الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواية الشهر
مغارة العظام
1
أمسيكم بالخير يا جدعان
أسعد الله مساك يا سليم! أهلاً وسهلاً
كل عام وأنتم بخير
وأنت بألف خير. يا مرحباً بك. تفضل واجلس
وكان الداخل - سليم - فتى في مقتبل الشباب، تبدو على وجهه سمات السذاجة والقناعة، وهو لابس عباءةً قد التفع بها على زي القرويين في لبنان، متلثم بكوفية ترد عنه هجمات البرد وتكسب هيئته شيئاً من الشجاعة والإقدام. وعند دخوله انتصب الجميع واقفين ووضع كل يده اليمنى على صدره حسب العادة إجابةً للتحية. فجلس سليم القرفصاء في حلقة الإخوان والأصحاب، وهو يردد: تفضلوا، ربنا يحفظكم. . .
وكان قد جاء لقضاء السهرة مع زمرة من عشرائه في بيت أحدهم، وكانت الليلة ليلة رأس السنة. وقد جرت العادة في مثل هذه الفرصة أن يجتمعوا فيتداولوا الأحاديث المتنوعة والأخبار والنوادر. وكثيراً ما خالط أصواتهم رنة الأقداح، وطيبت أرواحهم بنت الراح.
فلما اجتمع شملهم في تلك السهرة خاضوا كل المواضيع. فتكلموا عن العام الجديد والأحوال الحاضرة، وعن المزروعات وبشائر الموسم، وعن العادات والتقاليد فأدى بهم الحديث بالطبع إلى ذكر الأيام الغابرة والأسف عليها والحنين
إليها. فقال: العم أبو حبيب وكان أكبر الجميع سناً.
لا يذهب يومُ ويأتي مثله. سقى الله أيام أجدادنا فإنها كانت أيام خير ومروه وشهامة.
وهكذا أخذوا يثنون على العصور الماضية وطفق كل يسرد ما رواه له أبوه وأجده عن أمور شتى ونوادر متنوعة وخصوصاً ما يتعلق بالبسالة والبأس وقوة الجنان. هذا وسليم صامت لا ينطق بحلوة ولا مرة. على أنه كان يتأفف في قلبه من الحط من شأن رجال اليوم وإقدامهم. فاعترضهم أخيراً قائلاً:
بارك الله في همم الرجال: لا تظنوا أن النخوة قد تلاشت أو أن الشجاعة قد فقدت من
صدورنا. وما أيامنا إلا كأيام من تقدمنا. وفي كل عصرٍ رجالٌ لا يهابون الموت إذا تمثل لهم، وآخرون يخشون ظلهم إذا انعكس في ضوء القمر.
فاشتد حينذاك الجدال وأدى إلى التحزب للماضي أو الانتصار للحاضر. وجاء في عرض الكلام ذكر مغارة العظام وخوف الناس من المرور بجانبها، فقال أحد الحاضرين لسليم:
إذا كنت يا صاحبي كما تدعي لا تقل شجاعةً وبأساً عن أبائك وأجدادك. هل لك أن تقصد مغارة العظام في مثل هذه الساعة فتدق فيها وتداً؟
أدق وتداً وآتيكم بجمجمة. . . قال سليم ذلك ببعض البساطة الدالة على ثبات جنانه.
فوقع كلامه على الحاضرين موقع الدهشة. لأن المكان المذكور كان قفراً، قد انتصبت فيه صخور جرداء، لا نبات هناك ولا أثر للحياة، وكان في منعطف ذلك الموضع مغارة واسعة ألقيت فيها من أمدٍ مديد عظام وجماجم كثيرة فأكسبتها اسمها ومغارة العظام وكان ذلك القفر مخيفاً رهيباً. وإذا اضطر بعض القرويين للمرور به نهاراً يسير وجلا مذعوراً ويهرول دون أن يحول نظره إلى تلك المغارة المشؤمة
وهو يكثر من ذكر اسم الله العظيم مستعيذاً به من شر الأبالسة والجن. أما في الليل فما كنت تجد من يتجرأ على المرور من هناك ولو ملكته كل أملاك القرية لأن السكان كانوا يزعمون أن أرواح الموتى تطوف ليلاً في ذلك المكان، فيا ويل من يراها أو تراه.
