الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 21
- بتاريخ: 1 - 2 - 1912
حلم ويقظة
أمس واليوم
ريع العالم المالي في هذه الربوع من كثرة التفاليس في المدة الأخيرة، واشتد العسر على الأهالي، وأصبحت الصحف تروعنا كل يوم بسقوط محلات تجارية كنا نتوهمها قائمة على أمتن الأسس، فإذا هي غير قادرة على الثبوت أمام آخر عاصفة هبت من عواصف الأزمة المالية.
إذا صح أن يقال إن التاريخ يعيد نفسه فليس من بلادٍ تنطبق عليها هذه الحقيقة المبنية على الاستقراء أكثر من القطر المصري. فإنك إذا تصفحت تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة والبطالسة حتى يومنا هذا، تكاد تجده إعادة دائمة ومراجعة مستمرة.
الأسماء تتغير، والأشخاص تتبدل، لكنهم دائماً يمثلون الحوادث نفسها، فيلعب كل منهم دوراً واحداً في مظهر واحد. هناك بعض
تفاصيل خارجية وأحوال عرضية تختلف، لكن الجوهر واحد يكاد لا يمسه تغيير ولا يطرأ عليه تبديل.
ترى مصر تارة خصبة غنية، وطوراً قاحطة فقيرة. تجدها آناً أهراء العالم يقصدها الأجنبي من كل صوب وحدب. وتلفيها آونة خالية خاوية تضيق بمن أظلته سماؤها ورواه ماؤها. فهي الماء القراح يتلون بلون الوعاء الذي يكون فيه، إن صافياً فصافٍ، وإن كدراً فكدر. وهو على تينك الحالتين هو، لم يفقد شيئاً من عذوبته ولذته ونفعه، يروي من قصده، ويبرد غليل من ورده. والسبب في تغيير ظاهره إنما ههو راجع إلى أمور عرضية لا تؤثر في الجوهر.
وهذه التقلبات الطارئة على مصر من رخاء وشدة، وغنى واحتياج، أكبر دليل وأصدق برهان على جودة هذه الربوع وكرمها، إذن حسن تدبير شؤونها، وصلحت إدارة أحوالها.
رقيت مصر في السنين الخالية إلى أوج الغنى: اتسعت ثروتها كل اتساع، وراجت أشغالها أي رواج، حتى جارت في هذا الميدان أغنى بلاد الله قاطبة. وقد استمرت الحالة على هذا المنوال حتى ولدت المضاربات ذلك الإعصار الهائل الذي صير العمار دماراً، والنضار رماداً.
* * *
جاء في الفصل الحادي والأربعين من سفر التكوين: قال فرعون ليوسف: رأيت كأني واقف على شاطئ نهر، وكأن قد صعد منه سبع بقرات سمان الأبدان حسان الصور فرتعت في المرج. وإذا سبع بقرات
أخر قد صعدن وراءها عجافاً قباح الهيئات جداً دقاق الأبدان لن أر مثلها في أرض مصر في القبح. فأكلت البقرات العجاف القباح السبع البقرات الأول السمان. . ثم رأيت في حلمي كأن سبع سنابل قد نبتت في ساق واحدة ممتلئة حساناً، وكأن سبع سنابل جافة دقاقاً قد لفحتها الريح الشرقية نبتت وراءها فابتلعت السنابل الدقاق السنابل الحسان. فقال يوسف لفرعون: إن الله مكاشف فرعون بما هو صانعه. سيأتيكم سبع سنين فيها شبع عظيم في جميع أرض مصر، ويأتيكم بعدها سبع سني جوع فينسى جميع الشبع الذي كان في أرض مصر ويتلف الجوع الأرض، ولا يتبين أثر ذلك الشبع في الأرض من قبل الجوع الآتي عقبه لأنه شديد جداً. . . فليجمع كل طعام سني الخير الآتية وليخزن برها تحت يد فرعون طعاماً، فيكون الطعام ذخيرة لسبع سني الجوع فلا ينقرض أهل الأرض بالمجاعة. . . .
ألا يخيل إلى القارئ عند تلاوة هذه الصفحة من تاريخ مصر القديم أنه يطالع تاريخها في هذه المدة. رأت مصر سني الشبع العظيم في جميع أرضها، ثم زحفت عليها سنو الجوع فأنستها رخاء وغناها. قام من أنذرها بمجيء العسر بعد اليسر، وإدبار الأيام بعد الإقبال، لكن صوت المرشد لم يقع في آذان مصغية، بل كان بعض القوم من اكبر العاملين على جر سني الجوع، بل هم الذين غلوا البقرات الحسان وكبلوها ووضعوها بين فكي البقرات القباح لتفتك بها. هم جعلوا مخدراً قوياً في الكأس التي رشفتها البلاد فزادوا في سكرتها، ولما أفاقت من سباتها العميق كانت