المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رواية الشهر القطار الضائع في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة - مجلة «الزهور» المصرية - جـ ٢

[أنطون الجميل]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 12

- ‌السنة الثانية

- ‌إيماءة زائر

- ‌في حدائق العرب

- ‌الأب كابون وتولستوي أو حكيما روسيا

- ‌نحن وهم

- ‌في رياض الشعر

- ‌لاعب القمار ومدمن الخمر

- ‌بين القصور والأكواخ

- ‌تمدن المرأة العصرية

- ‌أحسن مقالة وأحسن قصيدة

- ‌في جنائن الغرب

- ‌جرائدسوريا ولبنان

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌عشرة أعداد الزهور

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 13

- ‌كل مياه البحر

- ‌إيماءة زائر

- ‌بين هدى وأدما

- ‌الحيدرية

- ‌الجرائد والمجلات في مصر

- ‌في جنائن الغرب

- ‌الطالب البائس

- ‌رثاء إمام

- ‌أنا قاتل عصفوري

- ‌في رياض الشعر

- ‌جرائد سورية ولبنان

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 14

- ‌زهرة الشباب

- ‌إلى السراية الصفراء

- ‌أيها البدر

- ‌في حدائق العرب

- ‌خطاب

- ‌الفتاتان

- ‌حول تمدن المرأة العصرية

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في رياض الشعر

- ‌المراسلات السامية

- ‌يا أيها الريح

- ‌عناصر الجنس المصري

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 15

- ‌الزهور في عهدها الجديد

- ‌لو

- ‌عواطف وآمال

- ‌نظرة إشراف عام

- ‌صحافة سورية ولبنان

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في رياض الشعر

- ‌رسائل غرام

- ‌رشيد بك نخلة

- ‌انت

- ‌أفكار وآراء

- ‌أحسن مقالة وأحسن قصيدة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌تمدن المرأة العصرية

- ‌مولود عجيب

- ‌ثمرات المطابع

- ‌رواية الشهر

- ‌آثار العباسيين في بغداد

- ‌العدد 16

- ‌تتويج ملك الإنكليز

- ‌في جنائن الغرب

- ‌نظرة إشراف عام

- ‌رسائل غرام

- ‌التعليم الإجباري

- ‌في رياض الشعر

- ‌في حدائق العرب

- ‌ألفرد ده موسه

- ‌الغناء العربي

- ‌ثمرات المطابع

- ‌إلى قراء الزهور

- ‌العدد 17

- ‌العودة

- ‌لم أجدها

- ‌حالة العلم في نجد

- ‌في جنائن الغرب

- ‌حديث القلوب

- ‌سياحة في إسبانيا

- ‌أين أريد بيتي

- ‌في رياض الشعر

- ‌مدارس البنات

- ‌أحمد عرابي

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 18

- ‌الأعلام العربية

- ‌في منازل الأموات

- ‌الشعر

- ‌رسائل غرام

- ‌الحاجة

- ‌حقائق

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في حدائق العرب

- ‌الحقائق عندهم

- ‌في رياض الشعر

- ‌الزهور السياسية

- ‌السنوسيون

- ‌الوصايا العشر

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌قوة تركيا وإيطاليا

- ‌اللورد أفبري

- ‌العدد 19

- ‌المطر

- ‌محاكم الأحداث

- ‌رسائل غرام

- ‌الحرب اليونانية العثمانية

- ‌الأستاذ مرغليوث

- ‌في حدائق العرب

- ‌في رياض الشعر

- ‌حلب الشهباء

- ‌المعلوم والمجهول

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 20

- ‌حول السنة الجديدة

- ‌البرد والصحة

- ‌وصف غرق

- ‌بينهما

- ‌ذكرى بعلبك

- ‌رسائل غرام

- ‌غرائب امريكا

- ‌في رياض الشعر

- ‌رصاص دم دم

- ‌محاكم الأحداث

- ‌أزهار وأشواك

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌ثمرات المطابع

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 21

- ‌حلم ويقظة

- ‌محادثة شبح

- ‌شيء عن الفن

- ‌في جنائن الغرب

- ‌رسائل غرام

- ‌الشعر

- ‌في رياض الشعر

- ‌سادوم وعامورة

- ‌محاكم الأحداث

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌جرائد جديدة

- ‌ختام السنة الثانية

الفصل: ‌ ‌رواية الشهر القطار الضائع في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة

