الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسائل غرام
بين نساء شهيرات ورجال عظام
الرسالة الرابعة
من مدام ركاميه إلى السير رالف انزورث
(في القرن الثامن عشر ولدت فرنسا للعالم نبوليون ابن المريخ ومدام ركاميه ابنة الزهرة. فأخضع الأول العالم بسيفه وأخضعته الثانية بجمالها. واشتد النضال بين الاثنين. فبينما كان العالم يركع عند قدمي باريس كانت باريس تركع عند قدمي مدام ركاميه. وأراد ذلك الجبار أن يتزوجها فرفضته لأن مفتاح قلبها كان بيد شاب من أشراف الإنكليز.
ولم يكن نبوليون الرجل الوحيد الذي رفضته. فقد ذكر التاريخ من الذين تزاحموا عليها عدداً غير قليل منهم البرنس أوغسطوس البروسياني والدوق ولنتون الإنكليزي وغرندوق آخر عظيم وجمهور من الحكام والأشراف والعظماء ورجال السيف والقلم. فكانت ترفض الجميع على حد سواء لأنها وهبت قلبها للشاب المذكور وقد كان سابقاً رئيس جمعية تألفت يومئذ من أشراف الإنكليز لإنقاذ الأشراف الفرنسويين من مخالب الثورة الفرنسوية.
ولكن موانع حالت دون اقترانها بحبيبها فاقترنت بغيره مكرهة. وكان زواجها هذا ارتباطاً اسمياً فقط. ثم مات حبيبها بعيداً عنها ومات بعده زوجها أيضاً. وقيل أن نبوليون سبب موت زوجها انتقاماً منها. على أن باريس كانت تفديها من غضب نبوليون ولهذا لم يستطع أن ينالها بأذى. وبعد سنين قليلة نشأت مودة عظيمة بينها وبين شاتوبريان الكاتب الإفرنسي الشهير فزعم الناس أنها ستقترن به ولكن قلبها كان لا يزال متعلقاً بذكرى حبيبها القديم. وقد بقيت أربعاً وثلاثين سنة وعالم الجمال خاضع لسلطتها. وفي أثناء مرضها كتبت الرسالة الآتية إلا السر انزورث ولكنها لم تستطع إكمالها فختمتها صديقتها مدام ستايل الكاتبة الإفرنسية
الشهيرة وكانت من أعز صاحباتها. ولمدام ركاميه صورة شهيرة في أحد متاحف باريس الكبرى)
ملاكي الحارس:
جلست الآن إلى نافذتي أراقب الأفق وأنظر إلى الغيوم القطنية تنعكس عنها أشعة الشمس الحمراء. وقد هاج مرآها في نفسي عواطف وتذكارات رجعت بي إلى أيامنا السالفة فأخذت
القلم لأكتب إليك هذه السطور مع أن الطبيب قد نهاني عن الكتابة والمطالعة وأمرني بالتزام الراحة والسكون. ولكنني أشعر بشوق إلى مخاطبتك ولو عن بعد وأريد أن أبث إليك ما أبقته الأيام من آثار ذلك الحب القديم.
لست أعلم أين أنت يا رالف فقد طال عهد فراقتنا حتى صرت أرى أيامنا الماضية أشبه بغمامة صيف لاحت قليلاً ثم تلاشت في الفضاء. يقولون لي إنك الآن في الهند حيث تتمتع بهواء أجف من هوائنا فإن الفصل عندنا الخريف ومرأى الأغصان المجردة يثير في النفس لواعج محزنة. ولو كنت هنا لأحزنك مشهد الأشجار العارية والحقول المقفرة فإن زقزقة العصفورة قد انقطعت وهديل الحمام قد بطل ولم يبق إلا خرير الماء يملأ الوادي كأنه أنة عاشق منكسر القلب.
وقد أذكرتني هذه الشمس الزائلة وقفتنا الأخيرة عند الغروب يوم أتيت لتعيد إلي رسائلي وتأخذ رسائلك لأن أهلك وقفوا يومئذ بيننا وحالوا دون تحقيق أحلامنا السعيدة.
