الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدميّ. وأحرقتني حرّ الهجيرة واستنزف ينبوع الحياة فيَّ. لم تعد ترطب زهرتي بماء الإيمان والرجاء فذبلت زهوري وتساقطت على الأرض ذاوية فنثرها الهواء في كل الأنحاء. . . كل هذا وأنت لا ترحم ولا تشفق. أما الآن فها قد جمد الدم في عروقي وعلا جبهتي اصفرار الموت فأتيت أودعك الوداع الأبدي الأخير. . . .!.
فصرخت صرخة اليأس:
لا. لا تموتين بل تعيشين فلم تنبس ببنت شفة، فأردفت قائلاً: ومن تكونين أيتها المخلوقة العجيبة. . .؟.
فقالت:
يا أخي أنا لست الآن شيئاً. . . لكنني كنت زهرة شبابك.
قالت وتوارت عني في غيوم السماء فمددت يدي فلم أقبض إلا على زهور سقطت من إكليلها الوردي فأخذتها فإذا هي ذابلة لا أثر فيها لطيبها السابق ولنضارتها السالفة. فذرفت دموع الندامة وهتفت: ربي اقبل توبتي وامح خطيئتي واغسل ذنوبي يا أرحم الراحمين. . . .
إلى السراية الصفراء
تدل الإحصاءات الأخيرة في كل مملكة من العالم المعروف على أن عدد المجانين يزداد يوماً عن يوم وهي نظرية تخالف المألوف فإن العالم كما نعتقد في تقدم إلى الأمام نحو المدنية والرقي العقلي ولا أدري ما
معنى هذا التقدم إلى الرقي العقلي مع ازدياد عدد المجانين!! مسألة فيها نظر.
محسوس بل وملموس باليد تقدم الصناعة ومشاهد بالعين تفوّق المكتشفين والمخترعين عن أسلافهم إذ لا أظن أن ابن آدم سبق فاخترع المنطاد أو اكتشف الكهرباء في حقب الزمان العابر أو عثر على مجاهل الأرض أو اخترق اللحم بأشعة فنظر العظم أو استأصل المعدة وعمل جهازاً لحياة صاحبها فعاش بدونها أو تطرف في الأبحاث الكهربائية فكلم أخاه على بعد شاسع بلا واسطة أو استخدمها لنقل صورة المتكلم في ثوانٍ لتظهر أمام المخاطب.
مع الاعتراف بكل ذلك لا أدري معنى لهذا التقدم مع ازدياد عدد المجانين إلا إذا كان ازدياد عددهم يعد تقدماً للجنون!! أو أن أكون أنا مجنوناً هربت من السراية الصفراء ولا عجب فكم بين غير المحبوسين بها من هم أجدر وأولى بدخولهم فيها مصفدين بالحديد مقيدين بالأغلال.
روى لي أحد الثقاة أن رجلاً كان يدعى علي كجك من نسل الأتراك الذين تمصروا يسكن حياً بالقاهرة من الأحياء الوطنية خرج يوم جمعة للصلاة بالمسجد فلقيُه رهط ممن لا خلاق لهم - وكثيرٌ ما هم - فابتدروه بقولهم علي كشكش ومازالوا به حتى خلص منهم بدخوله إلى المسجد. حبس نفسهُ في بيته شهرين وظن بعد ذلك أن الرهط انقشع أو نسيهُ فخرج في يوم جمعة إلى المسجد ولكن القوم قابلوه بمثل ما فعلوا وزادوا على ذلك قولهم حرامي المشمش ومازالوا به حتى جنّ
الرجل فتناول حجراً وضرب به أحدهم فشج رأسه فاستاقوه إلى المخفر ومنه إلى المحكمة حيث كان المرحوم الشيخ محمد عبده على كرسي القضاء الأهلي ولما سأله القاضي عن جرمه اعترف ولم يجحده ولكنه قال إنه فعل ذلك عن سبب فسأله القاضي عن السبب فقال صلّ على النبي فأجابه الإمام فكرر الرجل طلب الصلاة على النبي مراراً والإمام يجيبهُ إلى أن ملَّ القاضي من هذه المطاولة فقال ألا تقص السبب؟ فقال المجرم إذا كنت وأنت الإمام المعروف مللتَ الصلاة على النبي أفلا أملّ أنا من صياح هؤلاء خلفي بما أكره؟
هذا هو أحد المجانين جن من الناس وراح فريسة أخيه الإنسان لا ذنباً جنى ولا جرماً ارتكب ولا حشيشاً تعاطى ولا شأواً قصده فلم يدركه فكأنما كلما تقدم الإنسان تأخر وكلما داوينا جرحاً سال جرح.