‌رواية الشهر

القطار الضائع

في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة 1890، وقف رجل في محطة سكة حديد لندن والنواحي الغربية الوسطى في ليفربول، وطلب أن يرى مستر جايمس بلاند ناظر تلك المحطة. وكان هذا الرجل كهلاً أسمر اللون، قصير القامة، محدودب الظهر، كأن في عموده الفقري تقوساً أصلياً. وكان يرافقه رجل مهيب تدل ملامحه على أنه إسباني الجنس، أو أمريكي من اهالي أمريكا الجنوبية. وهو متأبط محفظة صغيرة من الجلد الأسود مشدودة إلى يده اليسرى بسيرٍ قد انطبقت عليه قبضته بحرصٍ شديد.

ولما مثل الأقوس بحضرة مستر بلاند تسمى قائلاً: أنا لويس كاراتال. وقد وصلت الساعة آتياً من أحد ثغور أمريكا الوسطى، وقاصداً إلى باريس حيث تستدعيني أشغال عظيمة الأهمية جداً. ولقد ساءني كثيراً أنني لم أدرك قطا الإكسبريس الذي سافر منذ هنيهةٍ إلى لندن. وليس في طاقتي أن أتربص ريثما يسافر القطار الآخر لأن كل ساعة أقضيها بعيداً عن باريس تكون بمثابة قضاءٍ مبرم على أعمال وآمالي. لهذا أود السفر في قطارٍ خاص بي وحدي غير مكترث للمال الذي يجب علي بذله في هذا السبيل.

فأمر مستر بلاند بأن تعد قاطرة خصوصية، وبأن تربط بها عربة للفحم، وعربتان، إحداهما تحتوي على قس معد للجلوس فيه، وقسم يعرف بغرفة التدخين والأخرى لا معنى لها سوى تخفيف ارتجاج العربة الأولى. فدخل لويس كاراتال ورفيقه الذي لم يعرف أحد اسمه إلى الأولى وبقيت الثانية خالية خاوية.

ولم يكد يعود مستر بلاند إلى مكتبه حتى وقف بين يديه رجل يدعى مستر

ص: 440

هوراس مور وطلب منه بإلحاح ما طلبه وفاز به من قبل مسيو لويس كاراتال ورفيقه. قال أن مرضاً فجائياً أصاب زوجته في لندن، وأنه يخشى عليها كثيراً. فسفره لازم لازب لأن أموراً عائلية متوقفة على أن يدرك زوجته قبل وفاتها فإن هي ماتت قبل أن يراها جرت معها إلى القبر مستقبل عائلةٍ بأسرها.

فقال مستر بلاند إن القانون يحظر عليه أن يسير قطاري خصوصين على خطٍّ واحد في زمان واحد. على أنه لا يرى مانعاً من السعي مع مسيو كاراتال فلعله يسمح بأن يشرك

آخر معه في قطاره الخاص. وفيل لمسيو كاراتال في ذلك فأبى كل الإباء. وحاول بعضهم أن يقنعه ولكنه أصر على الرفض متشبثاً بكونه قد دفع أجرة القطار وحده فهو والحالة هذه الآمر الناهي. فأسقط في يد مستر هوراس مور حين غلب جفاء الأمريكي الأقوس على لينه وإلحاحه، فاضطر إلى انتظار القطار العادي الذي كان مزمعاً أن يسافر في مساء ذلك النهار.

