الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في جنائن الغرب
نار السماء
في الجوّ سحابة مسودة الأطراف، تبهت تارة، وتارة تتقد وهي عابسة للكون كأنها الصيف المحرق. إنها سابحة في الفضاء فتحلو مشاهدتها لرائيها الذي يخال في الوقت نفسه أن ريح الليل الهابة تحمل ضوضاء مدينة بأسرها قد أسكرتها حرارة التقبيل وكثرة الملذات.
أمن السماء اندفعت هذه السحابة أم من البحر صعدت أو لُفظت من الجبال أو هي مركبة الجحيم النارية حاملة شياطين إلى كوكب من الكواكب القاحلة؟
قماء هي الآن ولكن يا للذعر إذ كيف يندفع بين حين وآخر من جوفها غير المدرك لهيب ساطع يتلوى كالثعبان
البحر ثائر وأمواجه مزبدة وهي أمواج عالية لا يدرك البصر طولها والأسماك تسبح في هذه المياه العميقة فتبدو تارة على سطحها كقطع من الفضة وتارة تتوارى في اللجة. وكأن الأفق البعيد ملامس لهذا البحر فتتمازج زرقة السماء بزرقة الماء
رأت السحابة النارية ذلك فثبتت وسألت:
أَأُجفف هذه المياه؟ فأجابها صوت يقول: كلاّ! فاندفعت بقوة زفرة الرب ناشرة الظلمة في الأرجاء
هوذا خليج على ضفتيهِ آكام خضراء قد ضربت عليها خيام
يصدر عنها أغانٍ شجية ينقلها الهواء إلى السماء. وها هم أناس رُحل يصيدون الأسماك والأطيار، وهم عائشون أحراراً موطنهم العالم كله إذا أرادوا ذلك وفراشهم الأرض وغطاؤهم السماء. إنهم قبيلة تلئهة حياتها في الشمس والهواء، وها هم أفرادها بين أطفال وشيوخ ونساء وفتيان وفتيات قد كونوا شبه دائرة وأخذوا يرقصون حول نار مشبوبة يتصاعد لهيبها حيناً أفقياً وحيناً تعبث به الرياح. إنهم مجهولون وقد أسفرت النساء منهم عن أذرع كالأبنوس وصدور كالليل فلاحت النهود السوداء.
تعروا رجالا ونساء فألقوا بأنفسهم للاستحمام معاً الماء فامتزجت أصوات البشر الصادرة من صدورهم بهدير الأمواج. ورددت الريح الهابة صدى صنوج وغناء فتوقفت السحابة النارية في الفضاء فصاح بها صوتُ خفي: إلى الأمام. .
مصر كبساط من سندس زاه منعكسة عليه شمس كالذهب الأصفر وكل ما فيها وديان. يغازلها في الشمال بحر بارد وفي الجنوب رمل محرق وهي ضاحكة بينهما ضحك السعادة والاطمئنان.
هناك ثلاثة شواهق مثلثة الزوايا أقامها الإنسان وهي تدهش البصر، وقد مزقت رؤوسها الجو، وتجمعت حول قواعدها الرمال وإلى جانبها إله من الحجر الوردي اللون قد آل على نفسه حراستها لئلا تهب ريح سموم كاللهب فتضطرها إلى أحناء الرؤوس. وهناك مسلات منصوبة ونيل هادئ منساب تحركه نسمات تدفع الزوارق نحو مدينة تلامس منازلها الماء
سلطانة الكواكب متهادية نحو الغرب، خالعة على المدينة ثوباً من الورد، وقد داعب النسيم الماء العذي فطرقت مسامع مصر تنفسات عشيقها النيل الذي جعل يرنو بعينه الدامية إليها وهي منارة الأمصار. هوذا سلطان منير قد طلع يتهادى في فضاء فسيح صافٍ لا تشوبه سحابة وأخذ يتبع آثار مصدر نوره كما يتبع العشيق خطوات معشوقته مستعداً منها سعادة تدوم ما دام لم يكن هناك احتكاك.
سألت السحابة قائلة: أين أقف؟ فأجابها صوت اهتزت له الأرض: ابحثي.