دخلت طور الكهولة وعركت شطراً طويلاً من الدهر وعاشرت الناس أجناساً متعددة بأخلاق متباينة - عاشرتهم حسب أخلاقهم وإني أقسم بمن يرحم روح المسكين حرامي المشمش إني عييت عن درس طباعهم ومعرفة طلباتهم.
يعضك أحدهم بنيابه ويجبهك لأنك لا تصلي ويقول لمن حوله أبيبه فإن صلاة العشاء قد وجبت!!!
يذكر أحدهم أخاه الإنسان في غيبته ذكراً مؤلماً حتى ليكاد يبكي من حدته وحتى تظن أنه إذا قابله قتله، وقبل أن يتم اغتيابه يحضر ذلك المذكور بالسوء فيقفز المغتاب دون الجماعة للقياه ويأخذه ملء حضنه
ويقبله عشراً ويجامله ويفسح له مكاناً بجانبه ويشرب نخبه!!!
يسمع الجالسون ذلك ويرونه ولا يجرأ أحدهم على صفه المغتاب الأثيم بل يسكت وهو بسكوته يساعد على انتشار الرذيلة.
يأخذك أحدهم على معزل ويقول لك أنه يريد أن يكلمك في أمر ذي شأن ولكنه سريّ جداً ويهمك الاطلاع عليه حتى إذا ما شوّقك إلى سماعه استحلفك بالطلاق أن لا تبوح به لأحد فإذا فعلت وحلفت قال لك أن فلاناً قال عنك كذا وكذا وكذا فتصبح في حيرة لا أنت بالقادر على مناقشة المغتاب الحساب لأنك مقيد بالحلف ولا أنت بالقادر على كظم غيظك فتبتلى بمرض في فكرك فتجن فتساق إلى السراية الصفراء ولا ادري على من يكون الذنب في جنونك - أعلى المغتاب أم الجالسين معه الذي تجردوا من الشجاعة الأدبية أم ذلك الذي بلّغَك فكسر قلبك.
تضيق نفسك ليلة فتذهب إلى محل التمثيل عسى أن يذهب بهمك فتجد المكان غاصاً بجمهور المتفرجين فينشرح صدرك وتظن أننا عرفنا أين نقضي سهراتنا حتى إذا بدأ التمثيل ووصل الممثل إلى قطعة محزنة مثل موت رومية على قبر حبيبته جولييت ثم موت جولييت ظهرت لك أخلاق القوم بكل مظهرها إذ ترى الجمع وقد اختبط - تسمع تصفيقاً حاداً وطلب استعادة تلك القطعة المحزنة ليس لأن الممثل أو الممثلة أجاد أو
أحسنت بل لظنهم أن تلك التأوهات التي مثلتها الممثلة أحسن تمثيل إنما هي خلاعة منها - ذلك لأنهم لم يفقهوا معنى لما سمعوا -
ترى ذلك وتسمعهُ فتذهب إلى بيتك محموماً بحمى دماغية فتجن فتؤخذ إلى السراية الصفراء.
تجول بطرفك بين من حولك فتجد شباكاً منصوبة للكيد بك خيوطها بأيدي من أحسنت إليهم فتصرف وقتك في التفكير فيما عساه أن يكون سبباً لانقلاب ذلك الإحسان إلى هذه الإساءة فلا تجد سبيلاً لحل المعضلة فيختلط عليك الأمر فتجن فتؤخذ إلى السراية الصفراء.
تسمع السارق يفتخر أمام الجمهور بسرقته والزاني يحدث الناس بحوادث فحشه وفجر العاهرات معه والسكير يزهو على الحضور بنموذج عربدته والكاذب يضحِك من حوله بنكات كذبه - فإذا ما وجهت بلومك إلى أحدهم هبَّ الجمع المحتشد حولهم ورموك بالغلظة وسوء الخلق ونسبوا أولئك المجرمين لخفة الروح والدم. فكأنما الناس قد أجمعوا أمرهم على استحسان المنكر فإذا كنت حراً يجري في عروقك دم أحمر جننت فتؤخذ إلى السراية الصفراء.
أحبس نفسك في بيتك بين أولادك أو كتبك وإذا مررت بقوم فمرّ بهم مر الكرام ولا تختلط بهم تعش سعيداً، أو فجهز وصيتك إذا أردت الاختلاط بالناس لأنك ستجن حتماً وتساق إلى السراية الصفراء.
عطبره (السودان)
محمد فاضل