ومشى القطار الخاص المقل لويس كاراتال ورفيقه في الساعة الرابعة والنصف تماماً. وكان الخط الحديدي ببن ليفربول ومنشستر خالياً، فلم يكن من الواجب أن يقف في محطةٍ ما قبل بلوغه إلى منشستر إذ يصلها حوالي الساعة السادسة.

ثم كانت الساعة السادسة وربعاً ولم يبلغ القطار محطة منشستر. وأبرقت هذه المحطة في ذلك إلى أختها في ليفربول فقلقت هذه، وساورتها المخاوف، وأبرقت في دورها إلى محطة سنت هيلنس الواقعة على نحو ثلثي الخط الحديدي بين ليفربول ومنشستر وسألتها عن ذلك القطار فورد منها الجواب التالي:

مر القطار المخصوص في الساعة 4 والدقيقة 52

دوسر

سنت هيلنس

وكان ورود هذا النبأ على ليفربول في الساعة 6 والدقيقة 40. وفي الساعة 6 والدقيقة 50 وصل نبأ برقي آخر من منشستر يقول: لا عين ولا أثر للقطار المخصوص. ثم انقضت عشر دقائق أخرى فوردت البرقية التالية: تحققوا جيداً من الموعد الذي مشى فيه القطار المخصوص، فإن قطار سنت هيلنس المحلي الذي كان يجب أن يصل بعده قد دخل محطتنا بدون أن يرى له أثراً أو شبه أثر.

منشستر

ص: 441

فقامت محطة ليفربول وقعدت لهذا النبأ، ولكنها اطمأنت قليلاً إذ عرفت أن قطار سنت هيلنس لم ير أثراً للقطار المخصوص. فانتفى بذلك كل خوف داخلها من حدوث أمر ذي بال للقاطرة، وترجح عندها أن إحدى المحطات حجزت القطار المخصوص ريثما يمر القطار العادي. على أنها رأت أن تتيقن الأمر فأبرقت في ذلك إلى جميع المحطات بين

ليفربول ومنشستر فوردت عليها الأجوبة التالية:

مر القطار المخصوص في الساعة 5 - محطة كولنس كرين

مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيقة 6 - محطة إرلستون

مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيق 10 - محطة بنيوتون

مر القطار المخصوص في الساعة 5 والدقيقة 20 - محطة كنيون تجنكشون

لم يمر القطار المخصوص قط من هنا - محطة بارتون موس

فالتفت حينئذ مستر بلاند إلى مدير الخطوط الحديدية لفتة دهش وانذهال وقال: مر علي حتى اليوم زهاء ثلاثين سنة في خدمة مصلحة السكة الحديدية ولكنني لم أتذكر أبداً انه مر بي مثل هذا الحادث الغريب من قبل!

فقال المدير: حقاً إن هذا لمن الغرائب التي تحير العقول، وإني لأعتقد أن هناك مصاباً أصاب هذا القطار بين محطتي كنيون تجنكشون وبارتون موس.

- وفي رأيي إن القطار قد حاد عن الخط فشرد فتدهور في وادٍ ما.

- إذا ما كان ذلك كذلك فيكف مر قطار الساعة الرابعة والدقيقة الخمسين على الخط بدون أن يرى له أثراً أو يعثر على شبه أثر؟

- لست أدري شيئاً يا مستر هود، ولكن الواجب يقضي علينا بأن نأمر بفحص الخط بين كنيون تجنكشون وبارتون موس.

ثم ما لبث أن ورد على ليفربول النبأ التالي من محطة منشستر:

ما برحنا جاهلين كل شيء بشأن القطار المخصوص. أما الخط بين كنيون تجنكشون، وبارتون موس، فسليم كالعادة وليس فيه أثر لحادث ما.

وعلى أثر هذا النبأ وردت البرقية التالية من ناظر محطة كنيون تجنكشون:

ص: 442

كل الآثار تدل على مرور القطار المخصوص من هنا، ولكن من اليقين عندنا أنه لم يصل إلى بارتون موس. فحصت بنفسي الخط الحديدي فوجدته سليماً كالعادة وليس فيه أثر لحادث ما.

