الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تيودور بوترل وفردريك مسترال من حيث وصف عادات البلاد والتغني بجمالها، والحث على الاحتفاظ بتقاليدها.
غرازيالاّ - كتاب ثالث جاءنا من البرازيل في هذين الشهرين فلا يسعنا إلا الثناء على همة كتابنا الأدباء الذين هاجروا إلى أقصى الأمصار وباتوا ينشرون فيها لغتنا العربية. . . وغرازيالا هي الرواية الفلسفية الأخلاقية الغرامية التي ذاع صيتها في عالم الأدب الفرنسوي، ولا عجب فهي من أرق ما خطت يمين الشاعر الشعير لامارتين. وقد نقلها إلى العربية الأديب إسكندر أفندي كرباج. وكنا نود لو كان أكثر أمانة في الترجمة وأمتن سبكاً في التعبير لئلا يفقد شيء من جمال الأصل وطلاوته. على أن من مؤلفات لامارتين - كما في مؤلفات كل نوابغ الكتاب - صفحات قد يعجز عن تأديتها حقها من الترجمة أقدر المترجمين ولذلك نحن نقدر عمل مترجم غرازيالا حق قدره، فهو أجل وأشرف من ترجمة القصص التافهة.
رواية الشهر
أوله لهو وآخره قتل
كان في فلورنسا تاجر واسع الثروة تزوج بإحدى مثريات المدينة ورزق منها ولداً ذكراً دعاه ألفرد. ولم تكد تقر بالمولود عينه حتى دعاه خالقه إليه فترك وحيده يتيماً بعد أن أوصى به أرملته وذويه.
ترعرع الولد وأخذ يخرج في البلدة ويلعب مع أقرانه وما عتم أن شعر بميل خصوص إلى صبية كانت تلعب معهم اسمها ماري، فكان يخرج الولدان من منزلهما في ساعة واحدة ليلتقيا في مكان متفق عليه من قبل. وهناك يصرفان الساعات الطوال منهمكين في ألعاب لا لذة فيها ولا سلوى إلا أنها تجمع الولدين المتحابين وهما شاعران بفرح لا يدركان له سبباً حتى إذا دنت الشمس من المغيب واضطرا إلى الافتراق أحس كل منهما بوحشة زائدة وبحزن ما كان يخففه غير أمل اللقاء في اليوم التالي.
وقد كرت الأيام والأعوام والولدان يعيشان عيشة واحدة لا يلذ لهما شيء إذا افترقا ولا يحزنهما شيء إذا اجتمعا. . . ولما شبا عن الطوق فبرز نهدا الفتاة وانفتل ساعد الغلام تبدل ذلك الشعور الرقيق الكامن بحب ووجد وغرام. فأوجس أهلهم خيفة لاسيما أم الفتى، هي تحسب أن حب ابنها لتلك الفتاة يحمله على التهور والتفريط حتى وصل بها الخوف إلى أنها فاوضت عم الغلام بالأمر وقالت له: إذا دامت حال ألفرد وحال ماري على ما هي عليه فلا أعجب إذا أفقت يوماً وأنا جدة وهناك الفضيحة فأنى لنا تلافي الخطب قبل استفحاله؟. . . فأطرق العم يفكر كأن مسألة الغلام معضلة ولا كالمعضلات ولما أعياه التفكير ولم يوفق إلى حل للمشكلة أشار عل الأم بأن تعقد مجلساً عائلياً تطرح عليه المسألة فيتدبرها ويبت فيها رأياً يكون فيه خير الفتى وراحة الأم. . .
عقد المجلس العائلي وشرحت له الأم أسباب قلقها وجزعها ولم يكن في المجلس غير شيوخ ماتت قلوبهم فباتوا يحسدون الشباب ويضيقون عليه الخناق كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وبعد البحث والتفكير والمداولة قر رأيهم على إبعاد الفتى آملين بذلك بلوغ المرام فيفعل البعاد ما لم تفعله النصائح فتتزوج الفتاة من جهة ويسلوها الفتى من جهة أخرى. . . . .
ثم كلف المجلس عم ألفرد بإبلاغه ذلك القرار بالطرق التي يراها مناسبة طبقاً لحاسات
الفتى وأمياله. . . فجاء العمل صبيحة يوم إلى ابن أخيه فرآه غارقاً في بحر من الغرام كم تاهت فيه سفن وضلت مراكب فاقترب إليه وبادره بالسلام مبالغاً بالملاطفة والمؤانسة حتى هش له الفتى وما كان يبسم إلا لحبيبة قلبه. . . .
ولما شعر العم باستعداد الفتى لسماع كلامه قال له بمزيد من الحنان:
ها أنت قد أصبحت رجلاً بحمد الله وآن لك أن تسافر إلى بلاد أرقى ووسط أرفع فتتفقه بالأسفار ومخالطة الأقوام، ثم تعود إلينا وقد تحليت بالأدب والعلم والاطلاع فيكون لك بين قومك كلمة وشأن. . . ولن يطول زمن هجرتك أكثر من سنتين فقط، فما رأيك؟. . . .