ولذلك أحدث جواب سليم دهشة في الحاضرين، فنسبوا كلامه في بداية الأمر إلى المزاج أو الإدعاء. لكنه اتبع القول بالفعل وقام للحال فالتفع بعباءته وتلثم بكوفيته وقال: على الله الاتكال وخرج والجميع في حيرة من أمره.
2
في بيت منفرد عن بيوت القرية فتاة يتيمة اسمها تعيش وحدها مع جدتها العجوز وتكتسب قوتهما بعرق جبينها من غزل القطن وتسليك الحرير.
وكانت الفضائل قد زينت روحها كما أن الطبيعة قد زانتها بالجمال واللطف المقرون بالشجاعة وليس ذلك بالشيء النادر بين القرويات.
وكان قد خطبها شاب يتيم مثلها ومكمل الصفات مثلها وهو صاحبنا سليم الذي عرفناه في مطلع هذه الرواية فأقسمت له أن تحفظ عهده وتصون وده، وعاهدها هو على مثل ذلك.
فكان الحب بينهما متبادلاً.
وكان إبراهيم عبد الله أحد الشبان المعروفين بسوء الأخلاق ولؤم الطباع قد فتن بهوى سلمى وأخذ يزاحم سليماً في حبها. ولكنها لم تكن تلتفت إليه. وكثيراً ما حاول أن يستميلها تارةً بالوعد وطوراً بالوعيد فلم تكن ألا لتزيد نفوراً منه. وقد علم خطيبها سليم بواقع الأمر فلم يكترث له لأنه كان واثقاً بمقدرته وفضله على إبراهيم ومكانته من قلب خطيبته. سيما وأنه يعرف في قرنه الوهن والجبانة فكان يعرض عنه ازدراء أو شفقة.
وقد جاء سليم في أول تلك السهرة ليلة رأس السنة فزار خطيبته. وقدم
لها ولجدتها الهدايا البسيطة في ذاتها العظيمة بما قارنها من عواطف حبه. واتفق أن دعيت الجدة ليلتئذٍ إلى بيت كانت صاحبته مشرفة على الولادة، فلبت الدعوة عملاً بالواجب المرعية حرمته بين القرويين، وإذ ذاك لم يسع الشاب إلا الرحيل أدباً ولياقة، فسار قاصداً حلقة الأصحاب للسمر معهم فكان من أمره معهم ما عرفناه.
وبقيت سلمى وحدها تتسلى بذكر خطيبها، وإذا بالباب قد فتح فجأة ودخل إبراهيم عبد الله وهو في منتهى التهيج. فإنه كان يترقب فرصة يخلو له فيها الجو. فطال انتظاره حتى عيل صبره وكاد يقطع الأمل لو لم تواطئه الأيام وتمهد له السبيل في هذه الليلة. ولما دخل صاح بالفتاة والآن. . . . وهجم عليها. ففرت من وجهه ولجأت إلى زاوية البيت فتبعها. ولما ضاق بها المكان ولم تجد لنفسها مناصاً رجعت إليه لتدفعه، فوقع نظرها على خنجر في منطقة، فانتشلته بأسرع من لمع البرق وصاحت إليك عني وإلا قتلتك وكان التهيج والغضب قد أخذا منه مأخذهما حتى كاد يفقد رشده، فهجم عليها. ولكنها قابلته بطعنة خرقت أحشاءه. فوقع على الأرض صريعاً يتخبط بدمه ولم يلبث أن فاضت روحه الخبيثة.
وحينئذٍ اضطربت الفتاة واستولى عليها الذعر من هول هذا المشهد ونظرت إلى السماء نظر الخائف المستغفر ولسان حالها يقول: يا إلهي أنت الشاهد على غدره، لم يكن لي وسيلة أخرى لصيانة شرفي. أنا برئية يا إلهي.
ولكن إذا كانت بريئة في عين الله فكيف يعلم البشر براءتها وكيف يصدقون كلامها؟ وماذا عسى أن يكون من أمرها وكيف العمل للخروج من هذا المأزق الحرج. . . لم تجد سبيلاً إلا مواراة الجثة وكتمان الأمر خشية الفضيحة والهوان، ولكن ما الحيلة ومن يكون
نصيرها وسليم غائب، وجدتها بعيدة عنها، وكيف الوصول إليهما دون أن تتنبه الظنون.