ونزل هذا النبآن نزول الصاعقة على مستر بلاند فأخذ ينتف شعره، ويحرق أسنانه من القطر والتأثر الشديدين، وهو يقول: إن أكاد أجن يا مستر هود. أمن الممكن أن يتحول

قطار حديدي إلى بخار يتطاير ثم يتلاشى في الفضاء؟

وفيما كان مستر بلاند ورفيقه مستر هود تتنازعهما الريب والشكوك، وتساورهما الأوهام والمخاوف إذ ورد عليهما من محطة كنيون تجنكشون هذا النبأ:

وجدنا الساعة جثة المسكين جون سلندر المهندس الميكانيكي للقطار المخصوص مطروحة في منحدر مثلَّم على ميلين ونصف ميل من المحطة.

واتفق يومئذ أن صحف إنكلترا لم تهتم لهذا الحادث الغريب لأنها كانت مشغولة عنه بحادثة أخرى أعظم أهمية، وأشد تأثيراً في النفوس. ذلك أنها كانت مشاركة باريس في اضطرابها لفضيحة سياسية كبرى كانت تتهدد الحكومة الفرنساوية، وفريقاً من عظماء القوم في ذلك العهد. فلما ذكرت حادثة القطار المخصوص لم تنظر إليها إلا نظرها إلى الحوادث الجنائية التي لا يعلق عليها شأن ما.

أما مستر بلاند فاستصحب المفتش كولنس مدير بوليس السكة الحديدية، وقصد إلى كنيون تجنكشون للبحث والتدقيق في أمر القطار الضائع. وكانت على جانبي الخط الحديدي بين تلك المحطة ومحطة بارتون موس، مناجم فحم عظيمة، ومعامل حديدية كبرى، مربوطة بخطوط حديدية مفردة تصل بينها وبين الخط العام المزدوج. على أن بعض تلك المناجم كان قد أهمله أصحابه بعد أن استثمروه واستنفدوا فحمه، فتركوه أشبه شيء بهوّات عظيمة فاغرة أفواهها، ومظلمة كأن لا قرار لها. وخيل إلى مدير البوليس لأول وهلة أن القطار المخصوص شرد إلى أحد تلك الخطوط الصغيرة التي لم تحول إبرتها عند نقطة الاتصال بالخط العام. ولكنه عاد فتذكر أن القطار الذي تلا في سيره القطار المخصوص مر من هنالك ولم

ص: 443

يشرد. فقال في نفسه إنه لا يبعد أن يكون هناك يد أثيمة جرت القطار المخصوص إلى كمين من اللصوص كان يتربص له في إحدى الغابات المجاورة.

وشد ما كان انذهال مستر بلاند ورفيقه حين رأيا أن معظم الخطوط الصغيرة كان غير متصل بالخط العام لن أصحاب المناجم المهملة كانوا قد اقتلعوا بضعة أمتار من الحديد عند نقطة الاتصال لعدم حاجتهم بها، ودفعاً لما قد ينجم عنها من المصاعب للقطر السائرة إذا أهملتها أيدي العملة. ومع ذلك فلم تفتر عزيمة هذين الرجلين عن التدقيق والتفتيش بل ماشياً جميع الخطوط إلى غاياتها، ولكنهما لم يقفا على أثرٍ للقطار الذي كانا يفتشان عنه،

ولا تبينا شبهة ما. وكان أشد ما لاقياه من الذهول حين وقفا في المكان الذي وجدت فيه جثة المهندس سلندر على قيد أمتار قليلة من الخط العام إلى جانب أحد الخطوط الصغيرة المقتلع حديدها قديماً عند نقطة اتصالها بالخط الكبير. وقد حيرهما أمرها فلم يفهما سبب وجودها هنالك على حين كان تهشمها دليل حدوث الوفاة فور السقوط من القطار أثناء سيره السريع.