فابتسم الفتى ابتسامة دلت على انزعاج واضطراب وقال: ما فكرت قط يا عماه بهذه السفرة وها أنا بعد سماعي ترغيبك إياي فيها وتشويقي إلى اقتحامها كما كنت من ذي قبل: لا أحب السفر. فأنا هنا مرتاح إلى الطبيعة وما أنجبت، غير طامع بالمزيد فلا تكرهوني على ما لا ترغب فيه نفسي. . . .
فعض العم على شفتيه وأخفى الكيد وأظهر الجلد وأخذ يسرد على ابن أخيه البراهين والحجج والأسباب التي تقضي عليه بالسفر حتى ضاقت بالفتى أنفاسه ورأى أنه لم يعد له بين ذويه مقام فطلب إلى عمه أن يمهله إلى الغد فيعطيه الجواب الأخير.
خرج العم ونظر الفتى إلى واقع الحال فراعه. . . فكر بافتراقه عن معبودة قلبه فهاله فكره وتذكر ساعات لقياها حيث حديث الغرام أرق من النسيم وأشجى من نوح الحمام فهاجت أشواقه الذكرى فبكى ولسان حاله ينشد:
لا مرحبا بغد ولا أهلاً به
…
إن كان توديع الأحبة في غد
ثم سار إلى حيث يلتقي عادةً بحبيبة قلبه فوجدها بانتظاره فراعه اصفرارها - وقد خبرها ذووه بعزمهم على تسفير ألفرد ورجوا إليها مساعدتهم حباً بخير الفتى، فوافقتهم مكرهة - وما وصل إليها حتى عرته هزة يعرفها من وقف تلك
المواقف فتقدم إليها واجلاً مضطرب الجوارح خفاق الفؤاد ومد إليها يداً مرتجفة باردة، فشدت عليها بيد مرتجفة باردة، وتناظر الحبيبان فتفاهما وعلما أن لابد من الفراق فتجسم بنظرهما كل ما في قلوب العاشقين من وجد وجزع وطوقا بعضهما بعضاً بدافع غير منظور وشهقا بالدمع، حتى إذا هدت حيلهما تلك الدقيقة بما فيها من هول الوداع ضم الفتى شفتيه إلى شفتي الفتاة وجمع كل ما في نفسه
من هوى وطبعه على تينك الشفتين بطابع من نار فانتفضت الفتاة انتفاض من جرى في عروقه تيار كهربائي وتراجعت إلى الوراء مذعورة وتراجع مذعوراً وقد شعرا بخطورة الموقف فافترقا وقد مزق الوداع نسيج قلبيهما.
أفاق ألفرد في اليوم التالي منهوك القوى شاحب اللون وأخذ يتأهب للسفر فدخلت عليه أمه وفهمت أن رأيه قد قر على مغادرة البلاد فسرت من جهة وحزنت على فراق وحيدها من جهة أخرى ثم جاء الأهل والإخوان فودعهم ألفرد وهو ينظر إليهم شارد اللحظات ويكلهم وعقله وقلبه حيث حلت حبيبته ماري، ثم سار ووجهته باريس عروس المدن. . .
وصل مدينة النور وفي قلبه ظلام القبور ووحدة الأجداث وبات ليلته الأولى فيها كما يبيت الملسوع متقلباً على فراش الآلام والأوجاع. وقد حاول بعدها عبثاُ أن يسلي فؤاده فما كان يزداد إلا شوقاً وحنيناً إلى الوطن إلى تلك البقعة الصغيرة، حيث محبوبته. فإذا هب نسيم حمله إليها السلام وإذا رف طائر ناشده المروءة والدمع هتون أن يحمله إلى أرض ميعاده ولسان حاله ينشد:
يا طير صوب بلادنا خدني معك
…
جسمي أرق من النسيم شو بيمنعك
قلي بيمنعني نحيبك والبكا
…
خايف تبلل جانحي من مدمعك
مضت السنتان - وهما مدة أسر الفتى - وقد كانت كل ساعة منهما دهر. فعاد ألفرد إلى فلورنسا وهو يتساءل: ترى ما حل بماري؟. . . حتى إذا وصلها وقلبه
خافق ونفسه جازعة علم أن حبيبته قد زفت إلى سواه فاسودت الدنيا بعينه ويئس من الحياة وعزم على الانتحار - وهو خاتمة الغرام - إلا أنه خطر على باله أن يرى حبيبته قبل الموت للمرة الأخيرة. انتظر ألفرد حتى أسدل الليل على المدينة سدوله وانسل تحت جنحه إلى منزل حبيبته وتوصل إلى غرفة نومها فاختبأ تحت السرير حتى خلت إليه فنزعت ثيابها ونامت وهي لا تشعر أن في الغرفة روحاً جاءت تودعها قبيل احتجابها في الأثير. . .