دارت كل هذه الأمور في رأس الفتاة واستولت الحمى على دماغها المضطرب
فلم تر إلا أن تستجمع قواها وتتكل على شجاعتها فتقوم وحدها بستر أمرها. فعمدت إلى الجثة ووضعتها في كيس وحملتها على ظهرها وقد ضاعف الرعب قواها وسارت قاصدة مغارة العظام لتواريها هناك.
3
وصلت المغارة وقد أنهكها التعب فتقدمت وهي ترتعد خوفاً ورعباً، وكان لأقدامها وقع مروع يرن في أذنيها كصوت قضاء رهيب. وقد حجبت الغيوم المتلبدة في كبد السماء وجه القمر الساري فساد على تلك الأطلال ظلامٌ مدلهم ترتعش من هوله الأبدان. تقدمت الفتاة وهي تعثر تارةً بجمجمة وتارة ببعض العظام المتراكمة فيزداد اضطرابها ورعبها. ولما وصلت إلى الداخل أخذت تعمل على مواراة الجثة تحت كومة من العظام إذ طرق مسامعها وقع أقدام على باب المغارة.
فانتفضت مذعورة وقد أخذتها القشعريرة. فحولت نظرها إلى الخارج فتراءى لها خيال قائم أمامها يتقدم ببطء وهدوء ورأت نفسها وحدها في هذا المكان المخيف، ولا مجير ولا معين، فافتكرت: آه لو كنت هنا يا سليم ورأيت في أي حال أصبحت تلك التي قادها حبك والاحتفاظ بعهدك إلى هذا المكان في مثل هذه الساعة.
ثم ما لبثت أن عاد إليها الجلد بعد أن استعانت بالله، فعمدت إلى العظام والجماجم المحيطة بها وأخذت تقلبها بعضها على بعض، فأحدثت قرقعة مخيفة رددتها جدران المغارة، وتواتر بها رجع الصدى. وكانت سلمى ترمي من وراء ذلك إخافة الطارق في مثل هذه الساعة. فلم يخطئ ظنها لأن الخيال وقف برهة كمن داخله الخوف. لكنه عاد فأخذ يتقدم إلى الأمام شيئاً فشيئاً، وسلمى واجفة لكنها تزيد في قرقعة العظام.
4
ولم يكن الداخل إلا سليم، فإنه جاء قاصداً مغارة العظام ليأتي بالجمجمة التي راهن
عليها رفاقه. فلما وصل وقف عند الباب وسرح بصره في الداخل، فلم ير شيئاً من اشتداد الظلام، فتقدم قليلاً فسمع تلك القرقعة في المغارة، فأول حركة بدت منه الرجوع إلى الوراء، لكنه
نفى عن مخيلته ما تصوره حلماً وتقدم وهو يظن أن أذنيه اسمعتاه شيئاً وهمياً. . . ولكن زادت الضجة. . . لا محل للريب، إن في المغارة أحداً. . . أمن عداد الأحياء وأم من عالم الأموات. . .؟ تقدم بضع خطوات، والقرقعة تزيد كأن الأبالس حلفت أن تقلق راحة هذا المكان: ولكن لابد لسليم من أن يأخذ جمجمة ويقوم بوعده ولو خرج الشيطان بنفسه ليحول دون مبتغاه.
فما زال يتقدم. وحينذاك انجلى القمر قليلاً فتراءى للشاب منظر هائل: جثة منتصبة أمامه تتقدم نحوه ووراءها يلوح خيال لم يتميزه. . . ثم انبعث من وراء الجثة صوتٌ يلقي الرهب في القلوب: يا من لا يخاف من الأحياء ارتعد أمام الأموات، فأوجس سليم خيفة مما رأى وسمع، وكاد يطير فؤاده روعاً. لكنه ما برح يتقدم كمن تجرهُ قوة جذابة، فما شعر إلا وقد سقط عليه شيء ثقيل بارد، ولم يكن ذلك غير الجثة، فصرخ بسم الله. . . . واستل خنجره، فأجاب صوتٌ ضعيف: استرني أيا كنت يسترك الله.
وكان القمر قد سطع بكل جلاء فأضاءت المغارة ومن فيها، فعرفت سلمى الخيال الداخل عليها، وعرف سليم الشبح المنتصب أمامه، ففتح ذراعيه وهتف:
أنت هنا يا سلمى. . .!
حفظاً لعهدك يا سليم. . .!
وأشارت إشارة معنوية إلى جثة مزاحمه المطروحة على قدميه بين العظام والجماجم ففهم كل شيء