وعادت الصحف إلى هذه الحادثة فذكرتها بعد أيام متهمة مستر كولنس بالعجز والتقصير. وحملت عليه حملةً اضطرته إلى اعتزال وظيفته حاقداً جازعاً.

وفي اليوم الخامس من شهر يوليو (تموز) سنة 1890 نشرت الصحف الرسالة التالية وقد كتبها مك فرسن الذي كان يقود القطار المخصوص وأرسلها إلى زوجته من نيويورك فدفعتها زوجته إلى الجرائد فنشرتها هذه وهي:

زوجتي المحبوبة

تذكرتك في غربتي وتذكرت شقيقتي العزيزة لويزا فهاجت الذكرى أشواقي إليكما. وتفكرت ملياً في حالنا الحاضرة فوجدت أن المروءة تقضي علي بألا أترككما وحيدتين في لندن لا تجدان نصيراً ولا تلقيان سلوى. فلهذا أنا باعث إليك أيتها الحبيبة بمبلغ عشرين جنيهاً تبذلينها نفقة لكما في سفركما إلى هذه البلاد. فتعالي إذن تواً إلى نيويورك واقصدي إلى بيت جونستون فيها حيث تجدين أني قد تركت لك الإشارات اللازمة لمعرفة المكان الذي سنتلاقى فيه. أما حالي فهي

ص: 444

قلقة جداً في الأثناء الحاضرة ولكن قلها يجب أن لا يكون عقبة في سبيل اجتماعنا.

السلام عليك وعلى الحبيبة لويزا

من زوجك

جايمس مك فرسن

ثم سافرت هاتان المرأتان إلى نيويورك تحت مراقبة البوليس السري. وأقامتا برهةً في بيت جونستون ولكن على غير جدوى فعادتا إلى لندن خائبتين. ومرت الأيام على هذه الحوادث فنسيها الناس، وأهملتها الجرائد فكأنها لم تكن.

* * *

في سنة 1908 أي بعد انقضاء زهاء ثماني عشرة سنة على ضياع القطار المخصوص بين ليفربول ومنشستر، نشرت جرائد مرسيليا في صباح أحد الأيام الرواية التالية، وهي خلاصة ما اعترف به رجل يدعى هربرت دي لرناك الجاني المحكوم عليه بالإعدام عقباً لقتله تاجراً يسمى بونفالو. قال:

متى قرأ اعترافي هذا فريق من كبار القوم، وعظماء السياسة في باريس، فليعلموا أني انتظر في سجني على مثل جمر الغضا تدخلهم في أمري وتوسطهم في سبيل العفو عني. وإلا فإن حديثي الخالي من الأسماء اليوم، يتحول غداً إلى إفشاء أسرار هائلة قد طوتها الأيام منذ سنة 1890، فإن العالم ما برح يجهل حتى الساعة حقيقة حكاية القطار المخصوص الذي حمل لويس كاراتال ورفيقه من ليفربول في اليوم الثالث من شهر يونيو (حزيران) سنة 1890 ثم تبخر بين محطتي كنيون تجنكشون وبارتون موس فتلاشى في الهواء. فحديثي اليوم حديث بطل تلك الرواية الذي كان يعمل بأمرة أولئك الرجال العظام الذين وعدت بكتم أسمائهم طمعاً بان يستصدروا العفو عني ويخرجوني من هذا السجن الذي دفعت كرهاً إليه.