الأرض كجمرة تتأجج ولا تشاهد العين سوى رمال يذرها هواء ملتهب وهي رمال تبدو حيناً شامخة كالجبال وتظهر حيناً منبسطة كالسهول فنحن أذن في الصحراء التي تجتازها قوافل الجمال ولا يعرف منعزلاتها الندية سوى الله. وهي صحراء كبحر يتصاعد الدخان منه وزبد أمواجه تراب من النار. فسألت السحابة أأحول هذه الأتون المترامي الأطراف إلى بحيرة تخترقها الأفلاك؟
فأجابها صوت من السماء:
إلى الأمام! إلى الأمام!
هذه بابل ذات القلاع المتهدمة، بل هذه هي المدينة العظيمة التي انبثقت منها مفاخر الفتوحات ولكنها خرب وانهارت فارتسمت أظلال الأطلال ذات المنظر المؤثر على أربعة جبال تحيط بها أحاطة السوار. بل هذه هي الدائرة التي أقيمت فيها سلم يرقى بها إلى السماء. ولكن السلم
حطمت فأصبح لا يسمع في تلك الأطلال سوى فحيح الأفاعي وزئير ملوك الغابات، ولا يرى حولها غير النخيل المحلقة في جوانبه العقبان.
فسألت السحابة: أأجهز على هذه البقايا؟. . فأجابها الصوت السماوي: إلى الأمام! إلى الأمام!.
فاندلع منها لسان ناري كان لاندلاعه دويُّ كقصف الرعود وقالت: إلى أين المساق؟.
هاهما مدينتان تناطح قصورهما الجو ويتخلل طرقها وساحاتها الحدائق فتعبث النسمات بأزهارها ورياحينها فيمتزج شذاها العطر بزفرات دنسة صادرة عن أجسام وطئ ذووها الفضيلة بقدم الرذيلة فقتلوها في نفوسهم قتلاً فاستسهلوا تضحية الطهارة للعار والعفاف للشهوات، فباتوا عرايا تحت تأثير هزات الحب، سكارى بخمرة الوصل، فيا أيتها المدينتان الجهنميتان المندفعتان في لجج الأهواء، الخالعتان عنهما أكليل الكمال، الدائبتان في إيجاد سافل المسرات إنكما وصمة المدن ومصدر دنس للأمم جمعاء.
ها نجمة الصبح قد أشرقت متلألئة في سماء مكفهرة الأفق، والمدينتان في سبات، إذ قد انقطعت ضوضاء القبلات وهمدت النفوس وانعكست أشعة القمر على أجسام منطرحة على الثرى وهي جامدة كالجثث لما حل بها من العياء، فأخذ الهواء من جوانب سادوم متجهاً نحو عاموره وللحين حجبت السحابة السوداء السماء، فقال لها القائل العلوي بصوت يصم الآذان. هنا! فانفجرت السحابة انفجاراً ذا دوي هائل، واندلعت
السنة النار اندلاعاً، وهوت على قصور تناطح السماء، فتحولت المدينتان إلى أتون متسعر ذي لهب قاتم يزعج النفوس واستفاق الأهلون الذين لم يفكروا هنيهة في الله، وأصوات الدماء توجف القلوب وانهيار الجدران يروّع الأسماع، فاندفعوا في الطرق المتقدة والذعر آخذ منهم كل مأخذ، فصارت الأجسام إلى بقايا سوداء.
هوذا الملك يشرف من قصره والكاهن من معبده والرجل والمرأة من مخدع غرامهما الدنس، ولكن كيف السبيل إلى الفرار والنار المضطرمة تلتهم وتدمر. فقل أذن أن الجحيم قد انفتح لابتلاع الأرض وما عليها من مبان وإناس.
لم تبق النار على شيء
وعبثأً حاولوا استمداد الآلهة فإن يد الله قد ضربت فسحقت الإنسان مع الصخر، ولا شت العشب وجففت الماء، وحولت عواصف تلك الليلة الرهيبة رواسي الجبال من حال إلى حال
هناك سواد منتشر في الأرض وفي السماء
هناك الآن صخور قاحلة جرداء لا يكاد ينبت فيها عشب حتى يصفر ويذبل ويموت، فإن الهواء الذي يهب في تلك الأرجاء يلهب ويحرق.
لم يبق للمدينتين من أثر. ولم يدع الماضي لعبرة الحاضر والمستقبل سوى بحيرة مرة تغلي كمرجل لذكرى نار السماء
تعريب حنا صاوه
فيكتور هوجو