في ذمة الله تلك الأيام الماضية! في ذمة الله أحلام غرام لم يبق
منها إلا ذكرى تتضاءل بمرور الأيام. أيعود الماضي فيبعث لنا من أكفانه أماني دفناها فيه؟ أيعود فيحيي لنا آمالاً كانت تظللنا بأجنحتها الذهبية؟ هوذا الآن قد انطوت تلك الأجنحة واستراح الرقباء الذين لم يكونوا يغمضون عنا أجفانهم حتى بلغوا من أمانيهم أن فرقوا بيننا فلا يعلم أحدنا بمقر الآخر.
بل إن مقرك في فؤادي يا رالف. وإنما فقدت فؤادي ففقدتك معه. وقد كنت أظللك بأجنحة الحب وأرسل عليك أشعة الحب وأسمعك أناشيد الحب فلم يبق اليوم من تلك الأجنحة إلا سحابة زائلة ومن تلك الأشعة إلا نور ضئيل ومن تلك الأناشيد إلا خفوق قلب منكسر.
قضيت أشهر الصيف متقلبة على سرير المرض. وأنا الآن في طور النقه. يقولون لي إنني كنت أردد اسمك في ساعات غيبوبتي وأذكر أيامنا الماضية. أما أنا فلا أتذكر من ذلك سوى أنني كنت كلما سمعت صوتاً بباب غرفتي ألتفت لأرى هل أنت الداخل أم غيرك.
كنت في أثناء مرضي أتعزى بفكر غريب. كنت أعلل نفسي بالموت وأتمنى أن أنتقل إلى عالم الأرواح لكي تحلق روحي في فضاء الأبدية فترفرف حولك وترقبك من علوها الشاهق. ولكن فكراً آخر كان يروعني فقد كنت أخشى أن يزيد موتي في حزنك فلا تعود
ترى لذة في الحياة. ولكن من يعلم؟ لعل حبي لك غير حبك لي يا رالف. أنا أعلم أنك تفضلني في كل شيء. فأنت أشرف مني أصلاً وأغنى ثروة وأجمل طلعة وأوسع جاهاً وأكثر ذكاء. أنت تفوقني في كل شيء. ولكن
هنالك شيئاً واحداً أفوقك فيه وهو الحب. حبي لك مستمد من حب الملائكة فهو أنقى من ندى الصباح وأرق من خطرات النسيم وأرسخ من راسيات الجبال وأطول من مدى الخلود وأبعد من حدود الأبدية. حبي لك يريني للحياة معنى جديداً فيصورها ربيعاً مستمراً. ولكنه يخيفني من الخلود لأن الخلود قصير المدى في نظر العاشقين.
أجل يا رالف. كثيراً ما تمر بي دقائق تزيد في شقائي فاندم لأنني رضيت بالبعد عنك وأتمنى لو أبيت مفارقتك على رغم معارضة أهلك. ولكنني أعود فأتعزى بهذا الفكر وهو أنني فعلت ذلك لكي أكفيك مؤونة الخلاف مع أهلك لأنني أكره أن أكون السبب في ذلك.
أنا أميل اليوم إلى الوحدة وأجد فيها تسلية كبيرة لأنني أستطيع بها أن أتفرغ للتفكر فيك. هل تذكر كم كنت محبة للهو والمرح؟ وأما اليوم فإنني أحب العزلة لأنني أجد في هدوء الطبيعة عظة أبلغ من النطق، وأسمع من خلال سكوتها أناشيد هلاس ذات القيثارة الذهبية فأتصورني مترامية بين ذراعيك أحدق النظر فيك وأسر إليك نغمات الغرام.
لعلي أطلت هذه الرسالة عليك. ولكن قلبي مفعم بتذكارات تهيج في نفسي لواعج حزن وسرور وأنا أريد أن أبثك ما أستطيع من مكنونات الفؤاد إذ من يدري هل أعود فأجد فرصة كهذه لمناجاتك أيها الحبيب؟ ولكن الظلام قد أحدق فسأبقي هذه الرسالة إلى الغد.
إلى الغد. . .
. . . . . .