في سنة 1890 قامت باريس وقعدت لتلك الفضيحة السياسية المالية الهائلة التي كادت تميت موتاً أديباً لا حياة بعده عدداً كبيراً من ساسة فرنسا وعظماء رجالها. إن أولئك القوم كانوا أشبه بشيء بهذه القطع الخشبية المهندمة الواقفة عالية الرأس في اللعبة المعروفة بعلبة الكيل وكان المرحوم لويس كاراتال أشبه شيء أيضاً بتلك

ص: 445

الكتلة الخشبية الثقيلة التي يدحرجها اللاعبون بقوة نحو تلك الأخشاب. . . لطمة إثر لطمة، وصدمة تلو صدمة! وإذا بتلك القطع الواقفة قد وقعت جميعها إلى الأرض، الواحدة تلو الأخرى في مثل طرفة عين. ذا عرفت هذا عرفت أي خطر كان يتهدد أولئك الرجال في قدوم كاراتال إلى باريس وهو المعتمد السياسي الخبير والمثري العظيم. وعليه فقد تألفت في باريس في ذلك العهد، لجنة عهد إليها القيام بكل عمل للفتك بهذا الرجل قبل وصوله إلى العاصمة الفرنساوية، وكان يعوز هذه اللجنة رجل داهية يكون يداً لها فاختارتني لذلك، وأمدتني بالمال والنفوذ.

وكان أول أعمالي أني بعثت إلى أمريكا رجلاً من أتباعي كنت أعتمد عليه كثيراً واثق بإخلاصه، وأمرته بان يتبع كاراتال كظله، ويوقفني على حركاته وسكناته. ولكن رسولي

بلغ إلى أمريكا فور سفر كاراتال منها، ولولا ذلك ما وصل عدونا إلى ليفربول ولا رست سفينته قط إلا في مقر الحيتان!

ولم يكن شخص كاراتال وحده جل قصدنا بل كان من أقصى أمانينا أيضاً إخفاء اوراقه وإتلافها والقضاء على رفيقه قضاءً مبرماً.

وأقمت في ليفربول أنتظر وصول السفينة وقد أعددت عدتي. ورسمت الخطة التي أزمعت أن أعمل بحسبها. واشتريت فئة من نبهاء الإنكليز لمساعدتي على إتمام قصدي. فما وقفت السفينة في الميناء حتى كنا على تمام الأهبة والاستعداد.

ولما نزل كاراتال إلى البر كان معه رجل أمريكي كبير الجثة، مهيب الطلعة، في عينه شرر يتقد دائماً اتقاد الكهرباء. وقد عرفناه بما سمعناه عنه من قبل. وكان اسمه غوميز وهو شجاع باسل يحب سيده ويتفانى في خدمته. ومما يجمل بي أن أتباهى به الآن أني عرفت أنه كان لابد لكاراتال أن يسافر تواً إلى لندن ليتمكن من الوصول إلى باريس في وقت سريع. فلم أشك قط أنه سيستأجر قطاراً مخصوصاً يحمله ورفيقه إلى العاصمة إذ يكون قطار الإكسبريس قد سافر قبل أن يدركه في محطة ليفربول. وكنت قد علمت أن السائق الذي سيعهد إليه بقيادة ذلك القطار يرجح أن يكون المسمى مك فرسن فاشتريت هذا الرجل في عداد الذين

ص: 446

اشتريتهم. ثم كان ما توقعته. فإن كاراتال جاء مستر بلاند وطلب منه بإلحاح قطاراً مخصوصاً دفع أجرته فوراً واستقل به. حينئذ تقدم أحد أتباعي ووقف بحرة مستر بلاند متسمياً باسم هوراس مور، وطلب بدعوى اختلقها ما طلبه مسيو لويس كاراتال ونحن عالمون أن القانون يحظر تسيير قطارين مخصوصين في وقت واحد إلى وجهة واحدة. ولكننا طمعنا بأن كاراتال يسمح بأن يشاركه في قطاره سواه. غير أن هذا الرجل كان خائفاً وجلاً فأبى وأصر على إبائه رغم إلحاح هورسا مور الظاهري. أما أنا فكنت واقفاً على تلة مشرفة على منجم الذين كانوا معي، وحولنا الطريق إلى هذا الخط الصغير بحيث مر القطار المخصوص شارداً عن طريقه إلى طريق المنجم بل إلى طريق الهاوية اللاقرار لها. وكان رفيقنا سميث الوقاد في قطار كاراتال، قد اخذ على نفسه تنويم مستر سلندر المهندس لكيلا يشعر هذا بتحول القطار عن خطه في المكان المختار. ولكنه قام بمهمته بطريقة فظة كان من جرائها أن سلندر وقع من القطار ومات. على أن قتل المهندس على

تلك الصورة كان في عملنا المرسوم أشبه شيء ببقعة سوداء في رسم جميل!