نامت فحلمت كأنها بالقرب من حبيبها ألفرد فطاب لها الحلم فكشف در ثناياها ابتسام خفيف. . . وكان ألفرد قد انساب في تلك الأثناء إلى سريرها فشعرت بحر أنفاسه فأفاقت وهي تحسب نفسها حالمة فإذا بها تضاجع رجلاً ليس بزوجها فهمت بأن تصرخ فضغط الفتى على يدها متمتماً: لا لا تجزعي. . . أنا ألفرد. . .
دهشت ماري وغسلها العرق البارد وهي لا تدري إذا كانت لا تزال حالمة حلمها اللطيف أو هي في الحقيقة تلمس حبيبها القديم. . . وما عتمت أن عادت إلى هداها فتحققت أن رفيق الصبا في جنبها فخافت كثيراً وقالت له: بالله عليه قم واذهب فزوجي في الغرفة معي وأنت تكاد تفضحني. . . فقال لها: لا تخافي. . . ما أتيت أفعل منكراً. أنت زففت إلى غيري فلتكن حياتك سعيدة، أما أنا فلم يبق لي مطمع في الحياة. . . دعيني أنام بقربك كما ينام الملك قرب الملك أو الأخ قرب الأخت فأحيا دقيقة وبعدها أموت غير آسف على الدنيا. . .
فحنت عليه ورق له قلبها وقالت: لك ما طلبت. . . فنام الفتى بقربها وقد تجسمت له السعادة فغاب فيها. . . أما هي فقد استغربت من حبيبها هذا الهدوء وما عهدها بالحب يبقي على العقل فأخذت يده يدها فوجدتها مجلدة فحسبت أن الغرام جلدها. . فنادته همساً: ألفرد! ألفرد!. . . فخافت وخامرتها الشكوك. . . فحاولت إنهاض رأسه فوجدته بارداً فحركت جسمه فانقلب كالعود، ففهمت وبهتت
وقد صعقتها الحقيقة: إن ألفرد قد مات. . . سكبت دمعة محرقة وشعرت أن عروق قلبها قد تقطعت ثم أفاقت ونظرت إلى ما حوليها فراعها ذلك الموقف وما فيه من أسباب القيل والقال فاستجمعت رشدها وصممت على رأي وقامت إلى زوجها فنادته فأفاق فقصت عليه كل ما حدث كأنها تروي حادثة وقعت لسواهم بعيدة عنهم ثم قالت: حينئذ ما كان يجب على أهل البيت أن يفعلوا وأمامهم تلك الجثة؟ فقال: كان يجب عليهم أن يقوموا إلى الجثة وينقلوها بكل هدوء إلى بيتها ويتركوها على الباب فيظن القوم في الصباح أن فقيدهم مات قضاء وقدراً. . .
فقالت: إذن قم وافعل ذلك بالجثة في سريري. . .
فذعر الرجل ثم ثاب إلى رشده وقد تحقق أن امرأته صادقة في كل ما روت فقام إلى جثة ألفرد ونقلها بمساعدة امرأته حتى أوصلها إلى باب منزله فتركاها هنالك وعادا من حيث أتيا والحزن ملء قلب ماري. . .
أصبح الصباح فوجد أهل ألفرد جثة الفتى على الباب فأعولوا وندبوا واستدعوا الطبيب فجاء وفحص الجثة فإذا الموت طبيعي فقرروا أنه كان قضاء وقدراً.
واحتفلوا بتشييع الجنازة فقال الرجل الذي مات ألفرد في بيته لامرأته: قومي بنا إلى
الكنيسة نرافق الجثة حتى لا يخالج الناس ريب. فقامت والحزن يقتلها وقد عاد إلى ذهنها ذكر أيامها الأولى فسارت خلف الجثة وعينها تسكب الدمع مدراراً حتى إذا وصلوا بها إلى الكنيسة وصولا عليها وهموا بحملها إلى مرقدها الأخير سمع القوم صرخة هي أشبه بتنهيد عميق تلاه هبوط جسم إلى صحن الكنيسة. . فتراكض الناس فإذا ماري جثة هامدة تحت تابوت ألفرد. . . .
راع ذلك المنظر القوم المحتشد فأحنوا الرؤوس خشوعاً وسكتت القلوب اضطراباً واحتراماً وجعلوا الجثتين في تابوت واحد وواروهما في لحدٍ واحد كأنهم شعروا بأن ليس لهم أن يفرقوا جسمين اتحدت روحاهما بالموت. . .
وهكذا اتحد هذان العاشقان في اللحد بعد أن افترقا على الأرض وقد فعل الموت ما لم يفعل الحب. . .
(عن الإفرنسية)
حسون