما يطابق أغراضهم الفاسدة وبما يوافق أهواءهم الكاسدة فضلوا وأضلوا، ولقد قرع سمعي من بعض الثقات أن واحدا منهم قد أفتى لملك لهم كبير بإباحة الإتيان في مماليكه مستدلا بقول الله عز وجل {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] (النساء: الآية 3) ، وآخر قد أباح شرب الخمر بمصر مستدلا بأنها لا تقذف بالزبد وهو شرط في الحرمة. وآخر أفتى بجواز السماع، والرقص، وسماع الملاهي مستدلا بلعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالحراب، والدرق، وبالجاريتين المغنيتين، ونحو ذلك مما ذكر عنهم من الترهات،
والمكاري المفلس جاز فيما يروى عنه، إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى، ولا يصح القياس على منع المال؛ لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة ولا على الصبي؛ لأنه عاجز عن النظر لنفسه وهذا قادر عليه نظرا والشرع مرة بإعطاء آلة القدرة
ــ
[البناية]
والأباطيل أعاذنا الله من شر هؤلاء الذين {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 104](سورة الكهف: الآية 104)، {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] (سورة البقرة: الآية 200) .
م: (والمكاري المفلس) ش: لأنه يتلف أموال الناس، فإنه إن مات حمولته في الطريق وليس له أخرى، والمستكري لا يجد شيئا إلا بالبيع ولا بالإجارة، فيؤدي ذلك إلى إتلاف أموال الناس ولا سيما مكارية الحج بفسادهم ظاهرة للناس فلا يحتاج إلى البيان م:(جاز فيما يروى عنه) ش: أي جاز الحجر فيما يروى عن أبي حنيفة م: (إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى) ش: أي لأن الحجر على هؤلاء دفع الأعلى، أي الضرر الأعلى وهو الضرر العام بالضرر الأدنى، وهو الضرر الذي يلحق المحجور.
م: (ولا يصح القياس على منع المال) ش: هذا جواب عن قولهما، ولهذا منع عنه المال، أي لا يصح قياس جواز الحجر عليه على جواز منع المال منه م:(لأن الحجر أبلغ منه في العقوبة) ش: أي لأن الحجر على السفيه أبلغ من منع المال عنه في العقوبة، يعني منع المال إنما هو بطريق العقوبة عليه ليكون زجرا له على التبذير، والحجر أبلغ فيه في العقوبة فلا يقاس عليه.
قيل: هذا يلزم على الشافعي رحمه الله لأنه يرى الحجر عليه عقوبة، أما عندهما الحجر عليه نظرا له.
وقيل: هذا على طريق بعض مشايخنا حيث قال إنه بطريق العقوبة، وقيل في وجه منع هذا القياس أن منع المال شرع غير معقول المعنى إذ منع الأدنى عن التصرف وهو مالك غير معقول فلا يقاس عليه.
وقيل: إن اليد للآدمي على المال نعمة زائدة وإطلاق اللسان في التصرفات أصل فلا يقاس إبطال أعلى النعمتين على أدناهما.
م: (ولا على الصبي) ش: جواب أيضا عن قولهما اعتبارا بالصبي أن لا يقاس السفيه بالصبي م: (لأنه) ش: أي لأن الصبي م: (عاجز عن النظر لنفسه) ش: فلذلك احتج ضرورة إلى صيرورة الغير وليا والمولى عليه لا يلي التصرف.
م: (وهذا) ش: أي السفيه م: (قادر عليه) ش: أي على النظر لنفسه لكمال عقله م: (نظرا والشرع مرة بإعطاء آلة القدرة) ش: من العقل، والحرية، والبلوغ، وإن كان يعدل عن السنن
والجري على خلافه لسوء اختياره، ومنع المال مفيد لأن غالب السفه في الهبات والتبرعات والصدقات وذلك يقف على اليد.
ــ
[البناية]
بالعقل بهواه م: (والجري على خلافه) ش: أي وجري السفيه على خلاف ذلك م: (لسوء اختياره) ش: لا يعجزه، فكان قياس قادر على عاجز فلا يصح.
م: (ومنع المال مفيد) ش: هذا جواب عن قوله، ثم هؤلاء يفيد الحجر، يعني أن منع المال بدون الحجر مفيد م:(لأن غالب السفه في الهبات والتبرعات والصدقات) ش: دون التجارات م: (وذلك يقف على اليد) ش: أي لا يملك إلا بالقبض، فإذا لم يكن في يده شيء يمتنع عن ذلك، وإن فعل لم يفد.
فإن قلت: قول تعالى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282](البقرة: الآية 282) ، يدل على الحجر، لأنه تعالى جعل السفيه وليا عليه، فإذا كان عليه ولي كان موليا عليه، وكونه موليا عليه دليل أنه محجور عليه.
وروي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، أنه اشترى دارا بأربعين ألف درهم، وطلب علي من عثمان رضي الله عنهما أن يحجر عليه، فشارك الزبير بن العوام، فلما بلغ ذلك عثمان رضي الله عنه قال: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير بن العوام، وإنما علل بهذا؛ لأن الزبير كان مجتهدا في التجارة، فلو كان هذا عيبا لما شاركه الزبير، فطلب علي، وتعليل عثمان، واحتيال عبد الله بهذه الحيلة يدل ذلك على منعهم الحجر على الحر، ولم ينقل عن غيرهم خلافا فكان إجماعا.
وحدث أبو عبيد في غريب الحديث بإسناده إلى عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: ألا إن الأسينع أسينع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال سابق الحاج، أو قال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح قد دين به فمن له عليه دين فليغد بالغداة فلتقسم ماله بينهم بالحصص، فهذا دليل أن عمر رضي الله عنه حجر عليه بسبب الإفلاس وباع ماله من غير رضاه.
قلت: الجواب عن الآية أن الله تعالى جوز المداينة مع السفيه كما جوزه مع المصلح، هذا يدل على أن السفيه لا يوجب الحجر، ويقال إن السفيه هاهنا هو المجنون والصغير وعليه كثير من أهل التأويل وذلك بانعدام العقل أو نقصانه، وكذا يحمل السفيه في قَوْله تَعَالَى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فيسقط به الاحتجاج أيضا في الحجر، والمراد نهي الأزواج عن دفعه المال إلى النساء وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله، ألا ترى أنه قال أموالكم وذلك يتناول المخاطبين بهذا المعنى لا أموال السفهاء.