ولما أشرف القطار على الهاوية من أعلى التل خفف مك فرسن سيره حتى تمكن سميث من القفز إلى الأرض ثم عاد فأدار اللولب فجأة وقفز هو أيضاً قبل أن يفوته الوقت. ومشى القطار وحده بسرعة فائقة.

وكنت أراقب من موقفي كل ذلك فرأيت كاراتال قد أوجس خيفة من تمهل القطار وسرعته الفجائية فأطال من النافذة وأبصر الخطر المحدق به، ثم رآنا واقفين ننظر إليه، فاستجار بنا، وأشار لنا مستغيثاً. واطل غوميز من النافذة نفسها وهو يصرخ ويستغيث أيضاً ولكن على غير جدوى.

كنت أرى ذلك المشهد المخيف وأنا طلق المحيا، باسم الثغر لأني كنت أشعر في نفسي بأني أتيت حينئذ عملاً متقناً كل الإتقان، وقمت بمهمتي أحسن قيام. ولقد خامرتني حينئذ فكرة التباهي والزهو ففتلت شاربي كبراً وإعجاباً وقلت لمن كان

ص: 447

حولي: إن لجنة باريس عرفت من اختارت لهذا العمل العظيم. وشعرت كأن قلبي قدَّ من فولاذ لنني لم أتأثر قط، ولم أكترث لذينك الرجلين البريئين.

وكأنما قنط غوميز من النجاة فأشار لنا بيده، ورمى محفظة الجلد السوداء فالتقطتها وأنا لا أعلم قصده من وضعها بين أيدينا.

وسمعنا بعد هنيهة قرقعة عظيمة منها أن القطار المخصوص قد وقع في الهوة. وحدث على أثر سقوطه انفجار هائل سمع له دوي شديد وتكاثف الدخان في الجو، فقلنا إن ذلك إنما كان من انفجار مرجل القطار. . . ثم ساد على تلك النواحي سكون عميق!!!

حينئذ تحولنا إلى محو كل أثر يدل على ارتكاب هذه الجريمة. فاقتلعنا الخطوط الحديدية التي كنا قد وصلنا بها خط المنجم بالخط العام، وأعدناها بذلك إلى ما كانت عليه من قبل ثم تفرقنا فذهب كل منا في سبيله.

أما محفظة الجلد فقد احتفظت بها لنفسي لأن الحكمة تقضي بأن لا يجرد المرء نفسه من السلاح لاسيما متى كان كثير الصلات بمثل أولئك الرجال العظام الذين أريد منهم اليوم أن يستصدروا العفو عني. وإنهم فاعلون ذلك ولا ريب، لأنهم يعلمون أن أوراق المرحوم لويس كاراتال هي في محفظة الجلد السوداء.

حاشية: راجعت ما كتبته الساعة فوجدت أني نسيت أن أقول كلمة عن مك فرسن الذي كتب إلى زوجته يستقدمها إليه في نيويورك. لقد كان من شأن تلك الرسالة أن توقع ذلك الغبي في شبكة البوليس. فكان من المحتم علينا والحالة هذه، أن نفصل بين هذا الرجل وامرأته ففعلنا. واني أشير على هذه المرأة أن تتزوج إذا شاءت فقد أزلنا من طريق زواجها كل عقبة.

كاتبه هربت دي لرناك

المقيم في سجن مرسيليا

ص: 448