الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أزهار وأشواك
مات محمد العبد الأديب المعروف بشعره الطلي، وزجله اللطيف، المشهور بلونه الأبنوسي القاتم الذي كان يعد لون عنترة معه بياضاً ناصعاً، مات إمام، فكان لمنعاه رنة أسف وحزن، لأنه عاش بائساً ومات بائساً، وكان يلقب نفسه في حياته إمام البؤساء ورئيس حزبهم وقد تطوع في هذا الحزب الكثيرون من الأدباء واقروا له بالرئاسة والإمامة. وله ولهم في هذا الموضوع قصائد جميلة تناقلتها الصحف. نظم إمام في موضوعات كثيرة ولكن الفكرة السائدة في شعره هي الأنين والشكوى من الزمن. فقلما تطالع له بيتاً ولا ترى الدمع نافراً من حروفه ولا تسمع الزفير متصاعداً من تفاعيله. وكانت له طريقة في إنشاد الشعر تشبه الندب والرثاء. ولكنه كان مع ذلك خفيف الروح لطيف المعشر لا يمل جليسه له حديثاً، وله في الإشارة إلى لونه نوادر ونكات ظريفة منها جوابه المشهور لمن سأله عن امتناعه عن الزواج وهو ذلك البيت:
أنا ليلٌ وكلُّ حسناء شمسٌ
…
فاجتماعي بها من المستحيل
لقيته يوماً وقد شدَّ عنقه بربطة حمراء فسألته عن السبب فقال: ليعرف الناس أين ينتهي جسمي وأين يبتدئ رأسي وكنت ماراً صباح يوم قرب البوستة فلقيت أماماً في قهوة كان يكثر التردد إليها فقال: هل لك في سماع شيء من الشعر؟ - فقلت: هات - قال: أجببت أمس أن أحذو حذو زميلي وابن لوني عنترة العبسي فظمت أبياتاً في الحماسة. . وتلاها علي فإذا هي تهديد للأعداء وتغزل بالردينيات
والمشرفيات وتغني بخوض غمرات القتال، فقلت له: سبقت والله فارس بني عبس فكأنك رضعت من لبن المعامع وربيت بين السيوف والرماح فقال: ومع ذلك ألا ترى الجبن والخوف متجسمين في كل بيت فأجبته: لا أفهم إلى ما تشير فقال اسمع، بينما كنت أنظم هذه الأبيات ليلة أمس إذا بحركة بدت من ناحية النافذة فارتعدت فرائصي خوفاً، وكاد لبي يطير شعاعاً، ولم يكن ذلك ألا قطة جارتنا قفزت من كوة الدار. . . .
وكان إمام بعيد الشهرة في سوريا وأميركا وكان يراسل عدة جرائد وقد أحرز بعض جوائز مالية في سباقات فتحتها صحف تلك البلاد. وسيكون لنعيه أسف هناك كما كان له هنا. ولكن ذلك لا يجديه نفعاً بعد مماته، كما أن شهرته لم تدفع عنه بؤسه في حياته. وهكذا يعيش ويموت الأديب في الشرق: كحصاة تلقي في الماء الراكد فتحدث بعض تموجات
سرعان ما تضمحل، وانتهى! ولم يكن إمام العبد ليشذ عن هذه القاعدة رحمات الله عليه. .
أم ولا كالأمهات
جرت هذه الحادثة منذ شهرين، في أيام الأعياد، ولم يتسن لي أن أقصها على قرائي وقارئاتي قبل اليوم، ليشاركوني في التلذذ بها، لأنها وأيم الحق لذيذة جداً، بل هي ألذ من حلوى العيد، أو أن ذوقي وجدها كذلك. . . دعاني أحد الرفاق مع صاحب الزهور لمناولة الطعام عنده، فأجبت الدعوة. وقضينا ساعات رائقة بين أكل مريء
وشرب هنيء وحديث عذب. وكان لصاحبي ولد يذهب ويجيء بيننا فرحاً مرحاً. ويعرض علي الألعاب التي أهديت إليه في العيد وهو معجب خصوصاً بلعبةٍ تدور بلولب خاص وتسير كأنها القطار البخاري. فقلت للولد على سبيل المداعبة:
أي متى يحملك الإعجاب بحركتها الخفية على كسرها؟
فالتفتت إلي الوالدة وقالت:
بالله عليك يا حاصد هلا سألته أي متى يحمله الدرس والاجتهاد على اختراع مثلها؟
وقف الولد عن كل حركة وحدق عينيه الجميلتين في عيني أمه كأنه يحاول أن يرى في تلك المرآة الصافية معنى ذلك القول الذي لم يدرك كنهه عقله الصغير وقال بكل سذاجه: الحق معكِ يا أماه. . .
قبلت الولد وانحنيت إجلالاً أمام تلك الأم الفاضلة. وقد ذكرني كلامها ما قاله قائد ألماني في خطبة كان قد ألقاها منذ أيام وجيزة: يا قوم أنتم في هذه المواسم تبحثون عما تهدونه إلى أولادكم، لا تفتشوا طويلاً، اهدوا إليهم سيوفاً وبنادق لتتربى فيهم روح الشجاعة والبسالة فينشأوا أشداء أقوياء. بل رأيت كلام هذه الأم الفاضلة أعقل واسمى من كلام القائد. ولما تركنا المنزل قال لي صاحب الزهور: عسى أن يكون وياشد ما تكون دهشة هذه الأم عندما ترى كلامها مدوناً في هذه الصفحة.
صلاة الحصان
للغربيين عطفٌ على الحيوانات يفوق عطفنا على إخواننا بني الإنسان. وقد ألفوا الجمعيات الكثيرة للرفق بالحيوان وانفقوا في هذا السبيل الأموال الطائلة لتخفيف أوجاع الحيوان غير الناطق. وقد ابتدعت إحدى هذه الجمعيات في الولايات المتحدة طريقة لطيفة للوصول إلى
هذه الغاية. فألفت صلاة دعتها صلاة الحصان وطبعت منها الملايين من النسخ وعلقتها في الشوارع والمحلات العمومية. وإليك نصها كما قرأتها في جرائد تلك البلاد:
بخضوع أرفع إليك صلاتي يا معلمي اطعمني وارو ظمأي. وبعد العمل والتعب امنحني فرصة للراحة في الإسطبل الخاص. بلغني أوامرك بالكلام لأن صوتك أفعل بي من اللجام والسوط. علمني وعودني العمل بتمام إرادتي. لا تضربني عند الركوب ولا تجذبني بسير اللجام عند النزول. وإذا أنا لم أفهم حالاً لا تسرع وتقبض على السوط بل أنظر جيداً إلى اللجام لعله يجرحني وإلى الحديدة التي في رجلي لعلها تؤلمني. وإذا رأيتني أعلك حديده اللجام انظر إلى أسناني. لا تقطع ذنبي لأنه سلاحي الوحيد، أُحارب به الذباب المحيط بي. يا معلمي العزيز إذا جعلني كبر سني ضعيفاً وعاجزاً فلا تحكم علي بالموت جوعاً، بل أحكم علي بالإعدام ذبحاً تخفيفاً لعذابي. وفي الختام سامحني لأجل هفواتي، وأقبل هذه الصلاة التي أرفعها إلى مقامك السامي بكل تقوى، آملا أن تحوز قبولاً. فأنني مولود حساس مثلك أستحق الشفقة والرحمة. آمين حاصد